الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشرق في ديار الغرب

الشرق في ديار الغرب
13 يوليو 2011 19:08
ضمن مسيرة الفن العربي بحقوله كلها، تمتلك الزخرفة العربية الإسلامية تاريخا عريقا يعود، بصورة أساسية، إلى عصر تدوين القرآن الكريم، ورغبة المدونين، الخطاطين تحديدا، في تذويق نسخ مخطوطاتهم للقرآن، والعمل على تزيينها وتجميلها. لكن الزخرفة لم تتوقف عند تخطيط القرآن، فتجاوزته إلى العمارة بتفاصيلها المتعددة، من أبواب وشبابيك وواجهات معمارية بلغت أرقى الجماليات في القرون الوسطى. كما لم تتوقف الزخرفة عند ذلك، حين امتدت لتخلق أشكالا من العلاقة مع الخط العربي عبر القرون، والاستفادة من موروث الأشكال الزخرفية في الحضارات الأخرى، الفارسية والصينية تحديدا. عمر شبانة الكثير من المراجع تؤكد التأثر الغربي بالفن العربي منذ القرون الوسطى، فمثلما استفادت الفنون الإسلامية من فنون الحضارات السابقة، استطاعت أن تفرض حضورها وهويتها على الفن العالمي، وترى بعض المراجع كيف أثرت في الفنون الغربية حتى صارت هي أصل التجريد فيها، وألهمت فنانين غربيين برؤى واضحة، بل صارت الزخرفة الإسلامية مثلا هي منشأ العديد من المذاهب الفنية المعاصرة، وإن غاب أصلها مع بعد الزمان والتعددية المذهبية. وكانت “المحاكاة” أول حلقة في حلقات التأثر الأوروبي بالزخرفة العربية، ثم أخذ الفنانون الأوروبيون يكتشفون أساليب فنية جديدة، ويصوغون الزخارف بروح مجددة، ويلبسونها صبغة أوروبية، ولكنها ظلت تشف عن مصادرها العربية. ولعل التجربة الأبرز هي ما يمثله ليوناردو دافنشي Leonardo Deviancy، الذي أقبل على دراسة الزخرفة الإسلامية إقبالا يبرهن على مدى الأهمية التي كانت تلك الزخرفة مكتسبة لها في ذلك العصر، وفي كراساته نماذج عديدة من زخارف الأرابيسك. وفي مثل آخر، نجد الفنان الإيطالي فرانشيسكو بلليجرنيو Francesco Pelligrine الذي ألف كتابا في أوائل القرن السادس عشر يوازن فيه بالرسم بين الزخرفة الإيطالية والزخارف العربية، ويبرز فيه الأهمية التي كانت تحظى بها هذه الزخارف في الأوساط الفنية، وانتشرت بعد ذلك مراجع النماذج الزخرفية بفضل الطباعة، وأخذ رجال الفن في أوروبا يستهلمون الزخارف منها، حتى استطاع المصور هولباين Holbein أن يبتكر زخارف مستوحاة من التوريق الإسلامي، ومنذ ذلك ظهر اصطلاح الأرابيسك في أوروبا. الأصل والتقليد هذه المسيرة الفنية الثرية رحلت إلى أوروبا، أو أن أوروبا استوردتها بطريقة ما، فكان للغربيين زخرفتهم مثلما للعرب والمسلمين زخرفتهم، لكن الأصل يظل هو الأصل، وهذا ما سوف نقف عليه في المعرض الذي يعرض تجارب عدد من الفنانين الغربيين من القرن التاسع عشر، معرض يؤكد إمكانية أن يلتقي الشرق والغرب في الفن، فكما أفادت أوروبا من علوم العرب والمسلمين أفادت من فنونهم أيضا. المعرض تحت عنوان “الشرق والغرب يتلاقيان: فنُّ الزخرفة الاسلامية في أعمال القَرن التاسع عشر، من مجموعتيّ متحف داهش للفنّ وجامعة سيراكيوز”، في مسرح دبي الاجتماعيّ ومركز الفنون” في “مول الإمارات” بدبي، يقام لمدة شهر كامل، من 18 حزيران حتّى 18 تموز الجاري. وبحسب كتيب المعرض، فإنه يهدف إلى تسليط الضوء على الإنجازات غير العادية للفنانين والمصممين المسلمين عبر القرون، وفي ذات الوقت هو توثيق لجهود الغرب التاريخية في إعادة اكتشافه للفن والعمارة الإسلامية. المعرض يعتبر إعادة اكتشاف للزخرفة والتصاميم الإسلاميّة الأصيلة في القَرن التاسع عشر، من قِبَل فنّانين وعُلماء وباحثين غربيّين. والزخارف في المعرض تعددت أشكالها، نباتية وكتابية ـ حروفية وهندسية وتصويرية (صور الكائنات الحية). وهو يقدّم توثيقا غنيا للزخرفة والتصاميم الإسلاميّة من قِبَل علماء وفنّانين ومهندسين معماريّين أوروبيّين، ممّن جالوا في أرجاء الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر. وتكشفُ الأعمال الـ 45 المعروضة، التنوُّع الثريّ للوحدات الزخرفيّة الإسلاميّة واستخدامها في مجموعة واسعة من المباني والكُتب والمنسوجات وأشياء أُخرى. كما يُبرزُ المعرضُ مُختارات لأعمال ليثوغرافيّة (طباعة حجرية) ملوّنة من كتاب إميل بريس دافين الرائع “الفنّ العربيّ”، عن الفنّ الإسلاميّ في القاهرة، إلى جانب المُجلّدات الأصليّة الثلاثة لهذا الكتاب. وتُعرض أيضا لوحات منفردة من كتابَي أُوين جونز الرائدين: “قواعد التزيين” “وقصر الحمراء”، إلى جانب المنشورات الأصليَّة. كما تُعرض رسومات الفنّانين المستشرقين رودولف إيرنست ولُدفيج دويتش وفيدريكو باليسيو، ونسخ من لوحات جان ليون جيروم التي تعكس الانتشار الواسع للوحدات الزخرفيّة الإسلاميّة، في أعمال المُستشرقين الفنيّة. قالت أحد أمناء متحف داهش للفن في نيويورك، أمينة زاهد، ان “انتقاء الأعمال التي عرضت في المعرض، أتى بناء على ما تمثله هذه الأعمال من تنوع في الزخرفة الإسلامية التي قدمت من الأوروبيين، وكذلك كونها تبرز كيفية تأثرهم بهذه الفنون”. ولفتت إلى أن دبي مع تطورها، أبرزت تاريخ الزخرفة الإسلامية في المباني الحديثة، إذ لاحظت أنها تستخدم لدرجة كبرى، فنجدها في كل التفاصيل بدءاً من الثريات في الفنادق، وأسقف الغرف، ووصولاً الى نوافير المياه المزخرفة، وان قصد احدنا البحث عنها سيجدها في كل ما يحيطه. رحلة عبر القرون تفاصيل وأماكن وأزمنة متنوعة ينتقل إليها زائر المعرض من خلال معروضاته، بدءا من القرن الثالث عشر، وحتى الثامن عشر، وما بين أحياء القاهرة القديمة، كالغورية، بشخوصها الحية، وأبنيتها، وسوق المنسوجات، وقصور ومساجد القاهرة، وغرناطة وتركيا، والأضرحة وتكيات الدراويش، بجانب لوحة لفنان مجهول وأخرى للفنان المصري حسن شلبي، ونسخ قرآنية قديمة. وتنوعت أقسام المعرض ما بين نماذج لأشكال الزخرفة المعمارية والديكور، والهندسة المعمارية، والسقوف، والأعمال الخشبية، والأبواب، والخزف، والمشربيات، والأعمال الزجاجية، والمفروشات، وسجاد ومطرزات، وكتب القرآن. يقدم المعرض الأشكال الزخرفية المتنوعة التي اشتهرت بها البلدان الإسلامية قديما، ما بين التركيبات الهندسية المتنوعة، والنجوم ذات الزوايا المتعددة، والأشكال النباتية، والحيوانات، وأخرى تستخدم الزخرفة بالخطوط العربية كالكوفي والثلث، أو الوحدات الزخرفة المأخوذة من المصاحف. ورغم تنوع موضوعات لوحات المعرض، فهي مأخوذة في أغلبها من أعمال لفنانين غربيين جالوا العالم الإسلامي ووثَقوا الثراء والنتاج الفني والزخرفي للعالم الإسلامي، فيبرز المعرض مختارات لأعمال ليثوغرافية (طباعة حجرية) ملونة من كتاب الفرنسي إميل بريس دافين “الفن العربي” عن الفن الإسلامي بالقاهرة، إلى جانب المجلدات الأصلية الثلاثة للكتاب. ولمّا كانت هذه النصوص والصوَر المصدر الأساس لمعلومات الرسّامين ومهندسي العمارة والديكور الغربيّين، فقد أصبحت، وستبقى، وثائق مهمّة للعديد من الآثار الإسلاميّة وزخارفها، بعد أن اندثر بعضُها مع الزمن. وتنتهي الجولة في معرض “الشرق والغرب يتلاقيان” بصور مُعاصرة لمدينة دبي، المدينة الإسلاميّة الحديثة التي تُحافظ على ارتباطها بالتاريخ العَريق، من خلال استخدامها الحديث للتصميم المعماريّ والزخرفة الإسلاميّة التقليديّة، في رسم صورة المدينة الحضاريّة الجديدة. وكما أبدع الفنان المسلم في استخدام التشكيلات النباتية، من أوراق وفروع نباتات وأزهار وثمار، في زخرفة منتجاته الفنية من تحف أو عمائر، فقد عمل الفنان الأوروبي على تحوير وتجريد العناصر المستخدمة من صورتها الطبيعية، وظهر فيها ميل الفنان إلى شغل المساحات. وإذا كان الفنانون المسلمون أولعوا بتقليد الخزف الصيني وزخارفه حتى أبدعوا في هذا المجال بصورة غير مسبوقة، إلا أن الحقبة العثمانية شهدت عودة إلى الطبيعة من خلال زخرفة الأواني الخزفية، بأشجار متنوعة. وكانت أبرز الأعمال الموجودة في المعرض للفنان أوين جونز، ومنها العمل الذي نقل فيه الزخرفة الخاصة بضريح السلطان سليمان القانوني، التي كانت عبارة عن وحدات مستمدة الأطراف تتقاطع افقيا وعموديا، مترابطة ومتتالية، وعلى خلفية حمراء. كما تميز هذا الفنان بتقديمه زخرفات متنوعة البلدان، كالمصرية والفارسية وكذلك التركية التي أخذت أشكالا متنوعة بين الأرابيسك والإطارات الهندسية. وإلى جانب جونز، برزت لوحات للكثير من الفنانين، ومنهم أشيل كوستان، وفيشو، ومارشان، وبرنارد ستميث، وليموان. في الزخارف الكتابية وكما استخدم المسلمون الخط كعنصر زخرفي، فقد كان الخط العربي مظهرا من مظاهر الجمال يفور بالحياة ويجري فيه السحر في الفن الأوروبي وزخارفه بصورة خاصة، وهو ما يزال ينمو ويتحسن ويتنوع ويتعدد حتى بولغ في أساليب التحويرات الجزئية في حروفه المفردة والمركبة. وكذلك الأمر في ما يتعلق بالزخارف الهندسية، ففي حين اتجه الفنان المسلم منذ العصر الأموي إلى استخدام الزخارف الهندسية، وأبدع فيها بشكل لم نره في أية حضارة من الحضارات بالرغم من أن اشكالها الاساسية نابعة من الاشكال البسيطة كالمعينات والمربعات والمثلثات والدوائر المتماسكة والمتقاطعة والاشكال السداسية والمثمنة، فقد أخذ الفنانون الغربيون بتقليد هذه الأشكال بصور مطابقة للأصل تقريبا، وهو ما نجده في بعض أعمال هذا المعرض، حيث الأشكال الهندسية حاضرة بقوة، وهي تتميز بطابع هندسي قوي، يتجلي لنا من خلال استخدام الفنان لتكوينات الأطباق النجمية التي زُينت بها سطوح العمائر والمصنوعات الفنية، حيث شاعت تشكيلات الزخرفة بالأطباق النجمية. ويحضر في المعرض فن الأرابيسك، وهو نوع من الزخرفة التي عرفت عند العرب بـ”التوريق”، سواء كانت تنطوي على زخارف نباتية أو كتابية أو حيوانية أو هندسية، والتأمل في هذه الزخرفة يكشف لنا عن كونها تقوم أكثر ما تقوم على العناصر النباتية، مثل كرمة العنب بأغصانها الملتوية المتداخلة بعضها حول بعضها، بتناسق وبصورة طبيعية. وقد وجد شكل ورقة العنب في زخارف مبنى قبة الصخرة الشريفة في القدس وفي الجامع الأموي الكبير في دمشق، وهنا نلمح من خلاله تحويرا عن الطبيعة مع ورقة كرمة العنب، وأنواع مختلفة من الزهور حولت كلها إلى أشكال مجردة متداخلة، هذا التجريد مقصود لذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©