السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نتوءات بشرية في الوجود

نتوءات بشرية في الوجود
29 ديسمبر 2016 15:55
د. سعيد توفيق لماذا نحن هنا والآن؟ لماذا كنا ولم نكن؟... تأمل هذا السؤال البسيط الذي طالما حيِّر الكثيرين من قبل، لتعرف أن وجودك في هذه الحياة هو مجرد مصادفة، وهي مصادفة تتكرر كل يوم على أنحاء شتى لا حصر لها: أنت أتيت إلى هذا الوجود الفسيح مثل آلاف غيرك يولدون كل يوم، لمجرد أن أباك قد نكح امرأة ما هي أمك، وكان من الممكن ألا يحدث هذا. وحتى عندما حدث هذا، كان من الممكن أن تكون ذكراً أو أنثى، وكان من الممكن ألا تكون على الخِلقة التي أنت عليها، وكان من الممكن ألا تُولد أصلًا. وجودك إذن هو مجرد مصادفة أو مجرد حالة عارضة، أي مجرد حالة أنتجها مصنع الطبيعة الذي ينتج آلافاً من البشر غيرك كل دقيقة، وفقاً لقوانين الطبيعة التي فطرها الله في الكون. ولكن لا ينبغي أن تبتئس من تلك الحقيقة، فأنت لست مجرد نكرة في هذا الوجود، اللهم إلا إذا أردت أن تكون نكرة! فأنت منذ وعيت وجودك أصبحت مسؤولًا عما أنت عليه، أو عما تريد أن تكون. إذا فهمت ذلك، فهذا يعني أنك فهمت شيئاً مهماً يتعلق بروح الفلسفة الوجودية التي عادةً ما تقترن بالفيلسوف الشهير سارتر، رغم أن هناك فلاسفة وجوديين لا يقلون عنه أهمية، ورغم أن هذه الفلسفة الوجودية هي مجرد فرع من أصل أعظم يُسمى فلسفة الوجود العام التي يعد هيدجر أعظم مؤسسيها. ومع ذلك فإن سارتر (الفرع) أكثر شهرة من هيدجر (الأصل)، وذلك من طبائع الأشياء والأحوال في الحياة. ولا أريد أن أخوض في تلك المسألة الفلسفية، لأنني أريد أن أخوض فحسب في مضمون الموضوع الذي أتناوله هنا. من طبائع الأمور أن أغلب الناس الذين يُنتجَهم مصنع الطبيعة بالآلاف كل دقيقة يصبحون كائنات مشوَّهة، وكأنها أخطاء ناتجة عن عيوب صناعية تنشأ من مصنع الطبيعة الذي يكتفي بأن يعمل وفقاً للقوانين البيولوجية التي فطرها الله في الكون، دون أن يُعنى بغاية الموجود البشري والنحو الذي ينبغي عليه أن يكون. فما بالك إن تصادف أن كان ميلادك في بلاد متخلفة! ستجد في عالمك المتخلف أغلبية من هؤلاء البشر الذين لا ينشغلون بأي سؤال وجودي: لا ينشغلون بأية فكرة أو بأي شيء حقيقي يتعلق بالروح، أعني بالفكر والعقل والوجدان الأخلاقي والجمالي، فهم ينشغلون فقط بذواتهم في مستواها الجسماني، متوهمين أن الذات هي مجرد الجسم الذي يسكنون، ولذلك تراهم لا يتساءلون عن أي موضوع يتعلق بالروح أو العقل، فتراهم أيضاً ينشغلون بالحيز الضيق لوجودهم، أعني الحيز الخاص بوجودهم الجسماني، لا وجودهم الروحي. أولئك يكونون في مسلكهم أشبه بالحيوانات (الوضيعة)، وإن تبدوا لنا في هيئة بشرية، فمثل هذه الحيوانات تنشغل بالدفاع العدواني عن غذائها الذي يحفظ عليها وجودها الجسماني، وعن الحيز المكاني الذي تعيش فيه. لا تطرح معظم الحيوانات على نفسها سؤال الوجود ولا تعرف عنه شيئاً... بعضها فقط يعرف ذلك بطريقة مباشرة وتلقائية دون تأمل (ومنها الحيوانات رفيعة القدر كالكلاب والقرود العليا). ومن المفارقات العجيبة التي عرفتها من الخبرة أن قلة من البشر تعرف تلك القلة من الحيوانات، لأنها تعرف أن ما يجمع بينهما هو تلك المشاعر الرقيقة العميقة التي تنبع من الفطرة التي فطر الله الموجودات عليها. البشر الحقيقيون أريد أن أجسد هذا الكلام النظري في حالة أو مثال... إنها حالة الكلب الذي أصاحبه. لا يعرف الكلب شيئاً عن السؤال الوجودي، ومع ذلك فإنه يجسد حالة وجودية خاصة. هناك الكثير من البشر هم أدنى من الكلاب رتبةً، فهم لا يخلصون لصاحبهم ولا يقفون بجانبه وقت الشدة أو عند الخطر. كلبي الذي أصاحبه الآن قد جلبته منذ أن كان عمره شهرين... كلب أصيل له أب وجد معروفان بالاسم، جده في صربيا بطل معروف يُدعى إتيان، وهو يحمل تحت أذنه شريحة ميكروسكوبية دقيقة تثبت هذا النسب، ولذلك لم يُسمِح لي بتسمية كلبي، وإنما تم تخييري من الهيئة المختصة في صربيا بأن اختار له اسماً من بين اسمين يبدآن بحرف F، فاخترت اسم Fighter، أي المقاتل. كانت تربيته ولا تزال- عند كتابة هذه السطور- صعبة للغاية، ولكني كنت على ثقة بأن كل جهد تبذله مع الأصيل سوف تجني ثماره، أما غير الأصيل فلا تنتظر منه خيراً وإن أنفقت عمرك كله في خدمته. إن أردت أن تعرف شيئاً عن هذا، فاسترجع الأمثال الشعبية المصرية عن شخصية «الأصيل» وشخصية «العويل»، سوف تسمع الكثير من القصص والمواويل عن ذلك في غناء الموالد الشعبية، ويمكن أن تسمعه أيضاً بصوت واحد من أعظم من أنشدوا المواويل في مصر: شفيق جلال. كلبي الحبيب لا يحتاج مني سوى الصحبة والحب، هذا فقط يكفيه لكي يذود عني بروحه، يصبح في غاية التوتر حينما أهمله وأغفل عنه. فما بالك بالبشر الحقيقيين! التساؤل الوجودي هو: كيف تكون موجوداً بشرياً حقيقياً؟ وهو تساؤل يمكن أن تتعرف على الإجابة عنه ليس فقط من خلال تأمل حال البشر الحقيقيين، وإنما حتى من خلال تأمل حال الحيوانات الأصيلة التي يمكن أن يكون كثير من البشر دونها! بينما أتذكر هذا الآن، شاهدت فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا شك أنه قد انتشر عبر العالم كله، ليبرهن على أن بعضاً من المصريين الآن قد أصبحوا كائنات وحشية تحيا خارج التاريخ الإنساني. عضَّ الكلب بعضاً من الناس الذين حاولوا الاعتداء على صاحبه، دافع الكلب عن صاحبه بحكم الغريزة المفطورة فيه. اشترط من اعتدى الكلب عليهم أن يسلمه صاحبه إليهم، كي يقتلوه! هكذا بلغ حال العنف في حياتنا: أن تتلذذ بتعذيب حيوان حتى الموت. وهي حال سوف تُفضِي إلى ما هو أبعد من ذلك: التلذذ بتعذيب كائن بشري حتى الموت! هذا يشبه عندي ما يحدث الآن في عالمنا العربي من خلال تلك الكائنات الوحشية المتخذة صورة بشرية، تلك الكائنات التي تعيش بيننا التي تسمى «داعش»، إذ يتلذذ أعضاؤها بذبح غيرهم من البشر المختلفين عن عقائدهم وطبائعهم اللا إنسانية المريضة. هؤلاء نتوءات في الوجود، فهم بمثابة أخطاء في طبيعة الوجود أنتجها مصنع الطبيعة، وساهم في تواصلها بشر غابت عنهم المعرفة التي تتمثل في العلم والفكر والفن، أعني أنهم كائنات وحشية هي دون كثير من الحيوانات رتبةً ومكانةً. هذه الكائنات لا تعرف معنى الوجود، ولا تعرف تحديداً معنى الوجود الإنساني، وليس لديها أي تصور عنه أو عما هو جدير به. معنى الوجود الإنساني كثير من الناس العاديين لا يعرفون معنى الوجود الإنساني، لأنهم لم يعيشوا تجربة إنسانية حقيقية، لم يعيشوا تجربة حب أو عشق، ولم يبدعوا شيئاً في مجمل حياتهم، ولم ينشغلوا بأي سؤال وجودي، ولم يعرفوا حتى تجربة القلق الوجودي، ذلك القلق الذي لا يكون إزاء شيء محدد في الوجود، وإنما إزاء الوجود نفسه الذي يُطلعنا على أنفسنا باعتبارنا موجودات عابرة متناهية... ذلك الوجود الذي يثير في وعيه تساؤلات لا حصر لها عن معنى الوجود الإنساني الحقيقي، الذي يكون جديراً بالإنسان الذي يسعى إلى تجاوز تناهيه وموته ووجوده العابر. فَهِم أجدادنا من المصريين القدماء ذلك الوضع الوجودي، فقهروا شعورهم بالتناهي من خلال الإيمان المطلق بالخلود، بأن الحياة هي معبر لحياة أخرى، ولذلك احتفوا بالحياة نفسها من خلال أعمالهم وإنجازاتهم التي تشفع لهم في هذه الحياة الأخروية، واحتفوا بما تفيء عليهم الطبيعة من خيراتها باعتبارها خيرات تأتيهم من هذا العالم الآخر المتعالي. تأملت هذا كله وتدبرت، فقلت محَدِّثاً نفسي: هذا هو معنى الإيمان، فيه النجاة، وفيه نبع أعمالنا من الخير والأخلاق والإبداع في هذه الحياة، وفي هذه الأعمال شيء من الخلود في مواجهة تناهينا. ميدان الكلب هل تذكرون حكاية الكلب الذي ظل يرافق صاحبه في إحدى مقاطعات النمسا، إذ يصحبه إلى محطة القطار بالنهار التي ينطلق منها صاحبه إلى عمله، ويعود لينتظره بالمحطة عند عودته. وفي المرة الأخيرة ظل الكلب منتظرًا عودة صاحبه بالميدان الواقع عند محطة القطار، وطال انتظاره، فأحس الكلب بفطرته أن مكروهًا قد أصاب صاحبه، فظل منتظرًا أيامًا في المكان نفسه، وقد عافت نفسه أي طعام أو شراب، كان صاحبه قد مات، فانتظره كلبه دون جدوى حتى مات هو الآخر؛ ولذلك نصب له الناس هناك تمثالًا في الميدان سموه على اسمه: ميدان الكلب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©