الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بقايا حب غارب

بقايا حب غارب
22 يناير 2014 21:31
هذه رواية ذات نكهة جديدة وخاصة، بكل معنى الكلمة، ومن جوانب ومستويات متعددة في اللغة وبنية العبارة ورقة المشاعر وصفاء التفكير وجلال الهدف الإنساني في تحمل أقسى الصعاب والتمسك بجمال الحياة وروعتها. أعطت خولة السويدي لعملها الإبداعي الجميل عنوان “عشب وسقف وقمر”، وقد ذكرني هذا العنوان بقصيدة مشهورة لنزار قباني هي “خبز وحشيش وقمر”. وكان أساتذتنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مولعين بذكر تلك القصيدة، على اختلاف آرائهم فيها، ما بين معجب ومنتقد ومهاجم. وحين بدأت القراءة اكتشفت أن الكاتبة قد اتبعت أيضا في عملها هذا عبارة نزار التي يسمي فيها الكتابة الشعرية “الرسم بالكلمات”، لأن خولة قدمت في روايتها 250 لوحة، لكل منها عنوان خاص، وهي تشكل بمجموعها سلسلة متواصلة من التداعيات، مرسومة بعبارات شعرية غاية بالرقة والصفاء تصل بالقارئ أحياناً إلى حد السحر بجمال العبارة وروعتها. حلم الحب موضوع الرواية “الحب” أو “جنون الحب” أو “آلام الحب وأوهامه وخيباته..” إلى آخر ما هنالك من أوصاف وتصنيفات لأجمل شيء في حياة الإنسان، شاباً كان أو فتاة، ولعله أجمل وأفضل رابط بين بني الناس بدءاً من علاقات أفراد الأسرة وصولا إلى المجتمع.. وحتى الشعوب، وأقصد “المحبة” بكل معانيها الإيجابية النبيلة، التي تزيد الحياة بهجة وأملاً وسعادة. لكن المشكلة أو المأساة في الحب أن يكون من طرف واحد. وهنا أيضاً، من حقي وحق ذلك الشاعر الكبير أيضاً، أن أشير إلى عبارته التي يلوم الرجل فيها ويقف بقوة إلى جانب المرأة ضد كل ظلم اجتماعي.. حيث يسمي علاقة الحب من وجهة نظر الرجل “فتوحات”! وما أقسى أن تتحول تجارب المحبة من نجوى ومؤانسة وعتاب ورضى إلى معارك و”فتوحات” حربية»! بطلة الرواية فتاة تحلم بالحب، ومن البداية تكشف لنا عن ولادة هذا الحلم: “اصطدمت بعينيه، شيء ما ألهب روحي، وأوقد حواسي (...) مر كريح وأبقاني كشجرة...”. ورمز الشجرة يتكرر، إلى جانب المفردات الكثيرة التي تشكل أعمدة البناء الروائي: الجدة، المطر، الهاتف، السماء، الكتب، القهوة، العصافير، الأمكنة بتنوع أغراضها، الوقت: على اختلاف ساعاته بين الفجر والمساء وقسوة الليل، الطبيعة: وما فيها من بحر وصحراء وأبنية ودروب ورمال وأشجار، وخاصة العشب الذي يأخذ بعده الرمزي والواقعي. ويشكل سقف البيت، وغرفة الساردة (الشخصية الرئيسية) في العمل، رمزاً آخر يوحي بالقسوة أكثر مما يوحي بالحماية والأمان. فالسقف، وإن لم تشر الساردة إلى ذلك بوضوح، يقف حاجزاً قاسياً دون رؤية السماء والاستمتاع بالنور ومعانقة المطر.. وهو باختصار “ضد الحرية”، ضمناً وتلميحاً، وليس صراحة. ولا تذكر البطلة من هذا الحب إلا لون عينيه، وربما كانت تحب القهوة لأنها تشعر “بأن لديها نكهة تشبه إلى حد ما لون عينيه!”، (وعلامة التعجب موجودة في النص، وليست مني)، كما تذكر أحياناً البندق للغرض ذاته. بحثاً عن عزاء ويبدو لنا من متابعة القراءة قسوة هذه التجربة وخاصة أنها من طرف واحد. ثم نكتشف مدى معاناة هذه الفتاة من خلال سؤالها لجدتها: “جدتي، كم عانيت في حياتك؟” ولأن الجدة لم ترد عليها، سرعان ما تكتشف غلطتها وتصف نفسها بالغباء إذ ليس من حقها أن “تحرث ماضيها وتنبش قبر أوجاعها”. ومن هذه النقطة تبدأ “حرب المقاومة” للتخلص من الشبح الذي مر في حياتها، وكأنه وهم أو خيال، لكنها تظل خائفة من الرجوع إليه. وفي هذه المرحلة تصبح القراءة عزاء وسلوى، وهي تتعلق بها إلى درجة التماهي وتعترف بأنها “أصبحت كتاباً”. وفي المكتبة تلتقي شاباً، لا يحب القراءة لكنه يفرض عليها كتاباً، إضافة إلى الكتب التي اشترتها، وتكتشف أنه يريد تبادل الرسائل الهاتفية، تسلية معظم الشباب. وإلى جانب الكتاب تصف البحر: “البحر القريب” بأنه “ذلك الرفيق الحميم..” وتلوم نفسها لأنها “هجرته طويلاً”، وهو يشبه “العشب” الذي تقول عنه: “حتى العشب دعاني لحضور ثرثرته المشاكسة لأحواض الزهور” ثم توضح السبب: “الطبيعة تفهمنا أكثر من البشر”. وهي تفهم “ما يدور من أحاديث بين الطبيعة والجمادات” وتخبرنا بأنها لا تعلم كيف تعلمت هذه اللغة، لكنها تستمتع بها. وتتابع الكاتبة رسم المواقف والأحوال والخواطر المعبرة عما تعانيه بطلتها من مشاعر متناقضة. تفكر بالسفر وحدها، لكن صديقة تنصحها بأن تكون “واقعية”، وتتخلى عن حديث “البطر والطغيان”. ويبدأ دور الهاتف بينهما.. ويتطور إلى لقاء أو لقاءين، مخيبين لأملها.. فترفض الاستمرار، وخاصة بعد حادث المرور الذي نجت منه بأعجوبة، وكان سبباً لنقمتها عليه لأن مكالمة طائشة بينهما أدت إلى الحادث وتحطم السيارة. ثم تموت الجدة، وتواصل حياتها الفردية الموحشة. ومع القراءة يكون السفر عزاء، وتلتقي به من جديد وقد بدأ الشيب يغزو رأسه ومعه طفلته ومربيتها ثم يخبرها بأنه طلق أمها. ويفاجئها بأنه صار يحب القراءة بنهم، لكن ذلك لا يزيده قرباً منها. والسبب كما تقول: “أسلاك شائكة كنت قد زرعتها قديماً حولي.. كسور مضاد أمامه إذا فكر بالرجوع، ولكنني الآن هدمتها، وفتحت كل الأسوار المقفلة، وها أنا أنسى كل المآسي التي كانت بيننا..”. لقد قام الزمن باستكمال التجربة فاكتسبت مناعة قوية، ولم تعد تخاف منه أو من نفسها، وإن كانت تفهم نظراته وابتساماته وما وراء الكلمات: “كأنني أنا البحر وهو الشاطئ، لم يفترقا منذ القدم”. بقايا التجربة بهذه العبارة المدهشة، تنهي البطلة معاناتها. فالشاطئ لا يعرف أعماق البحر ولا يفهم ما يدور فيه. وتبدأ في تسجيل خواطرها كتابة، بدل الحوار مع النفس والانطلاق مع أحلام اليقظة. البحر هو البطلة، المرأة واقعاً ورمزاً، والشاطئ هو الرجل الذي كان.. وكانت تحبه. لذلك لا يشعر القارئ بالمفاجأة وهو يتابع القراءة: “قبلت الطفلة واستأذنت بالمغادرة بعد أن تركت شيئاً من قلبي في المكان.. ماذا لو كانت هذه الطفلة طفلتي؟”. تصور الكاتبة بهذه العبارة أقسى ما واجهته هذه الفتاة في تجربتها وهو انكسار الأحلام. وكانت تلك نهاية القسم الأول من الرواية، قبل أن تقوم البطلة بتدوين أحاسيسها مؤكدة أنها ستسجل “كل شيء: أفراحي، وأحزاني، وآلامي، وسعادتي، واختناقاتي..، وأشواقي..، وجنوني، وهدوئي، وكل شيء.. سأعقد صداقة نادراً ما ينتبه الناس إليها، صداقة مع اللحظة. سأنهمر على نفسي حروفا، أتنقل بها من مدينة إلى صحراء، ومن صيف إلى شتاء، ومن شارع إلى غرفة”. ويبدأ القسم الثاني مع “الفجر”، وهو فجر جديد في حياة هذه الفتاة التي لا نعرف اسمها، وقد تركتها الكاتبة هكذا لتزيد من غموضها ورمزيتها، ولتترك للقارئ أن يتصور ما يشاء، لأن الرواية ليست سيرة ذاتية. وفي هذا القسم تظهر مفردات جديدة كالحروب والدماء، ويتكرر السقف بكل رمزيته القاسية مرات عديدة حتى إن فارس الأحلام يتحول إلى سقف، وهذا يعني أنه غدا حاجزاً آخر لحريتها. لكن تحولاً كبيراً حدث في نفس البطلة إذ تشعر أنها “مسؤولة عن عذابات البشر”، وهناك إشارات أخرى توحي بأن هذا الحب الذي تحدثت عنه هو نوع من العشق الصوفي ولا علاقة له بعالم البشر، وهو عالم غير مكتمل. وهذا ما يوضح للقارئ غياب الأسماء، والتركيز على أشياء وكائنات أخرى من خلق الله كالبحر والصحراء والعشب والنخيل، وحتى الشاي يصبح بدل القهوة. وتأتي في النهاية لمحة جميلة مصحوبة بالأمل والإصرار على مواصلة الحياة، بعد أن اكتسبت كل تلك التجارب القاسية، التي مرت بها. الرواية تستحق الجائزة، وتستحق أن نعيد قراءتها أكثر من مرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©