الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجزيرة العربية.. عمقنا التاريخي

الجزيرة العربية.. عمقنا التاريخي
1 فبراير 2017 18:54
الشيء اللافت للانتباه هو أنه حتى العرب الذين لم يولدوا في الجزيرة العربية يشعرون وكأنها أمهم التاريخية أو مهدهم الأصلي العريق. هذا هو شعور السوري والمصري واللبناني والفلسطيني إلخ... أو على الأقل هذا هو شعوري الشخصي. وبقدر ما أستطيع أن أعود في الذاكرة إلى الوراء فإني أشعر بأن قحطان وعدنان والغساسنة والمناذرة هم من أجدادي. وقل الأمر ذاته عن تيم وتغلب وقضاعة وربيعة وشمر وغطفان وكندة وقيس عيلان وكل قبائل العرب. أما حاتم الطائي الذي يجسد المثل الأعلى في الكرم العربي فهو شخص شبه مقدس بالنسبة إليّ. وأمجاد العرب هي جزء من ذاكرتي وتاريخي. وبالطبع فإن الشعر الجاهلي هو كنز الكنوز. إنه يمثل باكورة الشعر العربي أو فجره الأول. لقد تربينا على تمجيد أسماء امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد إلخ... من منا لا يتذكر المعلقات؟ أو من منا لم يحاول حفظها عن ظهر قلب يوماً ما عندما كنا في الثانوي أو حتى الإعدادي؟ يضاف إلى ذلك أن الأدب الشعبي الذي تربينا عليه في طفولتنا الأولى لعب أيضاً دوره في شدنا إلى الجزيرة العربية وأسمائها وقيمها ومعالمها وقبائلها وأماكنها حتى قد أصبحت «تغريبة بني هلال»- مثلاً- وكأنها تشكل «لاوعينا» الجمعي أو الجماعي كعرب. أتذكر أني كنت مشغوفاً بتلك الملحمة الهائلة التي تبتدئ بالبيت الشهير: يقول الزير أبو ليلى المهلهل! كنا نذوب ذوباناً عندما نسمع حكايات الفروسية والبطولة. كنا ننصهر فيها انصهاراً. وكنت أنا من جماعة أبي زيد الهلالي في حين أن ابن جيراننا كان من جماعة زيدان. وكنا نشتبك بالأيادي بسببهما. وكانت حياة الصحراء والنخيل والقوافل جزءاً لا يتجزأ من عالمنا الخيالي حتى لو ولدنا في بلدان ومناطق لا أثر لذلك فيها. أتذكر أني لم أر شجرة النخيل لأول مرة إلا في المغرب أو تونس. وعندما رأيتها ذبت فيها غراماً وشعرت كأنها شجرتي لأنها رمز العرب والعروبة. وعلى ذكر قحطان وعدنان والصراع التاريخي بينهما ليسمح لي القارئ الكريم أن أقص عليه النادرة التالية. عندما وصلت إلى مدينة بيزانسون الفرنسية لتعلم اللغة كنا نذهب في وقت الغداء إلى المطعم الجامعي بطبيعة الحال. وكنا نقف في صف طويل عريض قبل أن يجيء دورنا للدخول. وفي أثناء ذلك ما عليك إلا الانتظار الممل. ولكي تنساه فإنك تدخل في أي حديث مع أي طالب آخر. وفي أحد الأيام سألني الشخص الذي كان أمامي في الصف: من أي بلد أنت؟ قلت له: من سوريا. فرحب بي. ثم سألته بدوري: وأنت من أين حضرتك؟. فأجابني: من مهد العرب الأول. قلت له: يعني من السعودية؟ فحملق بي حملقة مفزعة ونظر إليّ نظرة غاضبة اضطرتني إلى التراجع قليلاً إلى الخلف. ثم زمجر: قلت لك من مهد العرب يا رجل! ألا تسمع باليمن؟ فاعتذرت إليه من جهلي وغبائي غير المقصود. والواقع أن الجزيرة العربية مقسومة إلى قسمين كبيرين: عرب الجنوب وعرب الشمال، عرب قحطان وعرب عدنان. وبالتالي فلنا جدان كبيران لا جد واحد. وقد آن لهما أن يتوافقا ويتصالحا. فهما أخوان وشقيقان. حضارة الجزيرة قبل الإسلام قبل أن أدخل في صلب الموضوع سوف أروي لكم نادرة أخرى أهم وأخطر من السابقة بكثير. لقد فوجئت وأنا أحضر نفسي للكتابة بمقالة للباحث الفرنسي فريدريك ليوينو عنوانها شديد الوضوح والدلالة: «الحضارة: نحن جميعاً عرب»! لأول وهلة لم أصدق ما سمعت أو ما قرأت عيناي. ولكن بعد الاطلاع عليها وجدت أنه لا يمزح. وإنما يعتمد على آخر اكتشافات علماء الوراثة البيولوجية في الجامعات الأميركية. يقول لنا هذا الاكتشاف المذهل إن جميع الأقوام البشرية ما عدا الأفارقة هم من أصل عربي. بمعنى أن الإنكليز والفرنسيين والألمان والصينيين والهنود والروس إلخ كلهم صادرون عن أصل واحد أو عن أسلاف مشتركين. وهؤلاء الأسلاف هم سكان الجزيرة العربية. نقطة على السطر. من يصدق ذلك؟ أعترف بأني ذهلت ودخت. ثم يضيف الباحث قائلاً: «ينبغي العلم بأن الإنسان الحديث أو ما يدعى بالإنسان العاقل المفكر كان قد ظهر في شرق أفريقيا قبل مئتي ألف سنة. ثم استغل في إحدى اللحظات انخفاض المياه وعبر البحر الأحمر لكي يضع قدمه على أرض الجزيرة العربية. وكان ذلك في سلطنة عمان أولاً قبل أن ينتشر في مختلف مناطقها وأرجائها. لكن انتبهوا! اسمعوا وعوا أيها الناس! لم تكن الجزيرة العربية آنذاك صحراء قاحلة ماحلة وإنما كانت جنات تجري من تحتها الأنهار! فعندما وصل جدنا الإنسان القديم إليها وجد غابات وبحيرات، وسواقي وأنهاراً. كان المناخ عليلاً والأمطار غزيرة والبراري الخضراء المعشوشبة منتشرة على مد النظر. وبالتالي فغيروا صورتكم كلياً عنها وانقلبوا بزاوية 180 درجة. والواقع أن الجزيرة العربية ظلت كذلك حتى إلى ما قبل ألفين أو ثلاثة آلاف سنة وربما أقل. وهذا يعني أن الجزيرة العربية ليست فقط مهد العرب وإنما مهد البشرية كلها!». لكن بعد هذا الغوص في الزمن السحيق البعيد الذي يتجاوز أفهامنا وعقولنا دعونا نعد إلى أرض الواقع ونتحدث عن جزيرتنا العربية في الزمن المعقول القريب أي ما قبل ألفي سنة فقط أو حتى ألف وخمسمائة سنة. فماذا نجد؟ تقول لنا الحقائق التاريخية المدعومة من قبل المراجع الأجنبية الأكاديمية ما معناه: إنه لشيء مستهجن جداً تلك الصورة التي تصور العرب على أساس أنهم حفاة عراة متوحشون همجيون.. على العكس من ذلك تماماً. فما كانوا بدائيين قط قبل ظهور الإسلام. وإنما كانت لهم حضارة مشرقة تمثلت في عدة ممالك ومواضع: كمملكة سبأ في اليمن، ومملكة تدمر في سوريا، ومملكة النبطيين في البتراء بالأردن. إلخ..ولا ننسى إمارة الغسانيين في جلق بالقرب من دمشق، أو إمارة اللخميين في الحيرة. من يتذكر حسان بن ثابت عندما زارهم في الجاهلية وقال فيهم قصيدته العصماء: أسألت رسم الدار أم لم تسألِ بين الجوابي، فالبضيع، فحوملِ لله در عصابة نادمتهم يوماً بجلق في الزمان الأولِ يُغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبلِ يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسلِ وهل تتذكرون قصيدة النابغة الذبياني في الغساسنة أيضاً؟ مطلعها أشهر من نار على علم: كليني لهم يا أميمة ناصبِ وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت كتائب من غسان غير أشائبِ ثم هل تتذكرون قصيدته المشهورة عن زوجة النعمان بن المنذر المدعوة بالمتجردة؟ وكانت من أجمل نساء دهرها. كل ثقافتي الغرامية ناتجة عن تلك الأبيات الشعرية الخالدة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليدِ بمخضب رخص كأن بنانهِ عنم يكاد من اللطافة يعقدُ زعم الهمام بأن فاها باردِ عذب إذا قبلته قلت ازددِ زعم الهمام ولم أذقه بأنه يُروى بطيب لثاتها العطش الصدي من قال بأن العرب ليست لديهم حضارة قبل الإسلام؟ من قال بأنه ليست لهم ثقافة؟ إن ثقافتهم شعراً ونثراً ضاربة في أعماق التاريخ. إنها من أرقى وأنعم ما يكون. ولكن الإسلام هو الذي وصل بها إلى حدود الكونية. إنه مجدهم الأعظم ورسالتهم إلى العالم. يضاف إلى ذلك شيمهم الرفيعة التي اعترف بها العديد من الرحالة الأجانب والمستشرقين المنصفين الذين زاروا المنطقة. وتقف على رأسها قيم الشهامة والكرم والأريحية والشجاعة والفروسية هذا ناهيك عن الصدق والوفاء والترفع عن الدنايا والمخازي. ثم هناك الأنفة والإباء والصبر والقناعة. ولا ننسى السماحة والحلم وعمق التفكير. كل هذه من شيم العرب الحقيقيين. ومعلوم أن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس الدولة، طيب الله ثراه ،كان يلقب «بحكيم العرب» نظراً إلى سداد رأيه وبعد نظره. حضارة الصحراء نعم هناك حضارة للصحراء! هناك أجواء وعوالم فاتنة في الصحراء. هناك فضاء مفتوح على المطلق، مطلق الله.. ما قرأت مرة قصائد الشعر الجاهلي التي تبتدئ بالوقوف على الأطلال إلا وأصابتني قشعريرة. كل أعماقنا العاطفية مجبولة بالبكاء على الأطلال، بالتحسر الحارق على الحب المنصرم. هنا أيضاً تكمن عظمة العرب، عبقرية العرب. فالتفجع على الحب من سماتهم الرئيسة. إنهم شعب عاشق. على أي حال هناك حرية بلا قيود في الصحراء. وهناك أيضاً عادات وتقاليد ومثل عليا. الحضارة ليست محصورة بالمدن «يا جماعة»! من بين الرحالة الأجانب أو المستشرقين الدارسين الذين أعجبوا بحضارة الصحراء وشيم العرب نذكر اسمين اثنين: الأول إنجليزي والثاني فرنسي. وكان يمكن أن نذكر عشرات الأسماء ولكن ضيق المجال لا يسمح لنا بذلك. فهذا يتطلب مجلداً كاملاً أو حتى عدة مجلدات لأن الرحالة والمستكشفين الأوروبيين ابتدؤوا يهتمون بنا بشكل منهجي منذ أواسط القرن الثامن عشر. والواقع أن المعرفة العلمية بالجزيرة العربية لم تبدأ حقاً إلا عام 1762 على يد بعثة استكشافية أرسلها ملك الدانمارك فريدريك الخامس. ومن بين أعضائها الستة لم يعد إلا شخص واحد. لقد وصف هؤلاء عالم الجزيرة العربية من كل النواحي: المادية والفكرية. لقد درسوا تضاريسها وآثارها وطبيعتها ومناخها. كما درسوا أشجارها ونباتاتها وعصافيرها وأزهارها. وفتنوا بأجوائها الهادئة النقية الصافية التي لم تصل إليها الحضارة الغربية بعد. من بين هؤلاء المستشرق الإنجليزي الذي سأتوقف عنده قليلاً ويلفريد ثيسغير (1910- 2003). كان هذا الباحث الكبير والرحالة الجسور قد شعر بعد الحرب العالمية الثانية بأن عالم البداوة الذي أحبه كثيراً سوف يندثر. فالحضارة الحديثة سوف تزحف عليه وتزيله لا محالة. ولذلك كرس حياته لإنقاذ ذاكرة حضارة الصحراء من النسيان. يقول هذا الكلام الهائل: «سوف يذهب رحالة ومستشرقون غيري إلى هناك لكي يدرسوا طبقات الأرض والآثار والنقوش وما إلى ذلك. وسوف يتنقلون هناك بالسيارات ويستخدمون الهواتف للاتصالات. ولكنهم لن يستكشفوا أبداً روح البلاد ولا عظمة العرب». فالصحراء النقية الصافية هي روح العرب. وهذا أكبر دليل على أنه كان يحب الجزيرة العربية فعلاً ويعرف معنى حضارة الصحراء. نعم لقد عشق حياة البداوة عشقاً وأغرم بها إلى أقصى حدود الغرام. ولم يكن يتردد لحظة واحدة، وهو الإنجليزي الحضاري المنعم، عن الاندماج مع البدو الرُّحل لكي يعيش حياة البساطة بعيداً عن صخب المدن وضجيجها. هل كان متأثراً بجان جاك روسو يا ترى؟ لا أعرف. ولكنه يلتقي معه في نقطة واحدة: تمجيد حياة الفطرة والبراءة والعودة إلى الحياة الطبيعية البكر التي لا تشوبها شائبة. على أي حال لقد كرس هذا الباحث الإنجليزي خمس سنوات من عمره لاكتشاف الجزيرة العربية برفقة البدو الرحل. ونتج عن هذه الرحلة الاستكشافية كتابه المهم: «صحراء الصحارى». لاحظوا العنوان. إنه يذكرني ببيت المتنبي الشهير: لقيت المروري والشناخيب دونه ... وجبت هجيراً يترك الماء صاديا إذا كان الماء عطشان فما بالك بنا نحن؟ حتى الماء يعطش عند المتنبي ولكن فقط في صحراء الصحارى، أو الربع الخالي.. أما المستشرق الثاني الذي أمضى عمره أيضاً في استكشاف الجزيرة العربية وحضارتها وتراثها فهو الباحث الفرنسي: روبير مونتانيي (1893- 1954). وقد اشتهر هذا الباحث المحترم بكتاب يدعى بكل بساطة: «حضارة الصحراء». وهو حصيلة ربع قرن من الرحلات الاستكشافية والأبحاث الميدانية في شتى أنحاء الجزيرة العربية. وفيه يصف لنا حياة الصحراء من كل جوانبها. صحيح أنها حرة، رائعة، ولكنها قاسية جداً ومهددة دائماً على حد قوله. مهد البشرية الإنسان الحديث أو ما يدعى بالإنسان العاقل المفكر ظهر في شرق أفريقيا قبل 200 ألف سنة، ثم استغل في إحدى اللحظات انخفاض المياه وعبر البحر الأحمر لكي يضع قدمه على أرض الجزيرة العربية. وكان ذلك في سلطنة عمان أولاً قبل أن ينتشر في مختلف مناطقها وأرجائها. لم تكن الجزيرة العربية آنذاك صحراء قحلاء محلاء وإنما كانت جنات تجري من تحتها الأنهار! فعندما وصل جدنا الإنسان القديم إليها وجد غابات وبحيرات، وسواقي وأنهاراً. كان المناخ عليلاً والأمطار غزيرة والبراري الخضراء المعشوشبة منتشرة على مد النظر. والواقع أن الجزيرة العربية ظلت كذلك حتى إلى ما قبل ألفين أو ثلاثة آلاف سنة وربما أقل، وهذا يعني أن الجزيرة العربية ليست فقط مهد العرب وإنما مهد البشرية كلها! روح العرب سوف يذهب رحالة ومستشرقون غيري إلى هناك لكي يدرسوا طبقات الأرض والآثار والنقوش وما إلى ذلك. وسوف يتنقلون هناك بالسيارات ويستخدمون الهواتف للاتصالات، ولكنهم لن يستكشفوا أبداً روح البلاد ولا عظمة العرب. ولفريد ثيسجر
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©