الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الدميري يمازج بين الخيال والواقع والشعر والنثر والعلم والأسطورة

13 يوليو 2013 00:25
على مدار أيام شهر رمضان المبارك سوف نطل عليكم من خلال هذه الزاوية بعرض مختصر لعدد من الكتب في التراث والأدب والتاريخ وأدب الرحلات لتكون استراحة قصيرة، تروي شيئاً من شغف المعرفة في ساعات هذا الشهر الفضيل. ونتناول اليوم: الكتاب: الطير في حياة الحيوان للدميري تحقيق: عزيز العلي العزي عدد الصفحات: 298 من القطع الكبير جهاد هديب (الاتحاد)- كتب المعاجم والقواميس، هي كتب تصنّف المادة فتصنف بذلك عقل المرء ومخيلته معا. إذ أن من طبع المعاجم والقواميس أن تفعل ذلك بصرف النظر عن الحقل الذي وُضعت فيه، ومن طبعها أن تفتح للمرء مجالا كي يقرأها قراءة أدبية سواء أكانت معاجم في علم الفضاء أم في علم طبقات الأرض. ويحدث ذلك لأن المعاجم تباغت القارئ أحيانا بما هو غير متوقع أو من شأنه أن يعزّ على التوصيف والمخيلة؛ أي كل ما من شأنه أن يجعل البعض من العادي، أو النادر من هذا العادي، أمرا شعريا بامتياز. يصحّ هذا التوصيف على كتاب “الطير في حياة الحيوان” لأبي البقاء كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري القاهري الشافعي، الذي عُرف به صاحبه وعصره في تاريخ التراث العربي والإسلامي بعنوان هذا الكتاب بأكثر مما عُرف بكتاب آخر، إذ يُنظر إليه على أن الأكثر شهرة وشعبية في الثقافة العربية بعد “ألف ليلة وليلة”. سياق تاريخي وقد ظهر كتاب “الطير في حياة الحيوان” في سياق تاريخي لافت للانتباه، إذ حدث ذلك في إثر سقوط عاصمة الخلافة العباسية بغداد في أيدي المغول العام 1258 ميلادي، وهي لحظة ملتبسة في التاريخ العربي والإسلامي، ففي الوقت الذي غرقت فيه المنطقة العربية تحت وطأة التخلف والجهل والانحطاط الذي ما تزال تُعاني منه هذه الثقافة فقد ظهر في تلك الأثناء بالذات، وربما بالمصادفة التاريخية مثلما بالضرورة التاريخية، جيل من الكتّاب والمثقفين الموسوعيين البارزين في حقول وميادين معرفية من بينهم الدميري وابن خلدون والمقريزي وسواهم. لقد جمع هؤلاء، من مراجع مكتوبة، أو حتى شفوية، العلوم وتواريخها، والآداب ومؤلفيها ورواتها وأعادوا تصنيف ما أمكن لهم من أمهات الكتب التي أتلفها المغول في كارثة بغداد الشهيرة، التي طالت البصرة والكوفة وواسط أيضا، فاحتلال دمشق. ولأن الجمع والتصنيف هو فعل معرفي ذو مرجعية ثقافية مختلفة عن التأليف لكنه يوازيه معرفيا، فقد اختلطت المراجع بعضها بالبعض الآخر وتداخلت المعلومات الواردة فيها وتوزعت هنا وهناك في المخطوطات التي تناهبتها الأيادي إلى أرجاء العالم، لم يتم إنقاذ العديد منها إلا بجهود حثيثة من محققين عرب مميزين بالفعل وضعوا أمام القارئ المتخصص وغير المتخصص لمحة من جهد أولئك المثقفين في زمانهم. حقول معرفية ومن هنا فقد جاء “حياة الحيوان”، كما لو أنه بؤرة صبّت إليه معارف مختلفة من حقول معرفية شتى: فهو معجم في أسماء الحيوان ومدوّنة في التاريخ الطبيعي “يصف الحيوان وطبيعته وبيئته آتيا بحقائق علمية أحيانا وبأوهام وأساطير في أحيان أخرى وهو كتاب في الفقه وكتاب في الصيدلة والطب البشري وهو كتاب في المأثورات الشعبية كالأمثال وتفسير الأحلام. وربما هذا هو السبب في إغوائه القارئ على العودة إليه دائما إذ هو في آخر الأمر كتاب يقف على التخوم بين الخيال والواقع والشعر والنثر والعلم والأسطورة؛ كتاب لا يتعيّن فيه زمان أو مكان. وحديثا، اشتُقّتْ من معجم الدميري معاجم ومصنفات أخرى، من بينها ما استهدف إبراز الجهود العربية في غير حقل علمي خلال تاريخ هذا العلم أو ذاك، وهي جهود معرفية غطّت عليها للأسف جهود مطابع تجارية عربية في غير مكان قامت بإصدار “حياة الحيوان” دون تحقيق أو مزودة بتحقيق غير محترف وغير علمي أساء أكثر من ما أفاد. ولعل أبرز هذه المعاجم أو المصنّفات هو “الطير في حياة الحيوان للدميري” بتحقيق حمل توقيع عزيز العلي العزّي الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد العام 1986. أي انه معجم قد اختص بالطير كما ورد في “حياة الحيوان” في سائر مخطوطاته ونسخه المختلفة، حيث من الواضح أن المحقق قد بذل جهدا على هذا الصعيد غير أنه جهد تكثّف تقديم الجهد العلمي فحسب فأسقط من المتن كل ما تعلّق بـ “تعبير رؤياه (أي معنى وتفسير رؤية هذا الطائر في المنام)، والأشعار التي قيلت فيه والحكايات والنوادر التي قيلت بشأنه ونحو ذلك من أمور لا فائدة منها ولا تقدم ولا تؤخر شيئا في تحديد النوع المقصود” بحسب ما جاء في المقدمة التي استفادت منها هذه السطور. يذكر المحقق في المقدمة ذاتها إحصائية ذات دلالة: “يضم “حياة الحيوان الكبرى” 1069 مادة بأسماء الحيوان مرتبة حسب الترتيب الألفبائي، من ضمنها المرادفات والمكررات. ومن هذا المجموع هناك 319 مادة بأسماء الطيور وتؤلف مجموع هذا الكتاب”. ما يعني أن القارئ العربي ليس أمام فعل تجميعي تصنيفي بل أمام فعل “أنثولوجي - anthology” بحسب ما هو عليه في العلوم الحديثة عامة، أي ذلك الفعل الذي يقوم على انتخاب مادته من بطون كتب أخرى وفقا لفكرة أو جامع مشترك، غير أن هذا الفعل الأنثولوجي “حياة الحيوان” للدميري قد قام على أساس موقف اتخذه مثقف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث تعرض للإبادة على يد المغول، ثم جاء معجم في “الطير في حياة الحيوان للدميري” ليشير إلى أهمية ذلك المنجز من جهة ثم ليمنح القارئ جمالية مختلفة لكتاب مختلف يتم تأليفه، بمعنى ما، في العصر الراهن من جهة أخرى. وحدة الطبيعة ومن هذا الكتاب يلمس المرء أن العرب كانت ترى في الطبيعة وحدة متجانسة، تشكل النفس البشرية لمرآة لهذه الوحدة. ربما هناك إفراط في التأويل في مثل هذه النتيجة، غير أن القراءة ذاتها هي التي تعزز هذا الإحساس “المعرفي” لدى القارئ خاصة عندما يكتسب الحيوان تلك الخصائص النفسية التي تميز طبائع البشر. ينقل عزيز العلي العزي عن الدميري بصدد طائر الحدأة: “أخسّ الطير” وذلك ربما لأن أنثاه “لا تصيد إنما تخطف. ومن طبعها أنها تقف في الطيران. وليس ذلك لغيرها من الكواسر”. أيضا تتجلى هذه الوحدة المتجانسة في الطبيعة عندما تمنح العرب أسماء للطير هي أفعال لا يقوم بها البشر إلا في المخيلة أو المجاز، فيكون هناك طائر يدعى بـ “خاطف ظلّه” ينتمي إلى فصيلة العصافير وسميّ بذلك لأنه “إذا رأى ظله في الماء أقبل عليه ليخطفه”. ثمة الكثير الكثير في معجم الطير هذا الذي يستدعي تأملا من نوع شعري يجعل القراءة في كتب من هذا القبيل شديدة المتعة وقادرة على الإدهاش.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©