الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عمر الخطيب.. فارس اللغة

عمر الخطيب.. فارس اللغة
3 فبراير 2010 22:35
في الثالث من يناير 1971، كان موعدي مع السيد عمر الخطيب الذي يشغل منصب المدير العام للإذاعة والتلفزيون لإمارة أبوظبي. ولم يكن في ذلك الوقت قد حصل على الدكتوراه بعد. كان الموعد في مبنى التلفزيون، واسم مبنى التلفزيون هو اسم مجازي فالمحطة لم تكن تشغل إلا دوراً واحداً من المبنى الذي يملكه سمو الشيخ سرور بن محمد في شارع حمدان. في ذلك الدور تحولت الشقق إلى استوديو وبعض المكاتب وغرفة للمونتاج وغرفة أخرى لتحميض الأفلام، فلم نكن قد وصلنا بعد إلى التصوير عن طريق الفيديو، وتحميض الأفلام كان عملية مرهقة وتسبب الأذى للفنيين العاملين فيها لقوة نفاذ الأبخرة المستخدمة في عملية التحميض. أذكر أن أحد العاملين في التحميض دفع حياته متضرراً من هذه العملية ولكن بعد عدة سنوات، حيث حاول الأخ عبد الله النويس عندما أصبح وكيلاً لوزارة الإعلام أن يعالجه على حسابه الخاص وطلب مني شخصياً الاتصال بالدكتور مجدي يعقوب وسؤاله عن إمكانية زراعة رئة بدلاً من الرئتين اللتين تدمرتا بسبب تلك المواد، ولكن لم يكن الطب قد وصل إلى مثل هذه المرحلة وفي النهاية سقط ذلك الفني شهيد الواجب. اللقاء الأول لم يستغرق اللقاء أكثر من خمس عشرة دقيقة، تحدثنا فيها عن تجربتي الإعلامية السابقة وبرامجي التي قدمتها في إذاعة صوت العرب وصوت فلسطين وإذاعة دمشق. ولم أشعر خلال ذلك الحديث أن عمر الخطيب يمتحنني أو يسأل أسئلة تهدف إلى معرفة قدراتي أو إمكاناتي الإعلامية بل كان لقاءً ودياً مثيراً، حدثني فيه هو عن حياته وتجربته، وكان كعادته مرحاً وحيوياً وكأنه يقدم أحد برامجه المثيرة. في نهاية اللقاء، سجل عمر الخطيب على طلب العمل الذي قدمته هذه الجملة: “قابلت السيد خليل عيلبوني، فوجدته متعدد جوانب المعرفة وأوصي بتعيينه مراقباً للبرامج والأركان الخاصة”. وقد استطعت الحصول على نسخة من هذا الطلب وما كتبه المرحوم عمر الخطيب عليه، وظلت هذه النسخة محفوظة لدي كأهم شهادة أعتز بها وتأتي من إعلامي كبير كالدكتور عمر الخطيب رحمه الله. فتحت لي شهادة المرحوم عمر الخطيب باب العمل في الإذاعة وساعدتني كثيراً في اللقاء الذي تم فيما بعد مع الأستاذ راشد عبد الله النعيمي الذي كان قد التحق حديثاً بدائرة الإعلام كوكيل لها بعد أن ترك دائرة البترول التي عمل بها كمهندس للبترول. لم يكن الدكتور عمر الخطيب مجرد مدير عام للإذاعة والتلفزيون بل كان هو نفسه مذيعاً من الدرجة الأولى وخاصة في المناسبات التي تحتاج إلى البث المباشر والتغطية الصوتية. عندما أصغيت له وهو ينقل الاحتفال بالعيد الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة في التلفزيون شعرت أنني أمام أستاذ في اللغة العربية، يرتجلها بطلاقة ومن دون أي لحن، أي من دون أي خطأ في قواعدها. وهو لا يشعرك عندما يرتجل أنه يتصنع ويستحضر جملاً مكررة، بل يجعلك تقتنع أن ذلك الرجل يعرف ما يقول وأن لديه قضية. وأعتقد أن ميزة الارتجال هذه لا تتوافر في معظم المذيعين هذه الأيام، بل تشعر وأنت تصغي إليهم يرتجلون أن اللغة مسيطرة عليهم وليس هم المسيطرون عليها، ناهيك عن الأخطاء النحوية الصارخة التي يقعون فيها. سألته في إحدى الجلسات، كيف تمكنت من اللغة ومن الارتجال بهذا الشكل؟ أجاب رحمه الله: قد تتفاجأ أنني لم أدرس اللغة العربية وأن دراساتي كانت مركزة على اللغة الإنجليزية وليس في الدول العربية بل في بريطانيا وأميركا، ولكنني عندما عايشت بعض المذيعين الأجانب المبدعين في الارتجال وجدت أن اللغة التي يرتجلون بها هي اللغة التي يستعملونها في حياتهم اليومية، ليس لديهم لغتان مثلنا، لغة للإذاعة ولغة للحياة، ولذلك قررت بإصرار أن تكون لدي لغة واحدة هي الفصحى، لغة القرآن. وكان لابد لي من إتقان قواعدها ثم التدرب على القراءة من دون تشكيل حتى أصبحت لي في النهاية لغة واحدة أتكلمها في البيت، في الشارع، في المكتب، يحدثني الآخرون بلهجتهم المحلية وأرد عليهم بالفصحى، وهكذا تمكنت من اللغة وصار سهلاً علي الارتجال بها وتوطدت بيني وبين اللغة العربية علاقة الحب، أنا أحب هذه اللغة. برامج المسابقات ولقد ظهرت قوة الدكتور عمر الخطيب عندما بدأ يقدم برامجه التي اشتهر بها وهي برامج المسابقات التي قدمها من قطر أولاً ثم من خلال محطة MBC فهو في تلك البرامج المثيرة، لم يكن مجرد مذيع عادي يطرح الأسئلة ويحكم بصحة الجواب أو خطئه ولكنه كان فيها خطيباً مدركاً لأبعاد الأسئلة التي يطرحها ولديه غنى في الإجابة التي لا تعتمد على نعم أو لا، بل على معلومات مختزنة وتدل على ثقافة شاملة. كان إتقانه للغة الإنجليزية كذلك لافتاً للنظر فهو يتكلمها بطلاقة وجزالة تذكرك بشكسبير أو برنارد شو. عاش معنا الدكتور عمر الخطيب في زمن البدايات وكان له دور فاعل ومؤثر في إنشاء الإذاعة والتلفزيون. آخر لقاء بيني وبينه، كان عندما استدعى المسؤولون عن الإعلام في أبوظبي، جميع أولئك الرواد الذين كانوا في زمن البدايات لتكريمهم في احتفال لا ينسى، ترك في نفوسنا جميعا أثراً جميلاً وأدركنا خلاله أن الوفاء صفة أهل الإمارات الذين لا ينسون الجميل ويقدرون جميع من قدم لهذه الدولة من جهده وفكره وإبداعه. جئنا من كل حدب وصوب واجتمعنا في المدينة التي احتضنتنا في ذلك الزمن الجميل، مدينة أبوظبي. جميل أن يكرم الإنسان في حياته لا كما يفعل العرب عادة حيث لا يتذكرون من يكرمونه إلا بعد أن يموت وبعد أن يكون قد ردد ذلك المقطع الشعري المشهور: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر. وهذه ظاهرة حضارية في دولة الإمارات غير مسبوقة عربياً. عندما التقيت يومها بالدكتور عمر الخطيب، وجدت خطوط الكبر قد توضحت في وجهه الجميل، وصوته المميز. وأذكر أنني عانقته بحرارة عندما ودعته وكأنني أودعه الوداع الأخير: ـ حاول أن تزورني في المغرب، قال: المغرب بلد جميل فعلاً وسأزورك إن شاء الله. ولكن الله لم يشأ، ومضى الدكتور عمر الخطيب ليلاقي ربه، بعد أن شنف آذاننا بصوته المثقف وتعلمنا على يديه، ماذا يعني الصوت المثقف وماذا يعني صوت الببغاء. وأدرك جميع من تعرفوا على الرجل وعملوا معه أو في ظل إدارته أنه لا يكفي أن تكون ذا صوت رخيم، أو إذاعياً كما يقولون، ولا ذا شكل جميل (فوتوجنيك) كما اصطلح عليه مخرجو التلفزيون لتكون مذيعاً ناجحاً، بل لا بد أن تملك مع الصوت والشكل الثقافة الكافية لتجعلك مؤهلاً أن تدخل البيوت وأن تكون مثلاً يحتذى به. كان الدكتور عمر الخطيب في زمن البدايات الجميل وسيظل على الرغم من رحيله في ذاكرة أبناء هذا الوطن الوفي. لم يدرس اللغة العربية بل الإنجليزية فتعلّم من المذيعين الأجانب أن تكون له لغة واحدة يتواصل بها مع الناس هي اللغة الفصحى أدرك جميع من عملوا في ظل إدارته أنه لا يكفي أن تكون ذا صوت رخيم ولا ذا شكل جميل لتكون مذيعاً ناجحاً بل لا بد أن تملك الثقافة الكافية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©