الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر مسكون بالمسافة ونداء الأقاصي

شاعر مسكون بالمسافة ونداء الأقاصي
22 يناير 2014 21:31
ما بين أرخبيلات الشرق الآسيوي الأقصى، وجغرافية الشمال الأوروبي ترحل بنا عين الشاعر اليقظة في تلك الجغرافيات المترامية الأطراف في سفر لا يتوقف، وكأنه سندباد يضيق به المكان أو هو يضيق بالمكان، فيرحل في جهاتها الواسعة بحثا عن أصدقاء نأت بهم أقدارهم، أو عن ألفة ظلت منسية في زوايا تلك المدن البعيدة، أو رغبة في العزلة والتأمل في عالم يقرأ فيه غربة وجوده وقلق الإنسان الحائر وهو يتأمل جرح المسافة في عالم يزداد ضراوة وفتكا. في علاقة الشاعر بالمكان؛ ثمة علاقة تقابل أو ثنائية ضدية تحكم تلك العلاقة التي لا تعكس تناقضا واختلافا كليا في الطبيعة الجغرافية للمكان، بقدر ما هي تعكس تباينا في الاجتماع والثقافة والتقاليد والسياسة، الأمر الذي يجعل حركته في المكان وما يعكسه من قلق وجودي ترتبط بهذه الأسباب من دون أن تفقده صلته بالمكان الأول للطفولة وانشداده إليه، نظرا لما يمثله من بعد رمزي ووجودي يصعب الانفكاك عنه. من هنا وفي ضوء هذه الدوافع والمعاني يمكن لنا أن نفهم هذه الغزارة التي تمثلها كتب اليوميات التي صدرت للشاعر حتى اليوم كتب يروم فيها أرض المجاز والأبدية في طواف الخيال ورحلة العين المسحورة بفتنة المكان وأسراره. أربعة مدارات في كتابه الجديد «من الشرق إلى الغرب: يوميات»، يأخذنا الرحبي معه في طوافه وتأملاته وحواراته الصامتة مع الكائنات والأشياء والوجوه والأسماء والوجود، الذي تنتهك روعته وجماله نزعة الشر والتملك والغطرسة الفاجرة عند البشر في عالم تحكمه القوة والمصالح والجشع والأنانية. يضم الكتاب أربعة نصوص (يوميات الجزر الآسيوية - النسر يصطاد العاصفة - حين أشرق طفل من روحه - يوميات قرية ألمانية). على مدار هذه المدونات اليوميات تجتمع في لغة الشاعر وهي تعيد قراءة الأشياء لغة الوصف واللغة التقريرية والشعر والتداعيات والمونولوج، الذي يتسم تلك اللغة بالتنوع والتدفق، حيث يقف الشاعر أمام صمت الأشياء وصخب الحياة والكائنات، ليتأمل ويطوف بأجنحة الخيال ما وراء تلك الظواهر والصور التي تحتشد أمامه، أو التي يستحضرها من عزلتها لتكون موضوعا للتأمل في معنى الوجود والحياة وعلاقة الإنسان بالزمان وبالإنسان والوجود، فالشاعر لا يكتب ليصف ما يرى وحسب، بل لكي يستنطق ما يراه، أو يجعل منه تلك الصورة التي يتمرأى فيها وجود الكائن وتاريخه المثقل بالخطايا والخيبات، تخفيها أو تبوح بها أو تستدعيها صورة العالم الضاج بكائناته اللاهثة وراء غرائزها، أو صور ماضي الطفولة الذي لم يزل يغذي مخيلة الشاعر، ويهبها الجمال والدهشة: «أتأمل جذع هذه الشجرة السامقة بجذورها الملتفة كمخيم بداة رحّل اجتمعوا مصادفة في فسحة هذا العراء الذي تطوقه المباني والأبراج من كل الجهات.. تنبجس من حنايا الذاكرة البعيدة شجرة السوقم السمائلية أو السوقمة بتلك الحارة التي لم أعد أتذكر اسمها. ذهبت الأسماء وبقيت الشجرة في ليل الذاكرة تنمو وتستطيل حتى بلغت كما في الطفولة الغاربة علوا لا يجارى حتى من قبل هذه الأشجار العملاقة». لكن انفتاح البصر والبصيرة على أسرار هذه الأماكن وتداعياتها وأسئلتها لا تنسي الشاعر ما يحتشد في أعماقه من قلق وحيرة وأسى تجاه ما يحدث من مآس وموت وكوارث وظلم: الصرخة حطام الصرخة صرخة المظلوم والثكلى صرخة الطفل المذبوح في نهار مشمس أو في ليل دامس يمتطيه القتلة والجلادون تلك الصرخة العصية على النسيان بين مكانين الشاعر المشدود بين مكانين: المكان الطارئ والمكان الأصيل، لا يتعب من الانتقال بين طرفيهما الممتدين على جهات واسعة من العالم، حيث ينطوي المكان الأصيل أو مكان الإقامة في معناه ودلالاته على ثنائية متعارضة أخرى، تجمع بين الارتباط والتعلق والحنين في جزئها الأول، في حين هي في جزئها الثاني تشكل مكانا طاردا، يدفع به نحو الرحيل والشوق الدائم للسفر على وصف الشاعر القديم: ما آب من سفر إلا وأقلقه شوق إلى سفر بالرغم يدفعه وإذا كان المكان الأول هو مكان الطفولة والدهشة الأولى، عندما كان يكتشف العالم لأول مرة من حوله، ويتلمس حدوده، فإن المكان الثاني هو الذي يتجلى من خلال وعي الشاعر الحزين بالمفارقة بين الـ (هنا) والـ (هناك)، وما تحمله المسافة الممتدة بينهما من مفارقات واختلاف هي بنت بيئتها وتاريخها وثقافتها. لكن الشاعر المسكون بالطبيعة وسحرها يظل مشدودا إليها ينشد فيها ومعها سلام روحه ومعنى الأبدية، ويرى فيها الجمال الذي يحرس سلام العالم، في حين تظل المرأة حاضرة بألقها وعذوبتها وجاذبيتها الطاغية: «المرأة تستيقظ من غفوتها المدللة في خيال رجل مجهول، لا تكاد تنظر إليه بطرف عينها، عين الحورية المتمارضة الكسولة.. المرأة تتجه نحو زوجها في الطرف الآخر من المسبح تاركة مجهولها يرفس مع خيالاته المتكاثرة تحت أشجار جوز الهند والسنديان المأهولة بأصداء الفقد والنحيب». ثمة حزن وتوجع وشعور بالمرارة يلاحق الشعر في طوافه وخيالاته وهواجسه التي توقظها من حوله صور الحياة وتحولاتها السلبية واندثار قيمها الأصيلة، بحيث لم تعد الحياة تنبني على معايير إنسانية صرفة. ولا يختلف حال الثقافة عن ذلك بعد التي أصبحت خارج مقاييس الموهبة والإبداع، وأسيرة المصالح والحسابات الضيقة لمثقفين لم يعد همهم سوى تكريس أنفسهم بأية وسيلة كانت: لا أتذكر صديقاً إلا ويسبقني إليه تاريخ الخيانة لا أتذكر عدواً إلا وأرى فيه مستقبل البشر كل عاصفة تقتلع جذورها في النهاية ثمة غنائية متدفقة تطل من هنا وهناك في مدارات الشاعر.. غنائية مسكونة بعذوبة الطفولة والطبيعة البكر أمامنا الحقيقية التي تستيقظ إليها أشواقه ويطير معها بأجنحة خياله حتى أبعد نقطة في العالم: «طائر صغير لا يكاد يرى وسط صخب الطيور وأوراق الشجر المتساقط حبكة ريش أخضر متناغمة الألوان والحركات.. ينقر رزقه وسط تلاطم الريح البحرية ويفرض حضورا كثيفا على لا مبالاة العالم المحيط.. كما تفرض تلك السمكة الصغيرة حضورها الجماليّ الفريد وسط وحوش البحر وهوام الأعماق».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©