الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جهانكير خان» السلطان الحائر بين طريقي العدل والظلم

«جهانكير خان» السلطان الحائر بين طريقي العدل والظلم
12 يوليو 2013 22:23
لو لم يذكر تاريخ الهند نور الدين سليم ابن الامبراطور جلال الدين أكبر، كأحد أهم أباطرة المغول بها لاستحق أن يذكر كأديب وفنان بارع، فما إن تولى نور الدين الملك خلفاً لوالده حتى اتخذ لنفسه لقباً ملكياً مميزاً يعكس الثقافة الفارسية السائدة في بلاط المغول بالهند. وسمى نفسه «جهانكير»، وهو اسم فارسي مركب من كلمتين هما جهان بمعنى العالم أو الدنيا وكير بمعنى القابض على الشيء وكأنه يصف نفسه بالمسيطر على العالم أو الفاتح لأطرافه. د. أحمد الصاوي (القاهرة) - ولد نور الدين في 20 سبتمبر 1569 م، وتولى الحكم وهو في السادسة والثلاثين من عمره في عام 1605 م، وظل يحكم شبه القارة الهندية حتى توفي في 8 نوفمبر 1627 م عن عمر يناهز 58 عاماً. وتلقى تعليماً راقياً شمل عدة لغات منها الفارسية والعربية والأوردية والتركية، فضلاً عن مبادئ علوم الرياضيات، والجغرافيا، والعلوم الدينية التي تلقاها على يد الشيخ عبد الرحيم خان. نشأ جهانكير مولعاً بالأدب والطبيعة معاً وكانت له رؤية إنسانية نبيلة حاول أن يجد لها سبيلاً للنفاذ في بلاده العامرة بالأجناس والأعراق والمتمردين والأمراض والأوبئة والمظالم الاجتماعية. اتخذ جهانكير في أوائل حكمه سمة رجل الدولة القوي وبرهن على أن تعليمه الرفيع لم يذهب سدى فقد تصدى لتمرد ابنه خسرو حتى أنه بعد أن هزم الابن في المعركة لم تأخذه به رحمة وأمر بسمل عينيه، رغم أنه أصدر عفواً عاماً عن الذين شاركوا في تمرد الابن. أول دستور وللرجل محاولاته الرائدة لتحديث دولة المغول بالهند إذ أصدر أول دستور للدولة، وكان من 12 وصية أو مادة تتصل بتوطيد الأمن في البلاد وتوفير الرعاية والظروف الصحية الملائمة. وكان ابتكاره الأبرز هو سلسلة العدالة وكانت تربط بباب قصره وهي عبارة عن سلسلة من الذهب الخالص مربوط بها سبعة أجراس، فإذا كانت هناك شكوى أو مظلمة من أحد رعيته ذهب وشدها فيسمع الملك قرع الأجراس فينزل عند باب القصر للنظر في المظالم بنفسه. ويبدو أن مطالعاته في التاريخ جعلته أشد حرصاً من سواه على أن يترك للتاريخ شيئاً يستحق أن يذكر به فشرع يكتب يومياته منذ جلوسه على العرش، ولكن اعتلال صحته أرغمه على التوقف عن التدوين اليومي في العام 16 من حكمه وعهد بذلك لمؤلف ملحمة إقبال نامه معتمد خان، ولكن الأخير توقف عن الكتابة في بداية العام 19 واكتفى بذكر وقائع السنوات الثلاث الأخيرة من حكم جهانكير، وقد ترجمت مذكراته أو يومياته كملك إلى اللغة الإنجليزية ثم نشرت الترجمة العربية مؤخراً في كتاب صدر عن قطاع المكتبة الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. مثالب ولم تكن معاقرة الخمر هي مثلبته الوحيدة إذ لحقت بها عادته المزمنة في التنقل بين الزوجات وكانت زيجته العشرون بمثابة مسمار دق في نعش عرشه. تزوج جهانكير بشقيقة مستشاره الإيراني الأصل أصف خان بعد أن فقدت زوجها القائد العسكري شير أفغان في حادث غامض وبعد زواجهما في مايو عام 1611 م تخلت عن اسمها المولودة به «مهر النساء» واتخذت لقبا ملكيا هو «نور جهان» أو نور الكون الذي يقبض عليه زوجها. وطوال ستة عشر عاماً استغلت السيدة الفائقة الجمال إدمان جهانكير للخمر وتدهور صحته لتمسك في يديها بمقاليد الحكم من وراء الستار. ولأن المصائب لا تأتي فرادى فقد رضخ جهانكير بعد عامين فقط من زواجه بنور جهان لإلحاح البريطانيين ومنح شركة الهند الشرقية الإذن بإقامة مستودع للشركة في سورات تحول بعد ذلك لوكالة وقبل وفاته بثلاث سنوات عقدت معاهدة تجارية بين سلطنة المغول والشركة الشرقية منحت بمقتضاها الشركة حق الاحتكار في تجارة بريطانيا مع الهند كما منحت أساساً للحكم الذاتي لمقارها في سورات وآجرا. أما صورة جهانكير، فقد كانت حاضرة في كل مخطوط أو ألبوم للصور قصد به التأريخ لأحداث عهده وكما كان حريصاً على أن يسجل المصورون في لوحاتهم أهم أنواع النباتات والطيور في أرجاء مملكته كان جهانكير حريصاً على أن يظهر بصوره في هيئة من يقبض على العالم برمته. ملامح مغولية وتكاد الصور المرسومة له تتفق على أن جهانكير تمتع ببنية جسدية أميل للرشاقة منها للبدانة وتنطق ملامحه المغولية الظاهرة بتطلعه نحو الأفق وهو ما حرص عليه الفنانون الذين رسموا صوراً له سواءً من الهنود أو الأوروبيين فقد رسم وجهه دائما في وضعية جانبية «بروفيل»، وكأنه لا يأبه لمن يشاهدونه بقدر ما يعني بالتأمل في قادم أيام التاريخ. وتتميز الصور الشخصية لجهانكير باتفاقها على معنى واحد، وهو أنه الملك الذي يقبض على العالم، أي يسيطر عليه، ففي صورته وهو واقف يتمنطق بسيفه، نجده يمسك بالكرة الأرضية ونجده يرسم كذلك وهو جالس على عرشه ذي الطابع الأوروبي، بينما لم يرسم بتلك الوضعية في الرسوم التي تناولت أنشطته اليومية ولا حتى في صورته المنقوشة على نقوده الذهبية، ومن المفارقات أن صورته نقشت على بعض تلك النقود ممسكاً بكأس الشراب الذي أدمن عليه. وتكاد الصور الخاصة بالإمبراطور تتماثل في تجسيدها لملامحه الشخصية من جهة الأنف الدقيق والعيون المغولية والشارب المتأنق أما تخت الملك أو سريره، فقد رسم غير مرة كتخت شرقي يجلس عليه متربعاً على الطريقة الشرقية مثلما نرى في الصورة التي تمثله ينظر في المظالم وحوله جموع من الأجناس التي تحفل بها مملكته أو في الصورة التي توضح مقابلته للشاه عباس الصفوي. وتعبيراً عن سيطرته على العالم وربما كان ذلك يعني له السيطرة على شبه القارة الهندية رسم أيضاً وهو جالس على عرش تخيلي له سمة الأرض الكروية المنبسطة على هيئة دائرة محمولة على ساعة رملية ونرى ذلك في لوحة تمثل مقابلته لصوفي ببلاطه ولشخصيات أخرى منهم رجل أوروبي الملامح والملابس. ومن أجمل الصور ذات الطابع الشرقي، تلك التي تمثله جالساً على سرير الملك، وهي عنوان واضح على مدى البذخ الذي كان سائداً في البلاط المغولي، فالسرير المرفوع على أربعة قوائم يزدان بفيض من الزخارف الإسلامية النباتية والهندسية وقد أسند جهانكير ظهره لوسادة حمراء، بينما جلس متربعاً يتأمل في الأفق بكل هدوء وقد ارتدى ملابس زرقاء تحاكي زرقة السماء. وحرص الرسامون على إظهار تأنق الإمبراطور في ملابسه التي احتوت دائماً سراويل من دون التقيد بلبس العباءات في غير المناسبات الرسمية ويبدو أن جهانكير كان يتمتع بذائقة فنية لا تبارى في اختياره لألوان عمامته التي جاءت دائما ورغم تباين ألوانها غير مرتفعة وقليلة الطيات. سمات وخصال ولكن الخصال الطيبة في جهانكير من جهة حرصه على العدل وميوله الأدبية والفنية الراقية لم تصمد طويلاً أمام عادته الأسوأ وهي معاقرة الخمر طوال الوقت حتى أنه كان نادراً ما يرى من دون قنينة النبيذ في يده وهو ما أضعف دوره في الحياة العامة في أخريات أيامه خاصة بعد مرضه. ولم توفق محاولاته للتغلب على المرض والتدهور المستمر في حالته الصحية فسرعان ما أنهى جولته بين كشمير وكابول بسبب البرد الشديد وعاد إلى لاهور ليموت بها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©