السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السريالية السياسية التشيكية

12 يوليو 2013 22:52
ديريك ساير أستاذ التاريخ بجامعة لانكستر البريطانية في اللوحة يبدو رجل في منتصف العمر يجلس في مقهى، يقضي لحظة استراحة، ويحدق النظر في امرأة شابة جلست في ظروف غير معروفة على زاوية طاولته. لوحة فيكتور أوليفيا هذه، معلقة في مقهى سلافيا التاريخي الذي فتح أبوابه في 1884 وكان وجهة لعدد من الفنانين المعارضين خلال الفترة الشيوعية، من فاكلاف هافل إلى جيري كولار. وإغراؤها يبدو كمصدر إلهام لمدينة حيث سخافات الشأن العام كثيراً ما تشجع على الانسحاب واللجوء إلى المقاهي وأماكن اللهو. وخلال الشهر الماضي، أُرغم التشيكيون على العودة إلى عالم السريالية مرة أخرى. ففي الثاني عشر والثالث عشر من يونيو الماضي، قام نحو 400 شرطي بمداهمة مكاتب رئيس الوزراء بيتر نيكاس، ووزارة الدفاع، ومقر بلدية براغ، وعدد من البنوك والمنازل، حيث تم حجز كميات من الذهب ونحو 8 ملايين دولار من الأموال. كما تم توقيف تسعة مسؤولين رفيعي المستوى -من بينهم مديرة موظفي رئيس الوزراء جانا ناجيوفا، والمديران الحالي والسابق للاستخبارات العسكرية- وُوجهت لهم تهم الفساد وإساءة استعمال السلطة. وبعد أربعة أيام على ذلك، استقال نيكاس، زعيم حزب الديمقراطيين المدنيين المحسوب على يمين الوسط. وهذا الأسبوع، طلب الادعاء العام من البرلمان تجريده من الحصانة القانونية، في ما يمثل مؤشراً على أنه سيواجه تهماً تتعلق بالفساد. هذا في حين تُتهم مساعدته، ناجيوفا، بإعطاء أوامر لعملاء الاستخبارات العسكرية بالتجسس على زوجة رئيسها في العمل -المنفصلة عنه- وبمنح وظائف في شركات مملوكة للدولة لثلاثة مشرِّعين عارضوا مخططاً حكومياً للتقشف. وفي غضون ذلك، بادر الرئيس ميلوس زيمان بتعيين جيري روزنوك، وهو وزير مالية سابق من حزب الديمقراطيين الاجتماعيين المعارض، لإدارة حكومة تصريف أعمال حتى الانتخابات المقبلة. وقد اعتبر بعض المراقبين أن هذه هي أخطر أزمة تعرفها جمهورية التشيك منذ إسقاط الشيوعية في 1989؛ غير أن إلقاء نظرة متمعنة قد يعطي انطباعاً مختلفاً. فقبل 30 عاماً فقط، لم يكن من المستبعد أن يكون النادل في مقهى سلافيا ممن يعملون لحساب الشرطة السرية، التي كان مقرها لا يبعد سوى بخمس دقائق. وفي 1968، بعد أن سحقت الدبابات السوفيتية «ربيع براغ» القصير الذي قاده ألكسندر دوبيك، استُنطق إيفان كليما هناك. ويتذكر هذا الأخير كيف أن كاتباً سابقاً، هو جان نيرودا، كان قد وصفه باعتباره «مكاناً كئيباً وقذراً ومتهالكاً». ولكنه على نحو غريب، شعر بالارتياح لما علم أنه لم يتغير منذ أيام الملكية النمساوية- المجرية. وقتئذ، كانت براغ تغص بعمال الأفران ومنظفي النوافذ وجامعي النفايات المتعلمين جيداً. ذلك أن الديكتاتور الشيوعي جوستاف هوساك كان قد طهر الوظائف والجامعات ودفع النخبة المثقفة إلى وظائف يدوية كانت تترك لهم الكثير من الوقت للحلم. ومع ميل تشيكي شائع للسخرية، عُرفت هذه السياسة رسمياً بـ «التطبيع». وفي هذا الإطار، تقول نكتة معاصرة: «لماذا يذهب رجال الشرطة التشيك في مجموعات من ثلاثة أفراد؟ الجواب: واحد للقراءة، وواحدة للكتابة، وواحد لمراقبة المثقفيْن». ويمكن القول إن معظم التشيكيين اتبعوا نصيحة فولتير في قصة «كانديد»: ذلك أنهم يعتنون بحدائقهم، ويُطمئنون كل من يسألهم بأنها أفضل كل العوالم الممكنة. هذا بينما يجد آخرون، مثل الشخصيات في روايات ميلان كونديرا، العزاء في البحث عن مباهج الحياة. لقد كان هذا مشهداً من «آليس في بلاد العجائب»؛ حيث كانت العروض الفنية تقام في مقالع مهجورة، والمسرحيات تقدم في المنازل، والندوات تعقد في المقاهي. وكان أعضاء جمعية «ديفيتسل» -مجموعة الكتاب والفنانين الذين كانوا غزيري الإنتاج على نحو مذهل خلال العشرينيات- يترددون على مقهى سلافيا أيضاً. وفي هذا الإطار، يقول الشاعر جاروسلاف سيفرت، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب في 1984: «لقد كنا نجلس هناك بجوار النافذة التي تطل على الضفة ونرتشف المشروب»، مضيفاً «لقد كانت نوعا من المغازلة لباريس، وليس أكثر». والواقع أن الحكومات التشيكية لم تكن تسقط عادة خلال فترتي السيطرة الألمانية والسوفيتية. أما اللحظات التي انهارت فيها حكومات بالفعل، فقد كانت نقاط تحول: اتفاقية ميونيخ عام 1938، التي منحت ألمانيا السيطرة على سوديتنلاند وأرغمت الرئيس إدوارد بينيس على الهرب إلى إنجلترا التي كانت قد تخلت عنه؛ والانقلاب الشيوعي عام 1948، الذي وضع تشيكوسلوفاكيا وراء الستار الحديدي؛ والغزو السوفييتي عام 1968، الذي أنهى محاولات دوبيك للإصلاح؛ والثورة المخملية لـ1989، التي أوصلت هافل إلى قلعة براغ وجعلت أحلام مقهى سلافيا تتحقق. وعلى رغم خطورة الوضع الذي يوجد فيه نيكاس اليوم، إلا أن اللافت هو أن حكومة فقط هي التي سقطت -وليس نظاماً سياسياً أو إيديولوجياً. واليوم، صمدت الديمقراطية التي تأسست في 1989 من قبل مجموعة هافل واستمرت لفترة أطول مقارنة مع جمهورية الفيلسوف توماس مساريك، مؤسس تشيكوسلوفاكيا. وبالنظر إلى تاريخ التشيك، فإن الفضيحة الأخيرة ينبغي أن يُحتفل بها لتفاهتها وسخافتها، في الحقيقة. ومن الوارد جداً أن يحدث مثلها في إيطاليا سيلفيو برلسكوني. غير أن تفصيلاً واحداً مزعجا يذكِّرنا بأزمنة لم يمر عليها وقت طويل. ذلك أن ناجيوفا، مستشارة رئيس الوزراء، قد تكون أيضاً عشيقته، مثلما تقول بعض الشائعات. وعلى ما يبدو، فإنها استعملت سلطتها لإعطاء أوامر بمراقبة زوجته-وهي مناورة مزعجة في الواقع (وإن كانت محبطة). وعليه، فربما لم تعد براغ مرآةً نشاهد فيها الأحلام الأوروبية، إلا أنها لم تتخل كلياً عن سحرها السريالي! ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©