الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رأس السنة.. حفلة.. لـ «سِياطِ الجلاّدين»

رأس السنة.. حفلة.. لـ «سِياطِ الجلاّدين»
28 ديسمبر 2016 19:54
نبيل سليمان أولاء أربعة من كبار الكتاب العرب يعني لهم رأس السنة الكثير: الأول هو إحسان عبد القدوس الذي يضرب عصفورين بحجر، فيحتفل بعيد ميلاده وبعيد رأس السنة في اللحظة الساحرة التي نودع فيها سنة ونستقبل سنة. أما الثاني فهو يوسف إدريس الذي وصف في واحدة من سردياته – قصصه الفريدة كيف احتفل مع رفاقه المعتقلين برأس السنة في السجن الذي فتحت أبوابه على مصاريعها في اللحظة الساحرة إياها. من الجيل التالي يأتي صنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان: الأول اعتقل ليلة رأس السنة، والثاني يضرب عصفورين بحجر أيضاً، فيحتفل بعيد زواجه وبعيد رأس السنة معاً. ويقترن رأس السنة إذن بالاعتقال والسجن السياسي في حالتي يوسف إدريس وصنع الله إبراهيم، ولسوف يصير خلال عقود معدودة للسجن حضوره المميز في أدبنا، كاستجابة إبداعية لتفاقم القمع ومضاعفة أعداد السجون والسجناء، وتنوّع ومرارة التجارب الجسدية والروحية التي يقصر عنها الخيال، مما جادت به الأنظمة الديكتاتورية، حتى بلغنا ما نحن عليه اليوم، ولكن قبل الذهاب أبعد في ذلك، لنرَ ماذا لدى غادة السمان في رأس السنة؟ اللحظة البومية ليلة رأس السنة: «أيتها المرأة الحزينة ما الذي تفعلينه منتصف ليلة السنة الجديدة؟ أحمل المثقاب الكهربائي وأغرسه في الجدار أصنع ثقباً صغيراً لتعليق خريطة على مسمار وبعدها أغرس المثقاب في ظلام الليل الصلد حتى أثقبه فقد ألمح ضوءاً في الطرف الآخر؟» تلك واحدة من درر غادة السمان التي تسبك السرد بالشعر والشعر بالسرد في لحظة خاطفة من لحظات الليلة الساحرة: ليلة رأس السنة. وفي تلك (الدرة) ترهن غادة السمان هذه اللحظة إلى الحلم بالضوء في نهاية النفق الذي نحياه. وللّيلة الساحرة حضور آخر فآخر في شعريات – سرديات غادة السمان كما هو الأمر مع أحلام مستغانمي. وحسبي هنا من صنيع السمان من أجل رأس السنة، أنها تنفخ في المزامير، وتضع على رأسها القبعات الملونة، ثم.. ثم تضع على وجهها الأقنعة، لأنها، في مقام آخر وهي التي جعلت البومة رمزها، تسمي اللحظة بلحظة «صدق بومية ليلة رأس السنة». وكانت غادة السمان قد كتبت تحت عنوان (سنة جديدة أم أكذوبة مهترئة): أنْ لا سنة جديدة منذ بكى أبو عبدالله الصغير في حضن أمه لحظة سقوط الأندلس، وإنما هي سنة الشؤم ذاتها تتعاقب علينا في ليل القرون منذ قرون. في البداية كاد أن يكون الشعر وحده قوام أدب السجون. لكن السرد أسرع وتنامى في القصة والسيرة والرواية حتى كاد أن يكون هو أدب السجون. ولأن السجن السياسي قد يمتد بالسجين سنة أو عشراً أو عشرين أو أكثر، فليس غريباً أن يكون لرأس السنة فيه حضور، ليس فقط كلحظة للفقد أو الندب أو التفجع أو المرارة أو اليأس أو الوجد أو، بل للاحتفال الذي سيستبطن من بعض ذلك قدراً أو آخر، ولكنه سيكون أيضاً احتفالاً، وبالطبع، في الحدود التي يسمح بها السجن، باختلاف البلدان والسنين والقيومين والمسجونين. ماذا وراء الجدران؟ في الرواية السيرية أو السيرة الروائية (ماذا وراء هذه الجدران؟) لراتب شعبو يتلامح عيد رأس السنة عام 1995. وكان الكاتب السوري قد قضى ست عشرة سنة في السجن، ابتدأت، بعد السجن في فرع التحقيق، بسجن الشيخ حسن في دمشق، والمعروف بالكراكون، والمجاور لمقبرة باب الصغير، أحد أبواب دمشق السبعة الذي يرمز إلى كوكب المشتري. ومن جيران السجن في المقبرة بلال الحبشي والخلفاء الأمويون معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك، وكذلك أبو نصر الفارابي وابن قيم الجوزية. ليلة الاثنين 31/‏12/‏1995 كان احتفال السجناء في سجن عدرا (سجن دمشق المركزي) بوسائل بسيطة، ربما كان أبسطها وأكثرها تأثيراً، كما يكتب الكاتب هو «إقرار الجميع وتوافقهم على السهر للاحتفاء كيفما اتفق بالعام الجديد». وكان الكاتب ورهطه قد قضوا في هذا السجن عشر سنوات ونيفاً، منذ نهاية صيف 1985، وحيث بلغ الأمر بواحدهم ما تسميه الرواية (الاستحباس) أي استسلام السجين لقدر السجن، و (الاستدمار)، أي الميل إلى تدمير الذات بفعل الركودة الآسنة وانعدام الحياة، فالسجن يكسّر الزمن كالرواية الحديثة، بالعبارة الروائية، وبها، السجن أيضاً مثل دونكيشوت. مما سمعت من مرويات سجناء سياسيين كثيرين، قادمين من تنظيمات معارضة شتّى، وقليل منهم من أدركته حرفة الأدب أو الفن، أن تحضير الشراب لحفلة رأس السنة يبدأ قبل شهور بتخمير ما يمكن توفيره أو تهريبه مما يصلح للتخمير. كذلك تبدأ طقوس الإعداد لليلة الساحرة بالحد البدائي الأدنى من ترتيب وتنظيف المهجع الذي يحشر فيه من السجناء ما لا طاقة لبشر به. ومهما يكن، ففي رواية راتب شعبو أن سحر الليلة الساحرة قد انقلب فجر اليوم الثاني من السنة الجديدة، عندما أيقظ السجانون السجناء كما يليق بهم، وأعدوهم للنقل إلى سجن تدمر، وما أدراك ما سجن تدمر. يخصص راتب شعبو في روايته فقرة للأعياد في سجن تدمر، كأسوأ أيام السجين، ليس لأنه يتذكر أهله، وبخاصة السجين المتزوج والأب، بل لأنه يكون في العيد مهملاً: الطعام يأتي متأخراً وأكبر زهداً منه في باقي الأيام. وفي أيام الأعياد لا تصل الجريدة إلى السجن، والتي تعدّ نعمة مع أنها حكومية. وبحسب الرواية، ربما كانت فضيلة الأعياد في سجن تدمر أنه يميل إلى الهدوء أكثر، والتعذيب فيه يقل، وإن كان بعض الحراس الذين حرموا من قضاء العيد مع ذويهم، يصيرون أكثر عدوانية في علاقتهم مع السجناء، كما لو أنهم يحملونهم مسؤولية بعدهم عن أهاليهم في العيد. وكل ذلك مما يعني العيد بعامة، يتضاعف أذان عيد رأس السنة. القوقعة وهذه أيضاً رواية سيرية أو سيرة روائية، والحق أني أراها سيرة ذاتية وحسب. ولكن مهما يكن من أمر التجنيس الأدبي، ففي (القوقعة) ما لا يصدق، وأدناه أن كاتبها مصطفى خليفة شاب مسيحي كان عائداً إلى سوريا من فرنسا، فقبض عليه وقضى في السجن اثنتي عشرة سنة دون أن يعرف التهمة، وأبرز أو أوجع أو أطرف ما في هذه السنين هو رفقة الإسلاميين في السجن. كما بدأ راتب شعبو سرديته باليوم الأول في السنة الجديدة، يبدأ مصطفى خليفة سرديته مستذكراً عيد رأس السنة في الليلة الساحرة البارحة، حين كان أغلب الناس، فيما يرى الراوي، خارج السجن، يحتفلون حتى الصباح، أما في السجن فهو يعتقد أنه وحده من يعنيه رأس السنة، فمنذ المساء نام الجميع، والبرد جارح كنصل الشفرة، والراوي حاول الهرب منه إلى أحلامه، فرتب سهرة لرأس سنة ما، وأضناه قليلاً اختيار المكان والأشخاص، ونصّب نفسه نجم السهرة بلا منازع، بينما المائدة ملأى بالأطعمة والأشربة، والثلج يتساقط في الخارج، والموسيقا تصدح والقوم يرقصون، وهو يرقب أشجار الصنوبر وقد تكللت بالأبيض، والدفء داخل المنزل يبعث الإحساس بالترف وبالتعب في آن معاً، وثمة: سرير وثير وأغطية ناعمة، لكن ذلك مستحيل، والراوي الحالم بالدفء يزيح عنه الغطاء، ويحكّ يديه ببعضهما وينفخ عليهما، ويفرك قدميه بقوة، نشداناً للدفء. في منتصف الليل يسمع الراوي أصواتاً في الساحة أمام المهجع، فيتدثر بالبطانية، ويتلصص من الثقب فيها ليرى الساحة مضاءة كالعادة، إذ إن ساحات وأسطح سور السجن تظل مضاءة ليل نهار، ورأى المتلصص في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يصخبون ويضحكون ويشتمون، ولما دقق الراوي النظر رأى في وسط الساحة المساعد تحف به مجموعة من الرقباء. أحس الراوي بحركة داخل المهجع الذي يؤويه ورفاقه السجناء، ومن تحت البطانية رآهم قد استيقظوا، منهم من يحوقل ويبسمل، ومنهم من يتضرّع: يا لطيف يا ستار، اللهم مرر هذه الليلة – ليلة رأس السنة الساحرة – على خير! في الساحة رأى المتلصص المساعد ومن حوله قد اقتربوا من المهجع، ثم أمر الشرطة بفتح الباب وإخراج السجناء إلى الساحة، فخرجوا حفاة عراة، إذ أُمروا بخلع السروال الداخلي أيضاً، وصُفّوا أرتالاً، يفصل الواحد عن الآخر خطوتين، لماذا، يعلل الآمر: كي لا يستغلوا عريهم فيلوطوا بعضهم بعضاً!! وإلى ذلك ترسم الرواية مشهداً أسطورياً: الشرطة والرقباء والمساعد يرتدون جميعاً المعاطف العسكرية، ويلفون رؤوسهم باللفحات الصوفية. المساعد يتمشى أمام الأرتال، الريح شمالية خفيفة لكنها قارسة، وربما كانت درجة الحرارة تحت الصفر بدرجات. وبدأ رش المياه على السجناء من الرأس حتى القدمين، مرفقاً بالأمر: لا تتحركوا، ورجال الشرطة حول وخلل الأرتال، مشهرين الكرابيج والعصي، وبدأ المساعد بخطبته العصماء، مقلداً بوقفته وحركاته وعباراته مدير السجن، ولئن كانت ثلاثة أرباع الخِطبَة شتائم مقذعة، فالأهم أنه بدأ بتحميل السجناء مسؤولية بقائه في السجن بينما العالم كله يحتفل بعيد رأس السنة، ولولا أن السجناء هنا، لكان هو أيضاً يحتفل. ولقد ذهب الضباط ليحتفلوا وتركوا كل المسؤولية على عاتقه: «رجل ذو أهمية تاريخية»: تقول الرواية ساخرة بمرارة. غادر المساعد الساحة، بينما صوت اصطكاك الأسنان جهير، والجميع يرتجفون والراوي: «أنا بالكاد أتماسك لأبقى واقفاً»، والسؤال: «ما نهاية كلّ هذا؟ ماذا سيفعلون بنا؟ هل هي مقدمة إلى مجزرة جديدة؟ هل سنعود ثانية إلى مهجعـ«نا»؟ «صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، بينما دسوا أيديهم في جيوبهم، فبرزت العصي وتدلت الكرابيج. وهنا، تبلغ الرواية في تصوير الجسد والحدث مبلغاً يجعل اللغة تصطك هلعاً وهي تصير القارئ (ة) بعد أن كانت الكاتب: «الجسد.. الخدر يزداد وينتشر، الألم يتعمم ويتعمق، الأسنان تصطك، من اللسان وحتى المستقيم ارتجاف واحد، الأنف، الأذنان، الكفان، القدمان، كل هذا ليس من الجسد، تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا القدم المرتجف، والسؤال: متى سأسقط أرضاً؟ يسقط أحدهم قبلي، يتوقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه، تخرج الأيدي من الجيوب، وينطلق بضعة عناصر، يجرون السجين الذي سقط إلى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء، يقول أحد الرقباء: «يللّه... دفّوه». لتدفئته تنهال الكرابيج على أنحاء جسده المتخشب. يحاول أن يقف لكن وقع الكرابيج يمنعه. يسقط آخر، ويجرّ إلى حيث التدفئة، وآخر، وآخر، والراوي يجالد نفسه خوفاً من السقوط: عقله واعٍ تماماً لكل ما يجري حوله، لكن جسده ينفصل عنه رويداً، خدراً وتجمداً، وتختلط الدموع مع المخاط السائل من الأنف، ويعسر التنفس، ويسقط وينتهي احتفال رأس السنة (التدمرية) بسقوط السجين الأخير، وتدفئة الشرطة له، مع بزوغ الفجر، عندئذ طار السجناء إلى المهجع على إيقاع الكرابيج، وطار الراوي الذي كان يحسب أنه لن يستطيع النهوض، لكنه ما إن سمع الأمر، ورأى الكرابيج تهوي، حتى طار، وهو من طالما تساءل في سره عن «منبع هذه القوة... المقاومة!». وفي هذه النهاية للاحتفال العتيد، رأى الراوي على وجوه الآخرين فرحة الخلاص من مجهول، وخلفها «تراكمت طبقة جديدة من حقد أسود تزداد سماكتها بازدياد الألم والذل». النعنع البرّي «سنحتفل معاً». بهذه العبارة تبدأ رواية أنيسة عبود (النعنع البري – 1997). وبعد لأي يتبين أن الراوية عليا تعني احتفال رأس السنة مع حبيبها علي. وسوف يتخلفان عن الاحتفال الذي يجمع رهطاً من شخصيات الرواية، ولكل محفزاته وحكاياته وتداعياته. أما العاشقان فقد جلّلتهما الوحدة بالوحشة، فلم يبق لكل منهما على انفراد غير الذكريات التي تتوالد فيها القصص، وتتفاقم فيها شهوة الحكي ولذة الكلام، مما يسميه علي وعليا بالثرثرة، وهو ما يبدو حقاً جرّاء طول مهاتفة عليا لعلي، وما تسرد له بدلاً من حضورها الاحتفال. في الليلة الساحرة يستعيد علي من قريته موت والدته، واليوم المدرسي الأول، ونهر السين الذي يعرش على ضفته عنوان الرواية (النعنع البري).. أما عليا الأستاذة الجامعية العائدة للتو من باريس، والتي تحاضر في استشراء الفساد في الجامعة، فتغرق الرواية بحكايات التقمص الذي تعيشه. وعبر كل ذلك ينوء علي تحت وطأة أن يكون قناة سردية لعليا، ويهيمن حضور عليا حتى في غيابها عن الاحتفال برأس السنة. ليل العالم في روايتي (ليل العالم) التي صدرت في اليوم الأول من عام 2016، تحضر الليلة الساحرة، ليلة رأس السنة في مدينة الرقة، في وداع عام 2010 ولقاء عام 2011 الذي سيكون عام الزلزال السوري والعربي الشهير بالرّبيع العربي. ومما تتوّج به في الرقة، كانت الخلافة الداعشية. والرواية تجعل وكدها سنوات الزلزال، وبخاصة في دولة الخلافة الإسلامية التي أقامها داعش في الرقة، حيث حرمت الفرمانات الاحتفال بعيد رأس السنة وأمثاله من أعياد (الكفار). تحتفل الشخصية المحورية في (ليل العالم) هفاف العايد وحيدة في غرفتها المطلة على نهر الفرات، بينما الثلج يرقّش عتمة المدى. وعبر مناجاة هفاف للنهر تستعيد مفاصل علاقتها بالشخصية المحورية الثانية (منيب) الذي يودع سنة ويستقبل سنة وحيداً أيضاً، فالخصام باعد بين العاشقين اللذين طوى عشقهما أربعين سنة. والوحشة تغلل الاحتفال وتنزع من الليلة الساحرة سحرها، ليحق قول والدة هفاف أمام التلفزيون الصاخب بالاحتفال: هو يوم مثل باقي الأيام، وعلى أيامنا ما كان كل هذا الجنون. أما والد هفاف فقد تعشى ونام، ولم يبق لهفاف من تساهره إلا النهر وأطياف العشق المديد، والعمر الذي صار يداعب الستين. قصة رأس السنة القصيرة لحسن العاني مجموعة قصصية عنوانها (ليلة رأس السنة – 1994)، وفيها كما في سائر المجموعات المعنية، للّيلة الساحرة سرديتها التي قد تعنون قصة، أو بها تقوم قصة. ومن أمثلة ذلك: قصة (ليلة عيد) لعلي ناهي الشمري، وقصة (أضواء ليلة رأس السنة) لعبد الله خليفة، وقصة (هواتف رأس السنة) لمحمد المر، وقصة (ثقوب سوداء) لإياد نصار التي تسأل لبنى فيها هاشم صباح السنة الجديدة عما رصد في ليلة وداع السنة السالفة فيجيب: «ليس سوى ثقوب سوداء على أعتاب عار جديد». فترد بسخرية تتلاعب بالجناس الناقص بين (عام) و(عار): كل عارٍ ونحن بخير. أما لبنى فتشعر أن لقاءهما في الليلة الساحرة قد مات قبل أوانه، وهاشم يلهبه قلق السؤال عن وداعه ولبنى لعام ولقائهما لعام كعاشقين يبحثان عن دفء في حروف باردة: هو يحسب أنه بقايا إنسان، وهي، كما يخاطبها: وطنك هو إبداعك، أما هذا الذي تعيشين فيه فهو منفى، لكأن البؤس هو هو، والشقاء هو هو، من سرديات رأس السنة في السجن، إليها في الوطن. ربما كانت قصة هانس كريستيان أندرسن (1805-1875): (بائعة الكبريت) أشهر قصة تتعلق برأس السنة. ولعل أحداً منا، من مختلف الأجيال، لم يقرأ هذه القصة أو لم تُقرأ له في سنوات الطفولة. فمن سحر هذا الشاعر والكاتب الدانماركي أندرسن، جاءت هذه القصة عام 1845، التي اقتبست عنها أفلام ورسوم متحركة، ومن وحيها ألفت موسيقا. يتحدد زمن القصة بالمساء الأخير من السنة وبالصباح الأول من تاليتها. ففي ليلة الاحتفال بالليلة الساحرة، وبينما تتساقط الثلوج، تخرج الطفلة الجائعة لتبيع أعواد الثقاب. وفي الشارع تفقد الحذاء الكبير العتيق الذي استعارته من والدتها، فتتابع السير في الشارع الخالي حافية. ويدفعها ما بها إلى أن تشعل واحداً من أعواد الكبريت، وتسوّره بيديها نشداناً للدفء. وعلى الضوء الخافت تحلم بجلوسها أمام مدفأة حديدية ضخمة، والنار فيها تتأجج، والدفء منها يشع، فتمد الطفلة ساقيها لتدفئتهما، لكن العود ينطفئ، وحلم اليقظة يتبدد، فتشعل الطفلة من ذبالة العود عوداً آخر يضيء ما حولها، ويأخذها إلى حلم جديد، فترى نفسها تجلس تحت شجرة ميلاد أجمل من شجرة الجيران في السنة الفارطة. وينطفئ العود الثاني، فتنظر الطفلة إلى السماء، وترى نجمة تسقط راسمة خطاً من الشهب، فتقدر أن أحدهم مات، بحسب حكاية الجدة العجوز «إذا ما سقطت نجمة، فهذا يعني أن روحاً تصعد إلى السماء». من عود ثالث تشعله الطفلة، يجيء حلم ثالث، تقف فيه الجدة وسط الأضواء راضية وسعيدة، وتعامل الطفلة برقة وحنو، فتناديها أن خذيني إليك قبل أن ينطفئ العود. وتحك الطفلة أعواد العلبة بالحائط لتؤخر اختفاء الجدة التي تحيطها بذراعيها، ومعاً تطيران، وتنطفئ الأعواد، ليصبح الصباح على الطفلة ممددة بين زاويتي منزلين، خداها محمران والابتسامة تبرق على شفتيها: هكذا رأى الناس الجثة الصغيرة. وبعد... منذ سنة، وفي هذا المقام، جئت برسوم لرأس السنة من روايات (فوق الجبل تحت الثلج) لـ«حنا مينه»، (أصابع لوليتا – حكاية العربي الأخير) لـ«واسيني الأعرج»، و(السجينة) لـ«مليكة أوفقير»، و(جداريات الشام – نمنوما) لصاحب هذه المتابعة لرسوم رأس السنة في قصص وروايات أخرى. ولعل الأهم في كل ذلك هو هذا الذي لا يصدق من الصور الروائية لاحتفال الليلة الساحرة في السجون والمعتقلات، ولكن أية رسوم يمكن لخيال أن يرسم أو لكتابة أن تكتب لو قيّض للشعراء والكتاب والفنانين الذين نهشت السجون والمعتقلات من أعمالهم وأجسادهم وأرواحهم ما نهشت، أن يسردوا ما عاشوه من رأس سنة إلى رأس سنة؟ وماذا لو أن السؤال يتفجر من هذه الدائرة الصغرى إلى الدائرة الكبرى التي تتلاطم فيها أفواج السجناء والمعتقلين، في بلدان الديكتاتوريات من أي لون كانت، وفي سنة واحدة فقط من تاريخها المديد العتيد؟ أليس لغادة السمان إذن أن تطلق الحسرة على ما كان وما سيكون في لحظة صدق بومية ترمينا بالسؤال «هل من سنة جديدة للمهزومين؟». ليلة سنة دانمركية ربما كانت قصة هانس كريستيان أندرسن (1805-1875): (بائعة الكبريت) أشهر قصة تتعلق برأس السنة. ولعل أحداً منا، من مختلف الأجيال، لم يقرأ هذه القصة أو لم تُقرأ له في سنوات الطفولة. فمن سحر هذا الشاعر والكاتب الدانماركي أندرسن، جاءت هذه القصة عام 1845، التي اقتبست عنها أفلام ورسوم متحركة، ومن وحيها ألفت موسيقا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©