الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إعلام التحريض: ذاكرة العنف والقذف.. وابنة «التلال الألف»!

30 يوليو 2014 00:07
حسن ولد المختار كاتب صحفي في كل شرائع السماء وقوانين الأرض هنالك مسؤولية مشتركة، وعقوبات مغلَّظة، لكل من يقترف جرم القتل والإبادة وإزهاق الأرواح البشرية دون وجه حق، ومن يتواطأ معه أو يحرّضه على اقتراف فعل القتل. وفي كثير من الأحيان يكون الشريك المحرِّض والمتواطئ هو المتهم الأول والقاتل الأصيل، في حين قد يكون القاتل المباشر المغرَّر به مجرد أداة ساذجة يبقى الاكتفاء بمعاقبتها ضرباً عبثياً من مساءلة الرَّمية، وترك الرامي نفسه! هذا إن لم يكن هو ذاته ضحية من ضحايا القاتل المحرض المحترف. وطبعاً لا عذر للشريك حتى لو أخذ مسافة أمان ظاهرة من فعل القتل المباشر، لزُوم تضليل العدالة وطمس معالم الجريمة، لأن قرينة الاشتراك وحدها تكفي، إذ إن المرء، حتى لو استعان بملاعق طويلة جداً، لا يمكن أن يتناول طعام العشاء مع الشيطان على مائدة واحدة، دون أن تكون هنالك مشتركات إجرامية بينهما! وقديماً قيل: عن المرء لا تسأل وسلْ عن قرينه، لأن الاقتران في حد ذاته قرينة، يعتد بها، قانونياً وأخلاقياً! وفي ظل قوة وسطوة -وأحياناً قسوة- الإعلام السمعي- البصري في عصرنا هذا، وقدرته على غسل الأدمغة وتضليل وتشكيل توجهات الرأي العام، خاصة في أيام المشاكل والقلاقل والاضطرابات والمحن والفتن، أثبتت بعض المحطات الإعلامية المنحرفة، أو ذات الأجندات المبيّتة، قدرة القاتل المحرض على أن يكون هو القاتل الحقيقي الأصيل، مع سبق الإصرار والترصد، وبالمعنى الحقيقي، لا المجازي، لفعل القتل نفسه. وهنا في هذه الحفريات الاستقصائية في الذاكرة الإعلامية نتتبع قصة إذاعة وقناة، شاركتا بالقول والفعل، في إبادتين كبيرتين، هما الإبادة الرواندية وما يمكن تسميته أيضاً، دون كثير مبالغة، «ربيع» الإبادة العربية. مع اندلاع أهوال الإبادة الجماعية لأقلية «التوتسي» في رواندا يوم 7 أبريل 1994، لعبت «إذاعة وتلفزيون التلال الألف» Radio Télévision Libre des Mille Collines العنصرية التحريضية دوراً فاق كل تصور في تأجيج نيران الفتنة والعنف، والمشاركة في أعمال القتل الجماعي، وحتى الانخراط الجُرمي بالمعنى الحرفي التقليدي للعبارة، خاصة إذاعة «التلال الألف»، المسموعة واسعة الانتشار، بتوليها «شحذ الهمم» والإرشاد على أماكن اختباء وتجمع المدنيين «التوتسي» العُزل الفارين المفجوعين المروّعين، وتواطئها وتحريضها على قتلهم دون رحمة! حيث تحولت في لمح البصر إلى «غرفة عمليات» لأعمال القتل والسحْل والتنكيل، وكانت تذيع بيانات وتفاصيل مستعجلة تصلها من «شهود عيان» و«ناشطين» في الميدان، موجهة للمليشيات العنصرية من مسلحي «الهوتو باور»، مفادها أن مبنى عمومياً أو مدرسة أو كنيسة أو ملعباً أو ملجأ ما، في أحد أحياء العاصمة الرواندية كيجالي أو في إحدى المدن والبلدات الأخرى، يختبئ فيه الآن مئات من «التوتسي»، وأن على «القوى الحية»، الثورية، الوطنية، الرواندية، الذهاب إلى هناك لـ«أداء المهمة» و«إتمام العمل» في أسرع وقت ممكن، خدمة للوطن والحرية، والديمقراطية، والشعب، ولتحقيق أهداف الثورة، أو لنقل بلغة هذا الزمن لإنجاح «الربيع الرواندي»، وتطبيقاً لفتوى «مفتي رواندا»، و«رئيس الاتحاد العالمي لعملاء التكفيريين»! ومن اللافت حقاً أن تلك الإذاعة التحريضية كانت تستخدم فعلاً صفة «إنينْزي» لوصف ضحايا الإبادة «التوتسي»، وهي كلمة تعني باللغة الرواندية «الكفار».. كما كانت في بداية أعمال الإبادة تستخدم أيضاً كلمة سر «كودية» هي: «اجتثوا جميع الأشجار الكبيرة» للإشارة إلى ضرورة قتل جميع «التوتسي» دون استثناء، هذا قبل أن تتخلى سريعاً فيما بعد عن كلمات السر والترميز المواربة تلك، وتدخل على خط الدعاية للإبادة بلسان فصيح، وباللفظ الصريح، ليقود مراسلوها في العراء جموع الهمج والرعاع الغوغاء المسلحين بالعصي والحراب والمطاوي والسكاكين، وهم يركضون خلف نساء وأطفال «التوتسي» في الغابات والأحراش ويفصلون رؤوسهم عن رقابهم، ويشعلون النار في جثثهم وأعقابهم! إكمال «المهمة».. وأداء «العمل» وكانت النتيجة التي تتبع استقبال بيانات التحريض المسعورة تلك هي ذاتها دائماً، حيث يتوجه إلى المكان المحدد المئات من أفراد العصابات العنصرية من «الهوتو» أو من مسلحي «الهوتو باور» -بلغة اليوم «الكتائب الحرة»- أو حتى الجيش الرسمي «القوات المسلحة الرواندية» FAR لأداء «المهمة» بقتل جميع المدنيين «التوتسي» من نساء وأطفال ومُسنين، والإجهاز على الجرحى والمكلومين وبقـْـر بطون الحوامل والتمثيل بجثث الأجنـَّـة. وكان الجيش الرسمي، ولو اسمياً، قد تفكك حينذاك عملياً إثر مقتل الرئيسين الرواندي والبوروندي بعد ضرب طائرتهما بصاروخ في مطار كيجالي يوم 6 أبريل 1994 أي قبل اندلاع أعمال الإبادة الواسعة بيوم واحد، ولذلك اعتبر مقتلهما هو الشرارة المباشرة التي أطلقت المجزرة.. وقد تحول الجيش الرواندي الاسمي بعد ذلك مباشرة إلى مليشيات عنصرية منفلتة، وآلة للقتل دون رحمة، يصلح تسميتها هي أيضاً «كتائب الهوتو» في مواجهة «ثوار» الجبهة الوطنية الرواندية المتحدة المعارضة. وكان مراسلو قناة و«إذاعة التلال الألف» هم رأس الحربة في المواجهات كافة وهم ينعقون، كغربان البيْن، بمراسلاتهم وسط خرائب بلدات الإبادة وسط الدماء والأشلاء والجثث، متنقلين بميكروفوناتهم النازفة من مسرح جريمة إلى آخر، متتبعين الضحايا «بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة»! إبادة 800 ألف إنسان في أسابيع وكانت حصيلة الدور التحريضي الرخيص الذي لعبته «إذاعة التلال الألف» في الإبادة الجماعية الرواندية كارثية بكل المقاييس، حيث حُمّلت الجزء الأكبر من المسؤولية عما جرى في أهوال الإبادة التي قتل فيها خلال قرابة ثلاثة أشهر 800 ألف إنسان وفق تقديرات الأمم المتحدة، وأكثر من مليون وفق الإحصاءات الرواندية، وقد كانت آلاف الجثث تكوّم ممددة على التلال، وترمى بالآلاف في بطون الأودية، وكانت العربات الثقيلة والآلات الزراعية تجرُّ عشرات آلاف الجثث الأخرى الممزقة أو المحترقة لإبعاد أذى رائحتها عن القرى والبلدات القريبة! وبقيت في النهاية مئات الآلاف من الجماجم والهياكل العظمية والأشلاء والمِزق البشرية مرمية في الطرقات والأحراش والأدغال، في واحدة من أشنع جرائم الإبادة التي عرفها التاريخ الإنساني، في كل الأزمنة والأمكنة. إدانة إذاعة «التلال الألف» واقتناعاً من المجتمع الدولي بدور أبواق الإعلام الرواندي في جرائم الإبادة، فقد أحيل بعض مسؤولي «إذاعة وتلفزيون التلال الألف» إلى قضاة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا التي عقدت جلسات محاكماتها بمدينة «آروشا» التنزانية، ومثـُلوا، بطبيعة الحال، في مقدمة المتهمين في جرائم الإبادة، وكمجرمين من الدرجة الأولى، وقد احتشدت في ملفات الادعاء آلاف الأدلة والقرائن والشواهد على الدعاية للقتل والتحريض والتواطؤ فيما جرى، ولذا لم تجد المحكمة أي صعوبة في إدانة بعض «إعلاميي» ومسؤولي تلك الإذاعة بيسر وسهولة، وأصدرت بضمير مرتاح عقوبات مغلظة بحقهم، جزاءً وفاقاً لما اقترفت ألسنتهم وأيديهم، وما تخضبت به حناجرهم ووجوههم وعدساتهم وأبواقهم الرخيصة من دماء المدنيين «التوتسي» العزل الأبرياء. الانتشار.. والإبادة وما زال بعض الباحثين الإعلاميين يدرسون حتى الآن الأثر المدمر لإسهام تلك الإذاعة الرواندية المشؤومة في كوارث الإبادة، وقد توقف بثها مع سقوط العاصمة كيجالي بأيدي المعارضة وانتهاء الموجة الكبرى من أعمال القتل الجماعي تلك. وكان إسهام «إذاعة التلال الألف» في الإبادة، من وجهة نظر بعض الباحثين الصحفيين، هو أقذر وأكبر وأخطر انحراف أخلاقي ومهني في تاريخ الإعلام بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك لوقوفها الفج والوقح دون مواربة وراء نشر ثقافة الكراهية، والنفخ في رماد الفتنة العرقية، والترويج لخطاب العنصرية، والضلوع في أعمال الجريمة المنظمة، والتخطيط لها، وقيادة جموع الغوغاء والدهماء لارتكاب أعمال مدانة قانونياً بشكل جماعي، وتواطئها في اقتراف فظاعات من الدرجة الأولى بحق الإنسانية. ومع أن تلك الإذاعة المشؤومة قد توقف بثها في يوليو 1994 فإن استمرارها أصلاً، خلال أشهر الإبادة نفسها، كان فضيحة ووصمة عار في جبين الإنسانية، خاصة أن استقالة المجتمع الدولي إزاء أحداث الإبادة الرواندية وسلبيته الشديدة، واكتفاء القوات الدولية بإجلاء الرعايا الأجانب، أو مراقبة ما يجري، قبل أن ينسحب معظمها، كل ذلك ترافق مع عمى وكسوف إعلامي خارجي، حيث لم يعرف الرأي العام الدولي العريض تفاصيل ما يجري حتى اكتمل أداء «المهمة» بقتل مليون إنسان، لتأتي القوات الفرنسية في «عملية تركواز» لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح، ولولاها لكان عدد ضحايا الإبادة بلغ ملايين عدة. وكان من اللافت، في دور الإذاعة وما حققته -للمفارقة- من انتشار إعلامي واسع، بسبب تغطيتها وتغذيتها للرعب والإرهاب، ما نقله مراقبون أجانب هناك خلال تلك الأيام، حيث كانوا يرون الفارين من مذابح الإبادة والحرب الأهلية وهم حفاة عراة يجرُون على وجوههم في الغابات لا يلوُون على شيء، وقد ألصقوا على آذانهم، مع ذلك، جهاز استقبال إذاعةٍ صغيراً مثبتاً على بث «التلال الألف»! عودة قناة «التلال الألف» ولئن كانت «إذاعة التلال الألف» قد توقفت في يوليو 1994 وأدين بعض القائمين عليها بعد ذلك بسنوات في محكمة الجنايات الدولية، فإن تقصير المجتمع الدولي في مواجهة إعلام العنف والقذف يكاد لا يقل في جسامته وقتامته عن تقصيره في توفير حماية لضحايا الإبادة الرواندية، حيث تعامل مع تلك الإذاعة كحالة تاريخية عابرة، ولم يتعامل معها بأسلوب وقائي استباقي كحالة ثقافية وإعلامية قابلة للاستدامة كلما توافرت شروط تكرارها واستنساخها، ولذلك استمرت ممارسات إعلام التحريض على العنف والإبادة ذاتها في سياق ثقافي آخر، وكأنه قد تمت إعادة تدوير التسمية في سنة 1996، وتزوير الأهداف، ورفع شعارات واتباع أساليب تستمد من تقاليد «التلال الألف» أصلها ومادتها، في قناة آخر همومها المهنية الإعلامية، والمسؤولية الأخلاقية، في فن الإخبار، ولم تكن الحصيلة أيضاً أقل دموية ولا عنفاً مما عرفته الحالة الرواندية. إبادة.. من لا إبادة له! ويذكّرنا الفارق الزمني بين إذاعة «التلال الألف» ومولد ربيبتها القناة، الذي لا يزيد على سنتين، بعلاقة البنوة الرمزية بين الاثنتين، حيث تمخضت الإذاعة، ووُلدت القناة، التي لم يزد حملها وفصالها على عامين، فوُلدت بفعل التراكم المزمن جاهزة أصلاً لأداء «المهمة» وإتمام «العمل» و«اجتثاث الأشجار الكبيرة» وإبادة كل من لا إبادة له، فبدأت منذ أول يوم لفظتها فيه القوابل وتخطفتها القوافل، وهي تلعب بحرفية مع «الكبار» في فنون العنف والإرهاب، فكانت ابتداءً هي الوكيل الحصري لعتاة المحتلين الإسرائيليين، حيث طبّعت معهم في كل بيت تطبيعَ أمر واقع، وحولت ميكروفوناتها وشاشاتها إلى رجع صدى لتصريحاتهم وبياناتهم، وتحولت شاشتها إلى مسرح خيال ظل للاحتلال، ونوع من «تلفزيون الواقع» للحياة اليومية في المستوطَن الصهيوني. القناة.. في «تورا بورا» ومثل الإذاعة سارعت القناة أيضاً لاحتضان عتاة القتلة والمرتزقة في أفغانستان، فتحولت إلى وكيل حصري لأشرطتهم المسجلة، وبياناتهم، وامتلكت في تنظيم «القاعدة» وحركة «طالبان» العديد من المصادر والمنابر، والعلاقات والتسريبات، لتتحول إلى اسم آخر للتنظيم والحركة، إلى حد جعل السلطات المحلية في مدينة نيوأورليانز الأميركية، مثلاً، تتوجس من مراسل لها حضر لتغطية كارثة إعصار «كاثرينا» لتشابه الأسماء بين القناة وتنظيم «القاعدة» بسبب كثرة ترابط ورودهما معاً في وسائل الإعلام، فظن بعض مسؤولي الولاية الأميركية المحليين أن القناة هي التنظيم.. وكم هم سذج حقاً أولئك الأميركيون! فالقناة تكاد تكون هي التنظيم حقاً وصدقاً لو يعلمون! «التطبيع» مع الاحتلال والإرهاب وبسرعة درجت القناة من التطبيع مع الاحتلال إلى «التطبيع» مع الإرهاب، فصارت لسان حاله وهي في المهد صبية، فاحتفلت مع ربيبها تنظيم «القاعدة» بجريمة 11 سبتمبر الإرهابية أيما احتفال، وسمّتها «غزوة مانهاتن»، وهي الجريمة التي تمت فيها إبادة ثلاثة آلاف مدني بريء في واشنطن ونيويورك، مئات منهم مسلمون، كما أبيد على خلفيتها أيضاً، عشرات الآلاف في أفغانستان والعراق، ضمن حروب الموجة الثانية في أجندة استحقاقات «غزوة مانهاتن».. وخلال سنوات الظلام والدم تلك، ظلت القناة وكيلاً حصرياً للتنظيم حاضرة في كل مكان، تنسق معه التحركات، وتغطي في ركابه وتحت حرابه، وعلى «المباشر» أحياناً، الهجمات الإرهابية والفظاعات الزرقاوية! ولكن بعد استنفاد كل ممكنات صداقة العمر والشراكة من فوق الطاولة -ومن تحتها- بين القناة والتنظيم، ساءت علاقة الطرفين فجأة بعد اتهام التنظيم لها بالتواطؤ مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «السي آي أيه» في القبض على بعض أخطر إرهابييه المخططين لجريمة 11 سبتمبر الذين انفردت القناة، بحكم صلتها الخاصة جداً بهم ولكونها فوق -وتحت- الشبهات، بلقاء «سري للغاية» معهم في باكستان، اعتقلوا بعده بلحظات، ودون تأخير، وربما في الوقت الحقيقي IRT للقاء نفسه. واعتبر تنظيم بن لادن حينها أن القناة قد أنكرت «الجميل»، وتنكرت أخيراً للخبز والملح، وقلبت له ظهر المِجن، ولو مؤقتاً.. وخاصة أن بعض صحفييها وأفراد خلاياها النائمة -والناعمة- كانوا يواجهون يومها محاكمات في عدة دول على خلفية العلاقة الإخطبوطية، بين التنظيم والقناة، وقد أدين بعضهم بالفعل، وقضوا سنوات محكوميتهم، فيما أقام آخرون في السجون، بما في ذلك معتقل جوانتانامو، سنين عدداً، ولبثوا هنالك مدداً. ومن اللافت الآن، والشيء بالشيء يُذكر، عدم تمكن القناة من اختراق «دولة داعش» إعلامياً، أو الحصول منها على تسريبات «أخوية»، بسبب طبيعة العلاقة المتوترة أساساً بين «داعش» و«القاعدة»، والعلاقة الخاصة جداً.. جداً بين «القاعدة» والقناة! إبادة الربيع الإرهابي «الإخواني» ومع وقوع المحرقة البوعزيزية في تونس في ديسمبر 2010 كانت القناة جاهزة سلفاً، تنظف أظافرها بصمت، استعداداً لأداء «العمل» باعتبارها قناة «التلال الألف» في أهوال وإبادات ومذابح ومسالخ ما سيسمى تالياً «الربيع العربي»، التي قتل فيها حتى الآن أكثر من 250000 ألف إنسان عربي مسلم في دول ذلك «الربيع الإرهابي»، منهم أكثر من 150000 ألف روح معصومة أزهقت في سوريا وحدها! كما جرح مئات الآلاف، وفقد واختفى أثر مثل ذلك العدد، واغتصبت عشرات الآلاف من النساء، وهجِّر أكثر من 9000000 في سوريا أيضاً ذهبوا في الشتات على وجوههم بين نازح ولاجئ... وقد تحولت القناة خلال فترة الثورتين الليبية والسورية، خاصة من كونها أداة من أدوات المعركة، كما يفاخر بذلك بعض دهاقنتها، إلى طرف أصيل من الأطراف المنفذة باليد -وربما السكين- للمجزرة البشرية، حيث تحولت نشراتها إلى عرض سيرك دموي واسع من الذبح والقتل والتفجير والتفخيخ، وصارت شاشتها قانية طافحة بالدم والدمع وروائح الشواء البشري، حيث تذبح القرابين البشرية الحقيقية لتغذية الدعاوى الزائفة، في كل مكان. وهنا أيضاً، خلال فترة ما سمي «الربيع العربي» كانت أوجه الشبه، بل الشبح، والاستنساخ لتقاليد «إذاعة التلال الألف» هي الخط التحريري والمدونة الإرشادية في قواعد اشتباك القناة مع الأحداث، خاصة منذ إلقائها آخر أوراق توت المهنية عن وجهها، وإعلانها جهاراً نهاراً، ودون مواربة، تبني أجندة تنظيم «الإخوان» الإرهابي، وتحولها إلى لسان حال ناطق باسمه، في كل قـُطر ومصر! وقد عملت القناة أولاً على تطبيع المُشاهد مع العنف ومَشاهد الدم والذبح والسلخ البشري، وانتقلت من ذلك بسرعة إلى حشد المبررات والمسوغات المختلفة لجنون العنف والسلاح، كما عملت على إيجاد تسميات فخيمة عظيمة تمويهية لعملية القتل ذاتها، فأصبحت العمليات الانتحارية «استشهادية»، وصار المرتزقة والقتلة المحترفون والإرهابيون العتاة يسمون في ديباجات نشرات القناة بـأوصاف «تقدمية» ثورية، مع استدعاء بعض الدلالات الإيجابية لمثل هذه التعبيرات إلى أذهان كثير من المُتلقين، خاصة في الدول العربية الفقيرة! وفي حين ظلت قنوات أجنبية ذات تقاليد راسخة تسمي المنشقين عن أي نظام -بغض النظر عن دواعي ومبررات هذا الانشقاق- «المتمردين» أو حتى «المعارضين المسلحين»، كانت القناة تصفهم بـ«الثوار» وقد تتبنى تسمياتهم الخاصة مثل «المجاهدين»، في حين تصف جيوش النظم السابقة بأوصاف تقزيمية تحقيرية لسحب أي شرعية عنها كتسمية الجيش اليمني «القوات الموالية لصالح» والجيش الليبي السابق «كتائب القذافي» وتسمية جيش النظام السوري «الشبيحة»، واختزال الجيش التونسي في «الحرس الرئاسي» مع محاولة التمويه والتشويه بربطه بالسرياطي.. وهكذا في كل مرة، الحبل على الجرار في إطلاق الألقاب والأسماء، ولا جديد تحت السماء. ومع إضفاء طابع الشرعية على جماعات العنف وتطبيع علاقة المُشاهد معها، وتقديم دعاواها ودعاياتها كافة على طبق من لغة التفخيم والترخيم، تحولت القناة إلى طرف أصيل في المعركة، ولذا كان لابد لها من إيجاد مبررات ولو بأثر رجعي لأعمال القتل والسحل والإرهاب وإتمام «المهمة» تحت ألف ذريعة وذريعة، حيث عينت نفسها فجأة ناطقاً باسم الديمقراطية و«الشرعية» والتحديث والتجديد والإصلاح والتغيير ضمن أهوال «الربيع العربي»! فبات القتل والحرق والذبح والسلخ والإرهاب «الإخواني» مجرد وجهة نظر، وصار السحْل وتخريب المدن وتدميرها طريقة وحيدة إلى الديمقراطية وصندوق الاقتراع. وفي الطريق إلى «تحرير» المدن المحترقة والشعوب المفجوعة، تحول مراسلو القناة أحياناً إلى خليط من شارلوك هولمز وكارلوس والعميل 007 فظهر أحدهم ذات مرة وهو يحمل جهاز مخابرة عسكرية، وقد اخترق فيه اتصالات جيش أحد النظم السابقة الساقطة! وهو نفسه، للمفارقة، المراسل الذي احترق إعلامياً ومهنياً منذ أسابيع وطرد من عاصمة الثوار نفسها تلك التي دخلها أول مرة دخول «عملاء الخدمة السرية»، بعدما تسرب مضمون مخابرة أخرى يتحدث فيها مؤخراً مع بعض قادة المليشيات في تلك الدولة، التي صارت فاشلة، عن أمور وصفقات مخلة بالشرف المهني.. وربما الشخصي أيضاً. دور الإذاعة في الإبادة الرواندية شاركت إذاعة «التلال الألف» في مجازر الإبادة الجماعية من وجهة نظر المختصين في القانون، وفي مواثيق الشرف الإعلامي أيضاً، بأشكال عدة، منها: - تلفيق وتخليق مبررات للقتل الجماعي، تحت دعاوى وطنية، أو أخلاقية زائفة، كادعاء العمل لرفع الظلم المفروض على أغلبية «الهوتو» من طرف أقلية «التوتسي» التي ظلت محميّة ومحظية خلال عهدي الاستعمارين الألماني والبلجيكي، بل إن بعض الباحثين الأوروبيين في بداية القرن العشرين، عندما كانت النظريات العرقية العنصرية تتوالد تمهيداً لظهور النازية، قالوا إنهم توصلوا من خلال دراسات أنثروبولوجية إلى أن «التوتسي» كعرق أذكى وأرقى من «الهوتو»، ولذلك لم يكن مسموحاً في تلك الفترة بدخول المدارس إلا لـ«التوتسي»، كما أن المهن الإدارية المساعدة في الإدارة الاستعمارية ظلت مخصصة لهم أيضاً دون «الهوتو». وقد رفعت إذاعة «التلال الألف» هذه المَظلمة التاريخية على رؤوس أسِنة الرماح في دعايتها للإبادة الجماعية. -أعطت الإذاعة عمليات القتل الجماعي أسماء تمويهية أخرى لتبريرها، وجعل اقترافها يأخذ في أذهان العامة، طابعاً «نضالياً» و«قومياً» و«ثورياً» غير إجرامي! - حرضت بشكل مباشر على القتل، وبثت بعض المعلومات التي تسهل الوصول إلى الضحايا، ووفرت غطاء إعلامياً و«أخلاقياً» لتصفيتهم، بدم بارد. - عملت على شيْطنة الضحايا بلا تمييز، وجعل مجموعة سكانية كاملة بما فيها من نساء وأطفال ومُسنين هدفاً لأعمال القتل، دون أي مبرر، سوى الانتماء العرقي إلى فئة معينة من البشر، وهو انتماء لا خيار للضحايا فيه. - خلطت في دعايتها المحرضة على القتل بين القيم الإيجابية والسلبية، على نحو أربك المنظومة القيمية للمجتمع، فلم يعد ثمة فرق بين القتل والجريمة والنضال والديمقراطية والحرية والكراهية! دور القناة في الإبادة العربية في المحصلة، والعبرة بالنتيجة، والأمور بخواتيمها، فقد لعبت القناة طيلة أهوال الإبادة العربية ضمن ما سمي «الربيع العربي» ذات الأدوار التي لعبتها إذاعة «التلال الألف» في الإبادة الرواندية، حيث تولت: - تبرير القتل الجماعي، أحياناً على الهوية، وأحياناً أخرى على الموقف أو الطائفة والمذهب. - تقديم أعمال القتل والإبادة الجماعية على أنها نضال ثوري من أجل فرض التغيير والديمقراطية والحرية. - تعيير وتحقير بعض ضحايا الإبادة، وتقديمهم على أنهم مُدانون سلفاً إلى أن يثبت العكس، وأحياناً حتى لو ثبت العكس. - توفير الغطاء الإعلامي والاتصالي للعنف، ومد جماعات القتل بالمعلومات بالصوت والصورة التي قد تساعد على التصفية الجسدية والإبادة، وتصوير أعمال القتل، وبث تلك الصور في سياق تمجيدي ملحمي «بطولي»! - تقديم ثقافة العنف في سياق إيجابي، وتطبيع علاقة المُتلقي معها، وخلق نوع من الألفة، والتقمص الوجداني والتعاطف الرمزي معها. - اختلاق أخبار كاذبة لأهداف تكتيكية مضللة خدمة لأجندة العنف، وبالاستناد إلى مصادر وهمية ووصفها بأسماه مموهة مثل «شاهد العيان» و«الناشط»، وأحياناً قد يلعب بعض صحفيي القناة أنفسهم دور «شاهد العيان»، حيث قد تسمع أصوات بعضهم المعهودة المعروفة، ويقدَّمون كشهود محايدين! - تزوير أخبار بطريقة «الضربة المرتدة»، باختلاقها لدى مصدر إعلامي خارجي وإعادة بثها، بزعم الاستناد إلى ذلك المصدر الخارجي، وعلى الأرجح بالاتفاق معه، على جميع قواعد اللعبة، أعني قواعد الكذبة. وبهذه الطريقة يتم تمديد وتمرير حبل الكذب القصير، خدمة لأجندة القناة، وتنفيذاً لإيعازات وأوامر أجهزة الخدمة السرية التي تديرها، من الألف إلى الياء، والتي تتحكم في كل ما تبثه من المساء إلى الصباح وما تختلقه وتلفقه من القذف والكذب غير المباح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©