الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لسان العرب.. المكتوب

لسان العرب.. المكتوب
1 فبراير 2017 17:54
أتفهم شخصياً القرار الذي اتخذته جمعية «باريز» اللغوية سنة 1866م بحظر مناقشة البحوث التي تتناول أصول اللغة، إذ إن الولوج في دراسات وأبحاث لها علاقة بهذا الموضوع يُدخل الباحث في مناطق شائكة، بل ملغومة، تؤدي في الأغلب الأعم إلى التشكيك، فضلاً عن دخوله -أي الباحث- في نفق يصعب الخروج منه دون المساس ببعض المعتقدات! ونحن جميعاً نعلم أن أبانا آدم وأمنا حواء كانا يتحدثان معاً في الجنة، وأنهما تحدثا مع الملائكة وإبليس، عدو الله، الذي أغواهما بالأكل من الشجرة، بل إن آدم عليه السلام قد تحدث وتناقش مع الملائكة عندما أمره الله عز وجل بإخبار الملائكة بأمور كانوا يجهلونها، علّمه إياها الله سبحانه وتعالى. بعيداً عما يثيره السؤال عن ماهية اللغة التي كانت محكية في جنة الخلد من إشكالات؟ فإن ما يجب التذكير به أن النقاش حول هذا الموضوع ليس وليد الحضارة الغربية المعاصرة أو الإسلامية السابقة لها، بل يعود إلى ما يزيد على الألفين والخمسمئة عام من اليوم. والنقاش حول أصل اللغة أو أصولها لم يخرج عن نظريتين رئيستين: أولاهما المسماة النظرية اللاهوتية، والتي نستحسن تسميتها بالنظرية الدينية، وقد قال بها الفيلسوف الإغريقي هيراكليت (Heraclite) (556- 480 ق. م)، ومفادها أن اللغة هي إلهام هبط على الإنسان فعُلّم النطق وأسماء الأشياء، وهذا القول أخذ به وتبناه أصحاب المعتقدات الدينية السماوية، واعتبروها توقيفية إلهية. أما ثانيهما فهي النظرية التي أسميها «النظرية الفلسفية»، وتعود إلى صاحبها الفيلسوف اليوناني ديموكيت (Democte)، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ومفادها أن اللغة استحدثت بالتواضع والإتقان وارتجال الألفاظ ارتجالاً، بمعنى آخر كما عدّها العلماء لاحقاً، أنها مكتسبة وحصيلة اختراع إرادي لكنه طارئ، أو أنها اكتشاف. وهاتان النظريتان كانتا متداولتين بين المهتمين حتى بدايات العصر الحديث، ومع تطور العلوم نتيجة للتقدم العلمي المذهل، ظهرت نظريتان دفعتا البعض إلى نفي النظريتين السابقتين وإنكارهما، وهاتان النظريتان الجديدتان هما البيولوجية، والأنثربولوجية، فالأولى تفترض أن اللغة انحدرت شيئاً فشيئاً من تطور الحركات والأصوات التعبيرية العضوية الناجمة عن انفعالات الحيوان والإنسان، أي أن اللغة نشأت من تقليد الصيحات أو الضجة الطبيعية، كأن تكون الضجة الطبيعية محاكاة أصوات طبيعية، أو من أصوات تعجبية عاطفية صادرة عن دهشة أو فرح أو وجع أو حزن أو استغراب أو تقزز أو تأفف، وتمثلها على سبيل المثال، نظريات (البو - و و - Bow - Waw)، والأصوات التعجبية العاطفية المعروفة باسم: (Pooh- Pooh). أما النظرية الثانية الأنثربولوجية فتشير إلى وجود علاقة متبادلة بين المصدر الصوتي وبين معناه، وأحياناً إلى الأصوات المرافقة لجهد عضلي، والحركات التعبيرية، وكان أساسها اتجاه بعض الباحثين إلى مراقبة ودراسة الكيفية التي ينتهجها الطفل في اكتسابه للغة. نشأة اللغة وتجدر الإشارة إلى ظهور لغة تعرف باسم لغة الإشارات التي اعتبرها ريتشارد باجت (Paget) الجسر الذي أوصلنا إلى اللغة المحكية، فقد كان الإنسان -كما يقول- سعياً منه إلى التواصل مع الآخر يستخدم يديه ويُقلص عضلات وجهه، وتدريجياً وتحديداً بسبب استقرار الإنسان في الكهف، استبدل بلغة الإشارة اليدوية والملمحية الإشارات الصوتية. وفي عصرنا الحديث لدينا مثال يشابه هذا الأسلوب، حيث تمكن العلماء الغربيون من تطوير لغة جديدة أصبحت لغة أساسية في الحياة المعاصرة وهي لغة الصم والبكم، وذلك عن طريق إشارات معينة باستخدام أعضاء الجسد خصوصاً اليدين والوجه. ونجد من المفيد الإشارة إلى أن اللغة (اللغات) تتحول إلى لهجات فرعية بسبب عوامل متعددة، منها السياسي، والنفسي، والجغرافي، والثقافي، والاجتماعي... إلخ. فالهيمنة والسيطرة السياسية أو الثقافية لدولة ما مدعاة واضحة إلى انتشار لغتها، مما يؤدي إلى ظهور لهجات جديدة، مثل الإنجليزية التي انبثقت عنها اللهجات الأميركية والأسترالية والنيوزيلندية... إلخ. أما العامل الجغرافي فله الدور ذاته، إذ إن لهجة سكان الجبال تختلف عن لهجة سكان المناطق الساحلية أو لهجة أهل المناطق الصحراوية، كما هو واضح على سبيل المثال من اختلاف لهجة أهل نجد في السعودية عن لهجة أهل الحجاز، أو اختلاف لهجات سكان صعيد مصر عن لهجات أهل سواحلها، بل إن الاختلاف يكون واضحاً وبيّناً بين أبناء المنطقة الجغرافية الواحدة... وهكذا. وبالنسبة إلى ما له علاقة بالعاملين الثقافي والنفسي، أو حتى الاقتصادي، فيعود إلى إحساس المجتمع المتأثر بتخلفه وضعفه الحضاري والثقافي، مما يدفعه إلى استخدام وإدخال ألفاظ ومصطلحات من لغات أخرى، تدفع إلى ظهور لهجات أو لغات مختلفة مثل اللهجات المغاربية (الجزائرية والمغربية والتونسية)، التي تأثرت كثيراً باللغتين الفرنسية والإسبانية إلى درجة صعوبة فهمها واستيعابها من المتحدثين بالعربية. نشأة الكتابة هذا ما كان بالنسبة إلى اللغة، لكن ماذا عن الوجه الآخر للعملة وهي الكتابة، التي يرى البعض أن التعريف الأمثل لها هو اعتبارها الوسيلة الثابتة للتعبير عن الفكرة، لكننا نرى أن هذه الميزة التي كان العلماء يرونها في الكتابة، وهي ميزة انتقال الكتابة عبر الزمان والمكان، قد انتفت حالياً، فاللغة أيضاً صارت تحمل الميزة ذاتها من خلال الأشرطة التسجيلية، فنحن الآن نسمع خطباً للرؤساء والملوك تعود إلى أكثر من قرن. لذا فاللغة مثل الكتابة تنتقل أيضاً عبر المكان والزمان. المهم أن اختراع الكتابة أنهى إلى الأبد عصر ما قبل التاريخ، فهي الحد الفاصل بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية، وهي بمقولة أخرى الماء الذي يروي شجرة الحضارة ويعطي لها الاستمرارية. وكما تعددت الآراء حول نشأة اللغة، فقد تعددت أيضاً الآراء حول نشأة الكتابة. ويمكن حصر هذه الآراء في رأيين: الأول أن يكون وراء هذه النشأة أمر رباني، والثاني أن يكون وراءها عامل فلسفي، فالقدماء جعلوا للكتابة أصلاً إلهياً (ربانياً)، أو سماوياً غيبياً، وهذا التفسير يتفق مع أسلوبهم في رد نشأة كل المنجزات الحضارية العظيمة للإنسان إلى أصول إلهية أو سماوية، فقد كان المعبود «تحوت»، وهو طائر أبو منجل عند المصريين القدماء، مخترع الكتابة، بينما أعاد أهل الرافدين القدماء اختراع الكتابة إلى أحد أولاد المعبود «مردوك (مردوخ)»، وتبعهم في هذا العديد من الشعوب الأخرى مثل الإغريق وغيرهم، لكن لماذا اتجه القدماء إلى التفسير الديني السماوي؟ رغم أنه يصعب كثيراً إعطاء الإجابة الصحيحة لهذا السؤال، فإننا نعطي أنفسنا الحق بذكر ثلاثة مبررات كانت خلف هذا التفسير: الأول: أن التفسير الغيبي الديني كان بتأثير منطق الشكر الهادف لغرس قيم دينية تتمثل في شكر المعبودات زيادة في تقديسها، لإنعامها عليهم بكل شيء، بدءاً من الخلق وانتهاءً بغرس الأخلاق، وباستمرار هذا التمجيد للمعبودات وتسبيحها يأمل الكهنة في استمرار تدفق القرابين والأبخرة والأطياب والأموال لمعابد هذه المعبودات وبالتالي لأيدي الكهنة أنفسهم. الثاني: أن هذا التفسير الديني الغيبي كان نتيجة لعجزهم عن وضع تفسير علمي متكامل ومقنع لنشأة الكتابة، ولعل أبرز أسباب هذا العجز هو مرور الكتابة بمراحل طويلة منذ بداياتها البسيطة حتى محاولة تفسير ابتكارها، وهو زمن طويل ضاعت معه الملامح العامة للتطورات التي مرت بها الكتابة. وهكذا كان من الصعب عليهم استيعاب أن يكون شرف اكتشافها للإنسان، نظراً إلى الغياب التام لمعرفة تطورات الكتابة. الثالث: أن هذه المبررات تعود لارتباط الكتابة في العصور القديمة بالطبقتين المهيمنتين في المجتمع، وهما طبقتا الحكام القادة والكهنة، فهذا الارتباط جعلهم يفرضون عليها ستار القدسية. أما الرأي الآخر وهو الفلسفي، فلعل أمره يعود إلى الصينيين القدماء الذين كانوا وحدهم من القدماء الذين أوجدوا أسطورة مادية أقرب في عناصرها القصصية التصاقاً بالواقع بقولهم إنهم ابتكروا الكتابة من خربشة الطيور على الرمال، وهم في ذلك يتبعون طريقتهم الفلسفية في الابتكار والتفسير الذي نراه في اكتشاف الحرير، أو اكتشاف شراب نبتة الشاي، فقد أعادوا كل ذلك إلى الملاحظات الدقيقة والمصادفات العجيبة لا إلى السماء أو الوحي، في حين ربط الدارسون المحدثون بين نشوء الكتابات الأولى وبين رسائل التسجيل الحسابي، وما تبعها من الحاجة إلى تسجيل الاتفاقيات التجارية والمعاهدات الدولية. دوافع اختراع الكتابة وفي حين أننا لا نستطيع تحديد الدافع وراء اختراع الإنسان للكتابة، فإننا نرى أن هناك فلسفتين أو مبدأين مختلفين كانا وراء نشأة الكتابة واختراعها عند الشعبين العريقين: الرافدي في بلاد الرافدين، والمصري القديم في أرض الكنانة، فبالنسبة إلى الشعب الأول، فإن الأمر الذي أعطاها مبرر الوجود يعود إلى المحور الأساس للأدب والدين والفكر الرافدي، بل هو -في رأينا- الروح الكامنة وراء كل إنجاز لشعوب بلاد الرافدين بما فيه اختراع الكتابة ألا وهي فكرة «الحق»، فمن الحق اشتق الرافدي القديم القانون والقضاء والعدالة، وبسببه تعامل الرافدي القديم بالحساب والعدد. فالبحث عن الحق وروح الحساب والعدد هو الفكرة المحورية التي كان يسعى إليها الرافدي القديم ويتمحور حولها، لذلك أوجد أساليب مختلفة عن رفيقه في درب التطور الحضاري، الشعب المصري القديم، في العديد من مناحي الحياة مثل التعبيرين الفني والمعماري، فضلاً عن الأدبي والإنساني، وبالنسبة إلى الكتابة فإن أغلب النقوش التي تمثل البدايات الأولى للكتابات الرافدية كانت عبارة عن إشارات وكتابات للتعامل ووسائل لحفظ الحق الاقتصادي والتجاري من عقود وتحديد المقادير والأوزان والمقاييس والأنصبة والبيع والشراء، وهذه كلها وسائل لحفظ «الحق». لذا لم يكن مستغرباً أن تنشأ في سهول سومر الأختام التي كانت رديف البدايات الأولى للكتابة وأهم عوامل تطورها، فالأختام وُجدت تحت تأثير فكرة الحق وحفظ الحقوق، وهذا الذي جعل للرافدي القديم الأسبقية عن غيره من الأمم الأخرى في ابتكار وضع القوانين المكتوبة مثل قوانين أشنونا وغيرها، ولأجل الحق كان أهم معبودات بلاد الرافدين «الإله ش م س» معبود العدالة، أي إله حفظ الحقوق، الذي ينمو في رحمه الحساب والعقود، وهو جزء من القانون الذي ينمو في رحم الحق. ولعل فكرة الحق نشأت وسط هذه الحضارة تحديداً، بسبب الظروف البيئية القاسية التي هددتهم دوماً بالخراب والدمار الناتجين عن الفيضانات المفاجئة والعنيفة، التي تنحدر بشدة نظراً إلى الأمطار غير المنتظمة على منابع دجلة والفرات في أرمينيا. فهذه الأوضاع المناخية والفيضانات كانت تهلك الحرث والنسل بصورة غير متوقعة فتؤدي إلى الإفلاس والتدهور الاجتماعي الذي بدوره وَلَّدَ الظلم والاستبداد، لهذا عَمِلَ الرافدي على إيجاد الحق من خلال القانون، فقد كان مبرر عبادة هذه المعبودات وتقديسها، فضلاً عن قيامها بخلقه، هي صياغة القوانين، وأن سبب ظهور الملك أو الحاكم إنما كان لحماية القانون، أي الحق، ولنأخذ مثلاً تقديسهم لمردوخ الذي أقام النظام -وهو أحد أهداف القانون- محل الفوضى. وإذا حُقّ لنا أن نذهب بعيداً في استجلاب الرموز وفي الاستعانة بمفتاح «الحق»، فإننا سنجد أن الخط الإسفيني (المسماري) يعبر عن روح الرافدي القديم لتثبيت وجوده الحضاري المهدد دوماً، فكما كان أجداده من أهل الرعي والانتجاع يثبتون خيامهم بالإسفين فإنهم عدوا الخط، بما يحويه من حسابات وتحاسب وما يُكتب به من قوانين ومواد محسوبة، كالإسفين الذي يحمي ويثبت الخيمة البدوية من الأتربة والعواصف، فالخط يحميه بحفظه للحقوق والقوانين. هذا أحد الأوجه الرمزية من الخط الإسفيني الشكل وارتباطه بروح الحضارة الرافدية القائمة على فكرة الحق، وإن التعبير نفسه عن الروح التحاسبية والمحاسبية الاقتصادية نراها أيضاً في شكل الخطوط المسمارية إذا ما عددناها في الأصل تطويراً لشكل الأسهم والحراب، ولعلك ترى الارتباط بين الكتابة عن الأمور الاقتصادية والأنصبة والغنائم والصيد أو تحصيل الطعام والقوت، وبين الأسهم التي هي أداة للقنص أو الصيد. لهذا نقول، ونحن مطمئنون، إن الفكر الرقمي الحسابي العددي وعلوم الهندسة المرتبط بالحق بدأ من الرافدين، وإن الحساب سبق الكتابة ولو من ناحية ترتيب الاحتياج في بلاد العراق القديمة. أما مبرر المصري القديم فينحصر -حسب رأينا- في فكرة الروح والخير والبحث عن المعنى والوصول إلى الحكمة، فالحضارة المصرية هي حضارة الكَيف مقابل حضارة الكم الرافدية، وحضارة العمق مقابل الحساب والقياس الرافدية السومرية. فالدارس الحصيف لتاريخ مصر القديم يعرف أن هذه الحضارة التي تتميز بالصبر والتأني وتجسيد المعاني والأفكار الروحية، ليست إلا حضارة رمزية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، وإن انتحالها للخط الرباني المقدس (الهيروغليفي) لم يكن من باب المصادفة، وإنما لتحقيق وسيلة التعبير بالرمز، فهي حضارة المعنى والنظر دوماً إلى المعاني الرمزية والجوانب غير المرئية، وتنحو دوماً للبحث عن العلة في الأحكام إلى الخير الكامن وراء ما تقرره السماء، وما يخفى وراء الخط واللون، حضارة العمق الديني الذي يعبر عن الأعماق من خلال الرموز والإشارات. وقبل الانتقال إلى الكتابات التي وُجدت في شبه الجزيرة العربية، أجد من الضروري الإشارة إلى دراسات الباحثة الأميركية «دنيس شماندت بسرت»، التي أشارت فيها -بذكاء- إلى أن عمليات التنقيب في معظم مواقع الشرق القديم والعائدة إلى الفترة من الألف التاسع إلى الألف الرابع قبل الميلاد، قد كشفت عن قطع طينية صغيرة بأحجام هندسية مختلفة أسمتها الرموز (Tokens)، وافترضت أن هذه الرموز استعملت سجلات لحفظ ما له علاقة بالأعمال العامة ومنها الشؤون المنزلية، وكانت هذه الرموز تُحفظ متفرقة في صناديق أو سلال أو تُثقب وتُشد بخيط معاً، ثم حُفظت لاحقاً في كرات طينية مجوفة مغلقة، وفي فترة لاحقة أخذ بتسجيل ما في داخل هذه الكرات الطينية على سطحها الخارجي، بحيث أصبحت هذه الكرات ألواحاً كتابية. وقد أثبت هذه الملاحظة الذكية من «شماندت سرت»، الأثري «ليو أوبنهايم» الذي نشر سنة 1959م لوحاً طينياً بشكل بيضة عُثر عليه في مدينة «نوزي» (يورغان تبه، قرب كركوك)، العائد إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وبعد كسر اللوح الطيني البيضاوي الشكل تبين أن في داخله ثماني وأربعين حصوة صغيرة، مطابقة لعدد الحيوانات المذكورة في النص السومري. والواقع أن هذه الكرات البيضاوية جاء أغلبها من موقع الوركاء خلال الفترة بين منتصف الألف السابع قبل الميلاد إلى منتصف الألف السادس قبل الميلاد (6500 - 550 ق. م)، وهذا الأمر في تصورنا الشخصي يعطي الأفضلية للشعب السومري في اختراع الكتابة التي انتقلت إلى مناطق العالم القديم. كتابات الجزيرة العربية تغطي شبه الجزيرة العربية مساحة مقدارها «3.134.702» ميلاً مربعاً، تحتل المملكة العربية السعودية المساحة الأكبر منها، إذ تزيد مساحتها على المليونين من الكيلومترات المربعة. وهذه الجزيرة التي قد تُعد من حيث المساحة الأكبر في العالم، جاءت في موقع استراتيجي متميز، يربط بين قارات العالم المهمة، فهي حلقة الوصل بين القارتين العجوزين أفريقيا وآسيا، والأخيرة تقع فيها الجزيرة العربية، كما أنها تربط بين قارة أوروبا وآسيا بطريق غير مباشر. وهذا الموقع الاستراتيجي الذي حباها به خالق الكون، تفضل عليها أيضاً بإنسان اختار الله جل وعلا لغته لتكون هي لغة آخر أنبيائه وآخر كتبه الدينية: القرآن الكريم، بل إنه عز وجل ميّزها حسب مصادرنا الإسلامية فجعلها لغة أهل جنته (جعلنا الله منهم). ومع التحول البيئي لهذه المنطقة، وتحديداً قبل العصر الحجري القديم، تحولت نسبة كبيرة من مساحتها إلى صحارٍ قاحلة، ويظهر أن الله عز وجل بهذا التحول، أراد الخير ليس فقط لإنسانها بل للبشرية جمعاء، إذ نتيجة لهذا الجفاف تصارعت قبائلها وشعوبها فأدى هذا الصراع على مصادر الحياة وهي المياه إلى هجرة جل قبائلها وشعوبها شمالاً وجنوباً، فوصل إنسانها إلى العراق وسوريا الكبرى وإلى مصر حتى المغرب العربي غرباً، فعمّر هذه الأراضي وأسّس الممالك والإمبراطوريات، مثل: الأكادية والأشورية والبابلية في بلاد الرافدين أرض النخيل، والأشورية والتدمرية في سوريا، والفينيقية في لبنان وغيرها. ومع هذه الهجرات المتتالية، وآخرها في العصر الحديث هجرة العقيلات من نجد، إلا أن التواصل الحضاري بين القبائل التي فضَّلت البقاء في الجزيرة وإعمارها مع تلك التي هاجرت ظل مستمراً، ونجد أدلة هذا التواصل في الكتابات البابلية التي نجدها على سبيل المثال بتيماء في المملكة العربية السعودية. وقد دلت الدراسات الحديثة على أن عدد المواقع العائدة إلى العصور الحجرية القديمة يفوق العشرة آلاف موقع فقط في منطقة نجد قلب شبه الجزيرة العربية، ولا يوجد موقع على وجه الأرض -حسب علمي- يحوي هذا الكم الهائل من المواقع الأثرية العائدة إلى العصور الحجرية. أنواع الكتابات تنقسم الكتابات المنتشرة في الجزيرة العربية إلى قسمين هما: المحلي وغير المحلي، بالنسبة إلى الثاني فهي كتابات نجدها بكميات محدودة، ويمثلها: السومرية، البابلية، والأشورية، واليونانية، واللاتينية، والعبرية، والمصرية القديمة. أما المحلية فتنقسم من حيث الخط إلى قسمين، هما: ما نعرفه بالمسند ونجده ينقسم أيضاً إلى قسمين شمالي وجنوبي، الشمالي كتاباته المسماة بالثمودية واللحيانية والصفائية. أما القسم الآخر فهو اللهجات الجنوبية، وهو قلم (خط) لعدد من اللغات أو اللهجات عند البعض- مصدره الأصلي جنوب شبه الجزيرة العربية، وقد استخدمه عدد من شعوب وممالك اليمن القديم. سمّاه البعض خطأً اللغات الصهيدية نسبة إلى مفازة رَمْلة صهيد (رَمْلة السبعتين)، مستنداً في ما يبدو إلى إحاطة أشهر الممالك اليمنية القديمة، مثل: سبأ، وحضرموت، ومعين، وقتبان، بهذه المفازة (رَمْلة صهيد)، التي تمتد شمالي غربي وادي حضرموت إلى مدينة مأرب من ناحية الغرب، وفي الشرق تمتد حتى أراضي حضرموت الصحراوية، في حين يحد هذه المفازة من جهة الشمال صحراء الربع الخالي. ونرى أن خط المسند الجنوبي قد تطور من الخط الثمودي المبكر الأقدم زمنياً، بخلاف ما يراه البعض من أنه قد تطور من خط يُعرف باسم «الخط العربي، الخط الأم أو الخط العربي القديم» (Proto-Arabic)، الذي تطور من الخط الكنعاني القديم (Proto-Canaanite)، وذلك في حدود القرن الثالث عشر قبل الميلاد (1300 ق.م). الكتابة الشعبية أهم هذه النقوش من الناحية الاجتماعية في تصوري هي تلك التي نسميها الثمودية وأسميها أنا «الكتابة الشعبية» ليس فقط لأنها الأكثر انتشاراً بين قبائل الجزيرة العربية فحسب، فنحن نجدها منتشرة بشكل لافت في شبه الجزيرة العربية، وإنما لأن مضامين نقوشها تعكس أمور وأحوال الإنسان البسيط: أحاسيسه وشعوره وأمراضه وتوجهاته وعشقه وحبه وكرهه، وغضبه وفرحه... إلخ، ولم نجد منها مع أن عددها يفوق عشرات الآلاف ما يمثل السلطة السياسية، بمعنى آخر أنها عكس بقية الكتابات التي غلب على بعضها الطابع الرسمي الحكومي. ومثلما وجد الإنسان البسيط في وقتنا الحاضر وسائل الاتصال الاجتماعي مسرحاً للتعبير عن أحاسيسه ومشاعره عكس الإعلام الرسمي الذي وضع عوائق وحواجز فأصبح فئوياً طارداً، وجد إنسان ذلك العصر البسيط في هذا الخط غاياته سواء كان في الجوف أو تبوك أو تيماء في الشمال أو القصيم والرياض في الوسط أو في أبها وجيزان ونجران في الجنوب، لذلك من خلال مضامينها وانتشارها نجد أن تسميتها الكتابة الشعبية (الخط الشعبي)، أمر مناسب إلى حد كبير. ونظراً إلى أن هذه الكتابة استخدمت لمدة طويلة بلغت على أقل تقدير «1300» عام، من 900/ 800 قبل الميلاد إلى 400 ميلادية، فهي تنقسم من حيث الخط إلى: الثمودي المبكر والمتوسط والمتأخر. الكتابات الآرامية أما القسم الآخر من الكتابات، فهو الآرامية (المعروف منها في شبه الجزيرة العربية: الآرامية القديمة والآرامية الدولية)، والنبطية والتدمرية. بالنسبة إلى الآرامية القديمة كانت منتشرة في منطقة العلا، وتحديداً في عاصمة لحيان «ددن»، التي وجدنا بها نقوشاً تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد، أما الآرامية الدولية فنجدها في مناطق متعددة في الجزيرة ومنها: تيماء، والعلا، وجبال كوكب في المملكة العربية السعودية، وكذلك في الإمارات العربية المتحدة. وأما النبطية والتدمرية فتنتشران في شمال وشمال غرب الجزيرة العربية، والأولى أي النبطية اشتق منها الحرف العربي الحالي. وهي تتكون من «22» حرفاً، و«28» صوتاً، مثل العربية التي استعارت الإعجام للتفريق بين الأشكال المتطابقة في الشكل، مثل: الباء والتاء والثاء، أو الخاء والحاء. ونشير هنا إلى أن الإعجام كان معروفاً ومستخدماً وإن كان على نطاق ضيق في النبطية للتفريق بين الراء والدال أو السين والشين. والمؤكد أن الأنباط قبائل عربية هاجرت، على الأرجح، من شمال القصيم في القرن السادس قبل الميلاد إلى البتراء مستفيدين من الغزو الفارسي للمنطقة والذي فَرّغَ البتراء من أهلها الأدوميين، فاستقروا بها بمفاهيمهم الصحراوية لكن احتكاكهم لاحقاً بالممالك والشعوب المعاصرة شجعهم على تبني مفاهيم مغايرة لمفاهيمهم الصحراوية لاحقاً. أما كيف ظهر الحرف النبطي فلعله يعود في بداياته إلى غزو المقدونيين لمدينتهم المحصنة البتراء في القرن الرابع قبل الميلاد، مما اضطرهم إلى الكتابة للإمبراطور المقدوني مبررين ملابسات الهجوم على الحاميات المقدونية التي تركها الجيش في المنطقة بعد عودته إلى دمشق. وهكذا ظهر الخط النبطي المشتق من الخط الآرامي الدولي والذي انتشر لاحقاً ليس فقط في شبه الجزيرة العربية، بل وخارجها في سوريا ومصر وغيرهما من مناطق العالم القديم. وكوَّن الأنباط مملكتهم التي استمرت قرابة ثلاثة قرون، ونعرف منهم بشكل مؤكد «11» ملكاً، وقد عانت كثيراً من التدخلات اليهودية والبطلمية، وانتهى الحكم النبطي تقريباً في سنة 112م تنفيذاً لقرار الإمبراطور الروماني سنة «106م» الذي رأى ضمها إلى الإمبراطورية الرومانية. خط المصريين المقدس مبرر المصري القديم ينحصر -حسب رأينا- في فكرة الروح والخير والبحث عن المعنى والوصول إلى الحكمة، فالحضارة المصرية هي حضارة الكيف مقابل حضارة الكم الرافدية، وحضارة العمق مقابل الحساب والقياس الرافدية السومرية. فالدارس الحصيف لتاريخ مصر القديم يعرف أن هذه الحضارة التي تتميز بالصبر والتأني وتجسيد المعاني والأفكار الروحية، ليست إلا حضارة رمزية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، وإن انتحالها للخط الرباني المقدس (الهيروغليفي) لم يكن من باب المصادفة، وإنما لتحقيق وسيلة التعبير بالرمز، فهي حضارة المعنى والنظر دوماً إلى المعاني الرمزية والجوانب غير المرئية، وهي تنحو دوماً للبحث عن العلة في الأحكام إلى الخير الكامن وراء ما تقرره السماء، وما يخفى وراء الخط واللون، حضارة العمق الديني الذي يعبر عن الأعماق من خلال الرموز والإشارات. السومريون.. سادة الكتابة تشير دراسات الباحثة الأميركية «دنيس شماندت بسرت» -بذكاء- إلى أن عمليات التنقيب في معظم مواقع الشرق القديم والعائدة إلى الفترة من الألف التاسع إلى الألف الرابع قبل الميلاد، قد كشفت عن قطع طينية صغيرة بأحجام هندسية مختلفة أسمتها الرموز (Tokens)، وافترضت أن هذه الرموز استعملت سجلات لحفظ ما له علاقة بالأعمال العامة ومنها الشؤون المنزلية، وكانت هذه الرموز تُحفظ متفرقة في صناديق أو سلال أو تثقب وتشد بخيط معًا؛ ثم حُفظت لاحقاً في كرات طينية مجوفة مغلقة؛ وفي فترة لاحقة أخذ بتسجيل ما في داخل هذه الكرات الطينية على سطحها الخارجي، بحيث أصبحت هذه الكرات ألواحاً كتابية. وقد أثبت هذه الملاحظة الذكية من «شماندت سرت» الأثري «ليو أوبنهايم» الذي نشر سنة 1959م لوحاً طينياً بشكل بيضة عُثر عليه في مدينة «نوزي» (يورغان تبه، قرب كركوك)، العائد إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وبعد كسر اللوح الطيني البيضاوي الشكل تبين أن في داخله ثماني وأربعين حصوة صغيرة، مطابقة لعدد الحيوانات المذكورة في النص السومري. والواقع أن هذه الكرات البيضاوية جاء أغلبها من موقع الوركاء خلال الفترة بين منتصف الألف السابع قبل الميلاد إلى منتصف الألف السادس قبل الميلاد (6500 - 550 ق. م)، وهذا يعطي الأفضلية للشعب السومري في اختراع الكتابة التي انتقلت إلى مناطق العالم القديم. مرض العربية.. وغيبوبة العبرية من الطريف أن اللغات في سيرتها تشابه إلى حد بعيد سيرة الإنسان، فهي تمرض مرضًا بسيطًا، أو مزمنًا، وأحيانًا تمر بغيبوبة طويلة جدًا، فعلى سبيل المثال كان الخط العربي يفتقد الإعجام الذي عالجه المسلمون باستخدامه لاحقًا، وهذا العلاج أخذه المسلمون من السريان والأنباط الذين استخدموا الإعجام، ولو أنه نادر في كتابة الثانية؛ أما مرضها المزمن، فهو منهج قواعدها واستخدامها للتشكيل، فدعا بعضهم إلى كتابة الكلمة العربية كما تنطق، وآخرون يرون ضرورة بقاء هذه القواعد المخالفة للنطق. ومن اللغات التي دخلت مرحلة غيبوبة، استمرت فترة طويلة من الزمن اللغة العبرية، فقد دخلت مرحلة الغيبوبة هذه منذ منتصف القرن السادس قبل الميلاد وتحديدًا عند بداية النفي البابلي سنة 587 ق. م، واستمرت في غيبوبتها مدة تصل إلى أكثر من ألفي عام، لكن أهلها عملوا على إخراجها من غيبوبتها هذه فأصبحت من اللغات المعترف بها عالميًا، بل إنه من المؤسف أن الأبحاث والدراسات العلمية التي تكتب بهذه اللغة يفوق عددها ما كتب باللغة العربية لغة القرآن الكريم، بل حتى ما كتب باللغة الصينية من أبحاث ودراسات. تثبيت الوجود الحضاري لعل فكرة الحق نشأت وسط الحضارة الرافدينية تحديدًا، بسبب الظروف البيئية القاسية التي هددتهم دومًا بالخراب والدمار الناتجين عن الفيضانات المفاجئة والعنيفة، فهذه الأوضاع المناخية كانت تهلك الحرث والنسل بصورة غير متوقعة، فتؤدي إلى الإفلاس والتدهور الاجتماعي الذي بدوره وَلَّدَ الظلم، لهذا عَمِلَ الرافدي على إيجاد الحق من خلال القانون، فقد كان مبرر عبادة هذه المعبودات وتقديسها، فضلاً عن قيامها بخلقه، هي صياغة القوانين، وسبب ظهور الملك أو الحاكم إنما كان لحماية القانون، أي الحق، ولنأخذ مثلاً تقديسهم لمردوخ الذي أقام النظام محل الفوضى. وإذا حق لنا أن نذهب بعيدًا في استجلاب الرموز وفي الاستعانة بمفتاح «الحق»، فإننا سنجد أن الخط الإسفيني (المسماري) يعبر عن روح الرافدي القديم لتثبيت وجوده الحضاري المهدد دومًا، فكما كان أجداده من أهل الرعي والانتجاع يثبتون خيامهم بالإسفين، فإنهم عدوا الخط، بما يحويه من حسابات وتحاسب وما يكتب به من قوانين ومواد محسوبة، كالإسفين الذي يحمي ويثبت الخيمة البدوية من الأتربة والعواصف، فالخط يحميه بحفظه للحقوق والقوانين. مضامين الكتابات تتلخص الموضوعات التي تناولتها هذه الكتابات، في الآتي: أ - نصوص تنظم الحياة العامة: وتنحصر في المراسيم التي أصدرها الملك أو شيخ القبيلة أو المعبد (المؤسسة الدينية)، وهذه المراسيم تعالج مواضيع متعددة، مثل: أنظمة السوق وتوزيع الأراضي واستثمارها وتنظيم مسائل الري... إلخ. ونجد من بينها قوانين تنظيمية للحقوق والواجبات، مثل: الملكية والبيع والشراء والزراعة... إلخ، وهذا النوع نجده في الكتابات العربية الجنوبية (كتابات المسند). ب - النصوص الدينية: وهي نقوش التقرب من المعبود، التي عرفتنا على عقائدهم الدينية وشعائر عباداتهم وطبيعة النذور والهبات والقرابين والمناسبات والأعياد. وذلك عن طريق الهبات والقرابين التي يهبونها لمعبوداتهم، إضافة إلى تلك المتعلقة أيضاً بالنذور الخاصة بالاعترافات العلنية. وتضمنت هذه النوعية من النصوص أسماء الآلهة. ونجدها في كتابات المسند الشمالي اللحيانية على وجه التحديد وكذلك المسندية الجنوبية، كما نجد نقوشاً دعوية كثيرة في الكتابات الثمودية. ج - نصوص الممتلكات (أعمال البناء): وهي النصوص المتعلقة بالمنشآت المعمارية أو توسيعها سواء الحكومية منها أو المتعلقة بالقبيلة أو الخاصة. د - الأعمال الحربية: وهي النقوش التي دوّنت لتمجيد المآثر والانتصارات الحربية للملوك والشخصيات الحاكمة المهمة، وهي تدون في العادة بعد العودة من معركة، وفيها يقدم القائد نذراً للآلهة والمعبودات حمداً وشكراً على عونها له في حربه، وتمثلها بشكل واضح نقوش المسند الجنوبي. ه - القبوريات: وهي النقوش المعروفة بمصطلح شواهد القبور، ويذكر فيها عادة اسم صاحب القبر كاملاً واسم قبيلته أحياناً، وأحياناً تتضمن إنذارات وتهديدات لمن يفكر بتخريب أو العبث بالنص أو القبر، ونجد هذا النوع بشكل واضح في النقوش الحسائية والنبطية والتدمرية إضافة إلى عدد من نقوش المسند الجنوبي. و - النصوص التذكارية: وهي النصوص التي يغلب عليها الجانب الشخصي التذكاري، وتتضمن أسماء أعلام شخصية ودعوات إلى الآلهة أو خواطر شخصية، دوّنها المرافقون أو المشاركون في القوافل التجارية على الصخور وحجارة سفوح الجبال وجوانب الأودية، ويمثل أكثرها النقوش الثمودية والصفائية والنبطية والحميرية. * مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©