الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جبل .. النص الأزلي

جبل .. النص الأزلي
22 يناير 2014 21:26
من هشاشة الرمل، من تربة عجفاء ناشفة تتعكز على حصى الصبر وتمضي في الفراغات المذهلة، كأنك الفراشة التائهة، ضائعاً في أتون الزمن المحتقن بالتواريخ المضرَّجة، تمضي كأنك في العزلة بوذي صام الدهر ولا صلى، وابتلى بالورطة المدهشة خائباً أو صاباً، ذائباً أو شارباً من نيرفانا تأمله، محتدماً في ذهوله أو عذوله، منسجماً أو متحزماً برباط الجأش وإرادة القوة. كأنك نيتشة العظيم في براءة صيرورته، تعبث بأشجار الغاف كلما طافت على صفحات وجدك، لعنة العدم، وتقول لسارتر: «الآخرون هم الجحيم، لكننا لا نستطيع أن نعيش بدونهم». ويحك أيها الصبور، فالمحنة الأبدية منذ سقوط التفاحة، منذ الغواية الأولى حتى وشاية يوسف وانعدام الماء من بئر الحياة. جبل الرأس جبل .. هنا أنت تسكن في القلب أم في الرأس أم في خيال امرأة تدحرجت تحت جلدها رغبة الذروة القصوى حتى شاخ الفكر ولم يعد في الإمكان أحسن مما كان لأن الذكورة محاصرة ما بين الأنا والأنا الآخر، مصفودة بأهواء وأنواء وأدواء، فالأشياء في عينيها تبدو كأنها عصا في قاع ماء منحنية في العين، مستقيمة في واقع الأمر. جبل .. هذا سنامك الصخري، على صلابته، تزرق حمامه، وتطير يتبعها هديل أو عويل، وربما شيء من هذا وذاك، لأن الألوان على صهوتك، قد لا تبدو كما هي لأنك لست كما أنت، أنت في الأصل بركان من الباطن فارتد وتداً، أشبه بنمالة الشعير اليابس، تنقر حباتك، هائمات الأرض، وما ضاع في طريق التيه.. جبل .. كحلم .. كَحلَمَه، ذبلت شحمتها بعد هجران طويل، استمالت كالعرجون أو شيء من هذا اللاشيء، حين تجف الأسئلة وتبدو الأشياء بلا معنى، تبدو أنت النهر المرتجف، من طمي يثير حفيظة الحصى، وبقايا أوراق تالفة علقت بين شفتي مراحلك البائدة، تبدو أنت الحقيقة تحت ملاءة الزمن أشبه بأحفورة باعت ملامحها للشيطان ولم يبق سوى، التصريح الأخير عن موت سرير، مؤسف، تبدو أنت في المشهد كأنك الطائر الذي افترسته الفريسة، فضاعت الهيمنة في غياهب الإرث القديم، تبدو أنت مثل كائن أسطوري لا وجود له إلا في خيال المشعوذين، تحاول أن تحلق أو تحدق أو تطوق الأشياء من حولك بلا جدوى وبلا معنى.. تغرس أحجارك أقداماً واهنة في التراب، يغزوك اليباب، كمراهق صغير تفكر في الرغبة سراً، تمارس ما تشاء سراً، وعندما تحملق الشمس في عينيك، تغطس أنت بين كفيك، تغوص، في العيب حتى أطناب التاريخ، تحاول أن تستدعي وعيك تحاول أن تكتب رسالة شفوية لمن يهمه الأمر فلا جدوى لأن رسائلك النصية مبتورة، أو مبثورة، تنكفئ تغسل يديك بالغبار، تتطهر من رعشة فائقة، تبسمل تحمدل، لكن شيطان التاريخ أكبر، والورم بات ينخر العظم واللحم، ولم يعد بالإمكان إشفاء ما سرى، وانتشر، لم يعد بيديك سوى خاتم سليمان وهو أقدم من التاريخ وأنكأ من الفكرة المبيتة، وكما قال صاحبنا فولتير، الأفكار المسبقة مفسدة للعقل. جبل .. تصمد أو لا تصمد، فذلك لا يعني أن النهار لبس ثياب الفصاحة وانبرى كاتباً فطحلاً يرتب أشياءه الصغيرة والتفاصيل من معطف القلب، أو في حقيبة التاريخ، ويمضي كفارس بني عبس، بالضربة الواحدة يفتك بألق، والتاريخ كذب كثيراً وافترى حتى بدت الجبال مجرد رمل هش، لا يقوى على نسمة الريح، لا يقوى على عواء ذئب يأتي من قارة أخرى. جبل .. هذا النسق الأحمق كم طوى ثيابنا بالمقلوب وألبسنا ريش النعام كذبا وحفر في الذاكرة هيروغليفية مقززة، كم طار بالفكرة مزخرفاً بألوان الطيف، وبعد حين من خدعة بصرية تخب النوق، وتهوى في قاع صفصفا، والأبابيل تقذف الأبابيل وسراويل النساء، علامات نصر محفزة وبعض مواويل شاخت على ألسنة الرعاة، حين امتد المدى على غير إبصار، وتجيء الأخبار أن عنترة مثل شيبوب، وأن عبلة ليست إلا دمية في غرفة صغار لاهين، بما يعبثون ويخربشون. جبل .. عند مطلع النهار تبدو الأسرار كالغبار، تدنف من نوافذ خربة وتغير لون سجادة المكان، نتلون كما أنك تبدو ككهل عضه الزمن، بحد سيف مهند، والروماتيزم علامة الشيخوخة. جبل .. في ليلك، اللآلئ كطائرات ورقية تذهب في البعيد، ثم تختفي.. تختفي أنت كما تختفي المشاعر في قلب امرأة مغدورة. تصوم أنت ولا تصوم الطيور الجارحة تبحث عن فريسة في عتمة التخيل. تبحث عنك. تبحث عن وجدان ينفض عن كاهله أسباب الرجفة في اللحظة المباغتة، تبحث عن حملان لا تقبل الهزيمة .. كيف .. أسئلة تطلقها العيون الناعسة، إن أغمضت وتحت الجفون ينام فارس، يمتطي صهوة حصان لا أسود ولا أبيض، هو ما بين بين، لكنه يحدق بشراسة، فيما بين النهرين، ويعالج لواعجه بشفافية الفرسان حين يقبضون على جمرة الهوى، ثم يضعون الشارب على مخمل التوجس ويمضون في الشهيق حتى آخر قطرة من عدم، حتى نهاية العالم، وبلوغ الاحتمال الأخير. جبل ..بماذا يحلم، النسر الواقف عند القمة؟ بماذا يهرش جلده وهو يغط في يقظة عارمة، بماذا يفرك ريشه المنفوش، كطبق طائر، ثم ماذا تعني كل هذه الحملقة، والجبل خاوٍ من طعام الجوارح، سوى بقايا جيف، وبذور ناتئة عند شقوق الصخور الملتهبة بحرقة الظمأ. جبل .. وحدك، الواقف وحيداً، تطل من خلال نافذة الفضاء وتغني للماشين حفاة، أو رعاة، تمشط شعر الغاف بأسنان كالمشط وتدهن الفروع، بعرق الكادحين، ترتل آيات الصبر، مراراً وتكراراً كأنك الداعية في ساعة الشغف، كأنك النخلة المتداعية في لحظة اللهف، وتسرد الحكاية في نشيد أممي، ما دار على لسان بشر ولا شجر، تقول يا سادة .. أنا الجبل، أنا السهل والأمل، أنا الرسالة المغلفة منذ الأمد، وفي المدى تمتد صيحة الطير، يا إلهي كم هو ذا شاهق وباهق، يمضي خطاه باتجاه النجوم، ويمد صخرة مترهلة، لا تشي بشيء سوى أنها تبدو كلسان متجمد في صحراء ملتهبة .. تعجب النخلة، كيف يمكن للماء أن يزف الحانة ويمد خيوطه الحريرية، والأرض لا عيون؟! كيف يمكن للجبل أن يلمس شفاة النجوم، والصخرة تتهاوى في كل صباح بفعل الرياح العاتية؟!، كيف يمكن لنخلة أن ترتوي والجبل تصالح مع الهزيمة التاريخية وانبرى، تيساً بلا قرنين؟!. جبل .. ما الحب إلا للحبيب الأول، و(الزمان ترلل)، ولا يحصد العاشقون سوى أعقاب سجائر تالفة، ورماد ودخان، وأحلام تقتعد كرسي اليقظة، وتمضي في رسم خارطة طريق، مفعمة بالسخرية.. جبل .. وهم أن أصدق أنك جبل، والأكثر جهالة أن لا أمارس التسلق بين أحجارك المبهرة، وأن لا أصل إلى القمة لأرى عالمي، وعيون الأرض، ترقب شهامتي وأنا أبعث مع النسيم رسائل حب للإنسانية، وأغض الطرف عن شهوة التخلف، وما بدا من دمل أيقظ الأمل ونادى في الظلمات كي أصحو، وأصرخ. رحلة في البصر جبل .. رحلة في البصر، بعد غيبوبة شاحت بالهوى حتى يبس الجذر واصفر وجه القمر، ونامت على السفح، أمنيات مؤجلة كنت أنت سيدي المقال والسؤال والموال، كنت أنت الأحوال والأهوال، كنت أنت النسيج الذي منه جاءت أغنيات البدو ساعة الظفر، أو السفر، كنت أنت المنطقة الوسطى ما بين الشريان والإمكان، كنت أنت سفر التكوين ما بين الماء واليابسة، وأنت النص الأزلي الذي لم تلمسه يد غابش، أو راعش، كنت أنت سيدي المسافة الموصولة ما بين النقطة والفاصلة، وما بين أضلاع العاشق المسترسلة كنت أنت في المقام والدوام نخلة أغصانها من سعف الشوق، والتوق، وكنت أنت النهر المتدفق صلابة .. هذه حكاية منسوخة من مخطوط حفرت في قلب الجبل، سطرت من بلل الندى ومن رضاب عاشقات مررن من هنا، من شقوق في القلب،لم يزل رسم الشفاه، عالقاً في المقلتين متعلقاً بأشجار الروح، وعندما ينشد الجبل، فلا بد من قصيدة تعلق على جدران الهوى، لا بد من تفسير لغامض الأيام، لا بد من تأويل للترتيل، فللجبل قراءات عدة، وقد نقرأه أو لا نقرأه، لكن لا بد لنا من الغناء، ورفع النشيد عالياً حتى ترتوي أشجار الغاف، ويبتسم النسر المعلق في الهواء ويبدو السفح سجادة مخملها عشب الملاءات المرتعشة .. جبل يقول «إننا نحضن كل شيء ولا نملك إلا الهواء» .. جبل .. الحب قامة متدرجة من عشب وخصب وصخب ومن سرٍ سويٍ ملتهب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©