الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كونشرتو الكتابة الخضراء

كونشرتو الكتابة الخضراء
22 يناير 2014 21:27
«ماذا أفعل لكي تكون قصتي بحيرة مستديرة ليس لها مدخل ولا مخرج، لها فقط سطح خارجي بارز، ولكنه حي متحرك مترقرق، وتحته أعماق بعيدة الغور تسكنها حيتان وجواهر وجنيات؟» أحمد بوزفور تلك هي التمتمة الخضراء التي تتمثّلُ قصصُ «نافذة على الدّاخل» روحها الشّعواء وتوقظ شكلها بأصابع نحّات مخضرم في حجر الصّمت الباذخ. وذلك هو الدّرس القصصي الذي تهسهس به أعشاب التقويم الغريغوري لهندسة الكتاب ذي الأعمدة الاثني عشر. «نافذة على الداخل» هي بالفعل تطل على أغوار الأشياء الرابضة في قعر الداخل. وهذا لا يعني أنها تشيح بوجهها عن الحياة المعتملة في الخارج، وإن يكاد هذا الخارج يتجسد شبحا، شبه ملغي، لكنه كامن في الداخل الذي يمتصّه كجذور جوفيّة شائكة. هذا الداخل المكتظ كـ «ساحة من ساحة المحشر» (ص74 ) يتشكل عمقاً مريباً، بممرات ودهاليز ومغارات وطرق غائرة في المنطقة المتخثرة، المقعّرة للذات / المنشطرة. تماما هي انشطارات يطفو أزيزها إلى السطح عبر التماعات وبروق وهسيس وإشراقات وصور وتموّجات. النّظر إلى الدّاخل الدّاغل، غوص تحت قشرة المياه الرّاكدة، يمتدّ كسفر جوّاني مضاعف صوب القطع الزّمردية الرّاسبة في القاع المظلم. القاع المتكدّس والمصطخب والمتغوّل. هو قاع الذاكرة أيضا المفخّخ في الكتيّب القصصي، يتبطّن النسيج الحكائي كقبو سفينة غارقة في ظلمات المحيط، ومنه تبرق التماعات كنز مفقود. فالالتماعات هنا أثمن من الكنز الذي تدلّ عليه وتحيل على مكانه، لأنها تتمثّله بزخم عبر إيحاءات ذات بلاغة جارحة. وهي التماعات تتواشج في المحصّلة راسمة اللوحة المركبة التي تبدو في ظاهرها مبعثرة ومتشظّية. الكتابة الماكرة تعتمد المجموعة ترتيبا دقيقا ومحكما في ترصيف هارمونيّ لقصصها الاثنتي عشرة. بدءا بقصّة المكتبة وانتهاء بقصة الكهف. وبين القصتين / الحدّين تمتد النصوص : شخصيات خاصة جدا – التعب – الوحشة – الحزن – البكاء – الحب – الفرح – الصمت – الظل – الشك . البداية الفعلية لمجموعة «نافذة على الداخل» تنطلق من القصة الثالثة الموسومة بـ(التعب). تلك التي تستهل حكيها بـ «عيناها خضراوان»، وهي العبارة الزمردية التي تفاجئنا في آخر قصة الكهف الأخيرة، تماما في الجملة النهائية التي تمهر ذيل الكتاب: «عيناها خضراوان». قصة المكتبة وفق هذا الترتيب الماكر تبدو مثل توطئة، مقدمة، عن كتاب غريب، سحري يتغير مع كل صباح عنوانه المكتبة (كأنه يحكي قصة السندباد!)، كلما تمت قراءته تبدّل، فتارة يتحدث عن قصص الأنبياء وتارة عن سيرة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. ولأنه كتاب لا يقرأ مرتين كالموت هرب منه السارد وسجنه في صندوق خشبي، والأمر أشبه ما يكون بكتاب الرمل الذي تخلص منه بطل بورخيس في دهليز المكتبة اللولبي. فلمّا انصرم زمن ورجع إلى الكتاب (الأمر يتعلق هنا ببطل بوزفور)، بعد أن صادف التلميذة التي عشقها في الثانوية، وكانت السبب وراء طرده من المؤسسة حينما رفض أن يتاجروا بجسدها في مكتبة الثانوية، المكتبة التي كان يتردد عليها بضراوة ليلتهم الكتب. يفاجئه أنّ الكتاب الذي أهمله في الصندوق الخشبي يتحدث مجددا عن سيرة أبي جعفر المنصور، ووجدها مذيلة بنفس النهاية: «كلكم طالب صيد/ حتى عمرو بن عبيد». هنا يحاول السارد أن يتقصّد مكرا لاذعا، لأن قصة المكتبة تبدأ بما قاله أبو جعفر المنصور حقا حول المعتزلي الزاهد عمرو بن عبيد، أي: «كلكم طالب صيد / غير عمرو بن عبيد»؛ فعمرو بن عبيد الذي يجسده السارد نفسه في القصة، كان زاهدا في العمولات والسلطة، بمنأى عن السقوط في فخ المحافظ الذي يتاجر بتلميذات الثانوية و«يوزعهن على أسياده المتصابين في العمالة والبلدية والمحكمة والكوميسارية والشركات». (ص7) فالنهاية التي صار فيها عمرو هو نفسه ككل طالب صيد، تكشف بسخرية لائبة أن السارد نفسه كان يرتاد المكتبة من أجل الفتاة التي كان يعشقها. بقراءة قصص «نافذة على الداخل»، يتعزّز اكتشاف الكتاب الغريب الذي تتضمنه قصة المكتبة في أول قصص المجموعة. فالمجموعة نفسها كتاب يتحدث (هل قلت يتحدث عن قصة السندباد؟) مبعثرة في حالات، والكتاب لا يقرأ مرتين ... كالموت، لأنه في كل تجربة قراءة يطلع القارئ على شيء جديد بالفعل. لأن القصص تخفي أكثر مما تعلن، وتضمر أكثر مما تكشف، مقطرة من إنبيق ساحر، ذات تكثيف مشفّر، مشيّدة على هاويات بلا قرار، ترتكن بسطوحها الغادرة إلى دوامات خفيّة. فتارة يبدو كتابا حول ذات العينين الخضراوين: زهرة. وتارة يبدو كتابا حول كتابة القصص، وتارة يبدو كتابا حول الماء وتارة يبدو كتابا حول الموسيقى. وتارة حول الصمت. وتارة حول الأحلام. ثم حول زهرة من جديد. يلي قصة المكتبة التي لمّحنا بقوة إلى انتصابها كمقدمة للكتاب، ما يشبه بروفايلا لشخصيات يصفها الكاتب بأنها خاصة جدا وهي على التوالي: سولارو – عسجد وسندس – طفلة الماء – هاب هاب – الدودة – الحصاة – التراب. فتتعاقب الحالات من التعب حتى الشك، فخاتمة الكهف. وبين قصة التعب وقصة الكهف مدار فلكيّ، انطلاقا مما ألمحنا إليه سابقا بعبارة: عيناك خضراوان، ومن خلال هذا المثال أيضا لتكرار محبوك ودال: في قصة التعب التي زعمنا بأنها البداية الفعلية للكتاب، حيث يتوقد اللون الأخضر مع أوّل حب، جعل السارد يصف فتاته بالإلهة الخضراء نقرأ: «أحسّني أهوي بين السماء والأرض خفيفا كالريشة، آملا أن لا أصل إلى الأرض أبدا. أن تتخطفني الطير أو تحملني أجنحة الملائكة، أو تبعثرني الريح أو يبطل قانون الجاذبية » (ص 17، 18) وفي القصة الأخيرة من الكتاب، حيث تحتدم الخضرة بشكل مضاعف، جعل السارد يصف محبوبته بـ «الفرعونة الخضراء» نقرأ: «معلق بين السماء والأرض أنا... ماذا أفعل؟ أهوي إلى الأرض لأنقذ زهرتي كأرفيوس، ولا هادي، فأتهشم، أم أحلق في السماء كإيكاروس، ولا ريش لي، فأحترق؟». (ص 73) وهذا المبنى المداريّ الدّائري والدوّار، بين القصتين، يكاد يتمثّل دائرية قصة المكتبة. وكأن قصة المكتبة هي المتن. وما يتعاقب من قصص في ما بعد هي الحواشي. قصة على قصة تصير القصة أداة للقصة في «نافذة على الداخل»، قصة تطل من نافذة على قصتها. قصة تقص قصتها داخل قصة. قصة تفكر في القصة. قصة ترسم حدودها التي تتألق فيها حريتها. قصة وإن تبدو تنظر بإمعان في داخلها وداخلها فقط فهي في الوقت ذاته تشمل الخارج بعناية غمزتها وإشارتها وعلامتها. قصة ذات عمق يصرّ أن يهبط بك إلى قيعان مريبة، والأمر شبيه بمن يدخلك محارة فتصطدم رؤيتك بشساعة الكون المحجوز في جوفها الضئيل. قصة لا تخجل من رسم ضحكة، وهي تكشف عن سنها المكسور (من فرط أكل السكر). قصة تنفخ في جثة التعب. قصة توقد حطب الوحشة. قصة تفتح الأقفاص وتستل شوك التعاسة من الحزن، فتخلق له ما يليق به من غروب وناي ولون أزرق، وتعطي للماء اسمه الحقيقي: فيرجينيا. قصة تقشر بصلة البكاء. قصة ترفع نصب الحب في خلاء الذاكرة وأنقاضها. قصة تمسح الغبار عن زجاج الفرح فيتشظى، ولا تلتئم شظاياه المتطايرة إلا في اسم «زهرة». قصة تقول الصمت وتسمعه وتراه وتؤول إليه. قصة تتسكع على ثلاث طرق كي تتحد خلف الصحراء بظلها في قبلة. قصة تضع وردة الشك في عروة قميص أورفيوس كي يشهرها في وجه اليقين ويمسي عنكبوتا يصغي إلى موسيقى موزارت. تلك الموسيقى التي تعنكب الأكوان. قصة تؤوب إلى كهفها مكوْبسة في حلم داخل حلم يحلوْلم وحده. قصص تبني نفسها من الداخل، تتنامى بشكل صامت، في اتجاهات لولبية، تحفر وجودها أوّلا في اللغة، وعبر اللغة تشيّد طبقات عموديتها بشكل يخرج بالحكاية من بساطة كمونها إلى شمس تحققها المركّب، عبر تثوير استعاري تصير معه اللغة ولعا أورفيوسيا تدمنه لعبة الكتابة. ما لا تفصح عنه لغة القصص هو زبدة القصص، أي ما يبرع بوزفور في عدم قوله من خلال بتر الكلمات وإثراء النص بجملة من التقطعات الخصبة، فلا يشغل الخطاب إلا ما يتوارى، وما يترسب تحت طبقات اللامصرح هو ما يحرض الذوق على الاستكناه. لغة مضفرة بالصمت الهائل المتخلق عن بلاغة المحذوفات والأثر المنفلت للشيء الذي لم يقل. عن التكثيف السحري الضالع في الإيجاز، واقتصاد الجملة هنا لا يعني تقشفا بالضرورة، لأنها تنضح برؤيا الوجود، تومئ عبر علامات حرى ورموز / نقوش بتفكيك نظام تراثي فني وتاريخي وثقافي واجتماعي ولغوي هائل، تقحم أشكاله في أفق جديد ترسمه القصة لأول مرة، غير مسبوق، يدين لقصة القصة، لداخلها بالأحرى، لا لخارجها. (الرّسم/ الموسيقى/ الشّعر).. أدوات معرفيّة وخلفيات في الوقت نفسه، آليات هندسية متحولة وتقنيات تضمر فلسفة في تدبير القول والشيء، لمصلحة أفق جمالي تتشعب مداراته الإهليليجية. (الحلم/ الصّمت/ الموت).. موضوعات قلقة، أفكار ملتاعة، صور ملتاثة، رؤى جانحة وجامحة، لأفق وجود انشطاري. غير أن علاقة المؤلف بالصمت أشبه ما يكون بعلاقة النحات رودان بالحجر. فالقاص وهو يستغور الصمت، نافضا عنه أشلاء الكلام وقش الضجيج وخردة الثرثرة، إنما يوقظ شكلا نائما في عمق هذا الصمت الرخامي، تماما كما يوقظ أو يحرر النحات روحا أو شكلا سجينا في الحجر، يقول ردوان: «عقدة من الخشب أو كتلة من الرخام تبدوان لي أن شكلا كان سجينا هناك من قبل وعملي يكمن في إزالة جميع الحجر الخشن الذي يخفي تلك الروح عني». وهو ما يضيئه الشاعر ريلكه أكثر في سيرته حول رودان، حين يقول: «كانت هناك أحجار نائمة وكان المرء يشعر بأنها ستفيق في يوم حساب ما، الأحجار التي لم تكن لها علاقة بالموت، والأخرى التي تجسد حركة أو إيماءة وتحتفظ بهذه النضارة التي يبدو أنها محفوظة هنا فقط حتى يحصل عليها طفل يمر بقربها يوما ما كهدية». فيبزغ في النهاية شكل القصة ذاتها، الذي هو شكل أو روح التمثال، ولا يمكن أن نفكر إلا في زهرة بشكل مضاعف أيضا، تقول بلسان القصة: «أنا جميلة جمال حلم من حجر»، البيت البودليري الذي نقشه رودان على قاعدة تمثال امرأة، والحجر هنا هو الصمت. فكأن زهرة هي القصة وكأن القصة هي زهرة. كتابة المفارقة نافذة على الداخل، كتاب مرح، يوقد كبريت الدعابة السوداء في صقيع الهواء الحزين. كتاب مؤسس على المفارقات الغريبة، يسقي نبات سحريته غلسا بندى غسق واقعيته . فالعجائبية واقع مضاعف لا تشعر بثقل سرنمته أو سرنمة لامألوفة، والواقع عجيب مفرط لا تشعر بخشونة مألوفة.مطلب الأناقة القصوى يهاجس القصص، ما يجعلها منحازة بجسارة لضآلة تركب الخطورة التي تتحقق عبر مجزوءات لعبة يمكن أن نبعثرها كمكعبات لهندسة عالم الكتاب من جديد. كتاب محبوك من شظايا تبدو كقطع نرد بين يدي لاعب لا يمكن أن يلعب مرتين. كتاب تقرؤه فتشعر أنك اللاعب نفسه على مصطبة اللعب، تحاول أن تفكك القطع وتخلط فيما بينها من جديد وترميها كيفما اتفق فيفضي بك التئامها كرة أخرى إلى الشكل السحري ذاته الذي ارتضاه له صانعه المريب. قصص موجزة تجافي هرطقة الكلام. معنية بجماليات اقتصاد التعبير. مولعة حد الوله بالصمت الذي تنشده كل إحداثيات الوجود الحكائي في النص. فلا شيء يحدث في هذه القصص اعتباطا. لا شيء مقحم في فسيفساء الكتاب. لا شيء يحدث في القصص قبل أن يحدث في اللغة. ولا شيء يحدث في اللغة إلا لكي يتحقق حدوثه فعلا في القصة. وفي اللغة يرسم المؤلف خطوط اللعب. كل كلمة تعي إحداثيات تخومها (كل كلمة انتخبت مكانها كطائر في هواء الجملة). وكل جملة آهلة بكمائن أفقها (كل جملة نسجت عشها على علو شاهق في حافة النص). اللعب في اللغة يحتكم إليه اللعب السردي واللعب الفني. لعب أنطولوجي يبتكر تناصاته بيد ويذرو غبارها الذهبي بيد ثانية، لعب ينفخ في رغوة النحو، فتتطاير فقاقيع صابون في مهب البلاغة التي تشكها بإبر صنوبرية، فتندلع منها فراشات بمختلف الألوان. أنى حلقت اقشعرت شجرة اللسانيات وأنى حطّت أزهر لها حقل الأسلوبيّة. قصص نافذة على الداخل، ليست هي القصص المكتوبة حقا، بل هي القصص التي ترتكن في المطبخ الخلفي. فالقصص الاثنتا عشرة المعلنة هي دليل إلى قصص أخرى مضمرة. مضمرة بشكل غير مرئي في حقول البياض المشع بسنابله فيما بين الكلمات. فقمح مكدس يندلق في الفجوات التي يفخخ بها المؤلف القصة. هو قمح الأشياء الهاربة التي بدونها لا يمكن للقصة الفعلية أن تتحقق. نافذة على الداخل، كتاب دليل نحو كتاب مفقود، كتاب غريب يزدهر بالحواشي التي تقول هذا الكتاب الموشوم. الحواشي التي تنتصب كحدود مكتفية بذاتها. حدود تستأثر بغواية الإقامة. الإقامة في شاطئ النافذة بالذات. كتاب ضاحك كتاب ضاحك (الضحك الذي لا يعني الفرح) برغم الرماد الذي يتواشج في فضائه. كتاب ينتصب كحقل دائري مغناطيسي بنواة شمسية هي «زهرة » تتوسطه، وحولها نظام من النجوم والكواكب تدور وترقص وتتعالق وتتبادل المواقع كإلكترونات مجنونة ترتعش في دوار فلكي ضمن نسق ذرّي. هذا النظام والنسق من الرؤى والأفكار والصور هو ما يجعل العلاقات تتجاوز الحكاية منخرطة في علاقات أكثر تعقيدا. يكشف عنها القاص فلكيّ الكلمات بحسب تعبير خوليو كورتاثار. كتاب لعبة، تنتصب فيه الكلمات المحسوبة بدقة كمرايا تعكس مرايا، ويرسم إيقاعه الجوانيّ زوبعة لا تكشف عن نفسها، تورط الداخل إليها بنعومة، وكلما نجح في الخروج منها، وجد نفسه داخلا إليها من جديد. لعبة رملية كمسلة فرعونية، تهيم في رقعة خرابها الحلزونية، روح عمودية يشبه القبض عليها الإمساك بالماء. في «نافذة على الداخل» يكتب أحمد بوزفور بلغة مولّهة، ذات زخم مقلم النبات، وصوغ محلّج القطن، فهي نسغ تراثي بالمعنى الذي تحتكم فيه الجملة المسنونة إلى رصانة تتقصد تلغيم النص بجيوب / مراجع بمثابة هوامش تتناسل كحكايات داخل حكايات. وهي ابتكار حداثيّ بالمعنى الذي تتبذّر في تربة معاصرة وتتفتّق عشبا جديدا، معنية بصناعة المفردة المغايرة ونفخ هواء لامألوف فيما بين عشيرة الكلمات. ولا تنسى هذه اللغة المهووسة باللعب في اللغة، اللعب باللغة واللعب مع اللغة، أن ترصع بلاغة تنوعها بالمحكي الدارج، بشكل لاذع تارة وبشكل يستجيب لغنائية التركيب تارة أخرى. تتبذّر نصوص المجموعة أبيات شعرية عمودية، لكل من الأعشى الكبير وقيس بن الملوح والفرزدق والمتنبي وأيضا أبيات معاصرة كبيت محمود درويش. الأبيات في القصص لا تبدو مقحمة، ولا استعراضية، بل تلمع كجروح مفتوحة على الشمس، إنها تتوهّج كظهيرة قائظة في خارطة النص. قصص «نافذة على الداخل» دليل شاهق على أن القصة القصيرة هي الجنس السردي الأمثل لتحقق الشعر. فالشعر يتماهى مع القصة معا يلبسان بعضهما البعض، يتشاكلان ويتجاسدان، فيكشفان معا عن الإيقاع الهارموني للغز الكتاب الموسيقي. أجل، ثمة موسيقى تتكنّه المجموعة، ففضلا عن الموسيقى التي تتخلق عن هسيس المفردات واحتكاك عناقيد الكلام ورجع صدى الأشياء المفتول من قنب الماء - وللماء إيقاع خاص داخل ميازيب الكتاب، ولكل قصة إيقاع يستند إلى تصاريف رياح جوانية ... هناك موسيقى موازية صادرة عن نباتات أبدع مؤلفها في استنباتها بجهات غير معلومة في مسرح الكتاب. وكلها تتقاطع في المحصلة النهائية داخل نهر يندلق نحو الصمت. صانعة بذلك كونشرتو، مبتدؤه ومنتهاه «عيناك خضراوان». الأخضر الذي يشعّ في الكلمات والصور والأشياء والصمت والأعضاء والهواء والماء و... يزحف مثل عشب يزمجر في فجوات الكتاب. الأخضر البداية هو ما يصل إليه السارد أخيرا في النهاية، فيصير الكون طفلا يردد: زهرة. زهرة. ذات العينين الخضراوين. ولزهرة حكاية موشومة في قصص أحمد بوزفور السابقة «العصفور فوق الشجرة ولا شيء في اليدين» وأثرى في «ققنس». زهرة التي ينفض عنها المؤلف أشلاء الداخل المعمد بالأنقاض، فتشرئب من قاع الهاوية، مترفة بندى الصباح، تتحول إلى شجرة ورافة في هجير الظهيرة وتؤول إلى موسيقى مع سدول جناح الليل. (ص 38) زهرة الكرة الخضراء: «أنا كرة خضراء في دمك يا حبيبي لا تموت ولا تبلى حتى تموت أنت، فتتذرر فيك، وتخصب تربتك لتنبت سنابل القمح التي تعشقها». (ص 39) وكأن جسد المؤلف هنا هو القصة ذاتها، وزهرة تشيع كريات خضر في دم الحكاية وتتذرّر في أوصال المعاني وتخصّب أفق السؤال وتهسهس كحقل سنابل في هضاب الرؤيا وشعاب الحلم. وبين رقرقة الحلم والتباس الرؤيا في عزلة الأبدية، يشمخ الصمت ويغمر الماء غابة الأشياء الموحشة. ولا يصعد إلى السطح السامق إلا موسيقى أساور الذهب المندلعة من طفلة الماء. وكأن كتاب «نافذة على الداخل» صندوق زجاجي راسب في قعر نهر، وزهرة هي أوفيليا التي تنام في الصندوق. تلكم هي النافذة التي تطل على الداخل الداغل بالأخضر. النافذة التي يعشوشب خشبها من فرط الاخضرار المندلق من منجم الداخل. أخضر النعناع الذي يفيض على العالمين. النعناع المخضب بـ «مياه المرجات» التي يتسلطن فيها الجن ويتلو قصائد مغناجة، نعناع الحكايات الطفولية الخرافية التي يصير لها حتى ليل الجنة أخضر. هذا الأخضر اللا يحزن. هل كان أزرق فيما مضى؟!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©