الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

برتولوتشي: بالأفلام خرجَتُ على أبي!

برتولوتشي: بالأفلام خرجَتُ على أبي!
29 ديسمبر 2016 15:55
نص- برناردو برتولوتشي ترجمة- أمين صالح وُلدت في بارما، في بيت مليء بالكتب والأشعار. أبي (أتيليو برتولوتشي) كان شاعراً وناقداً سينمائياً. كان يأخذني معه، وأنا صغير، لمشاهدة الأفلام.. أحياناً فيلمين في اليوم. لقد اعتاد أن يشاهد الأفلام كل يوم تقريباً لغرض الكتابة عنها في جريدة محلية في بارما. بالنسبة إليّ، مشاهدة الأفلام كانت تعني الانتقال من الريف إلى المدينة. العلاقة إذن هي بين المدينة الأسطورية والسينما الأسطورية. لقد علّمني أبي أن أنظر إلى السينما، أن أفهم السينما، أن أحب السينما. الشعر كان شيئاً متوارثاً، شيئاً يجري في دم العائلة. والشعر هو أول ما قرأت. كان موجوداً في المنزل، تستطيع أن تشعر به في هواء العائلة. بدأتُ كتابة الشعر، وأنا في السادسة من عمري، محاولاً محاكاة أبي، لأنه كان شخصاً موهوباً، وهذا ما يفعله معظم أبناء الموهوبين. ومن المحتمل أني توقفت عن كتابة الشعر، وأنا في العشرين تقريباً، لأني أردت، بوعيٍ، أن أكفّ عن محاكاته. أردتُ أن أحقق أفلاماً بدافع الرغبة، الحاجة، إلى فعل شيء مختلف عمّا فعله أبي. هو كان شاعراً، وأنا أردت أن أتنافس معه، أن أباريه، لكن ليس بفعل الشيء نفسه. لقد أدركت بأنني سوف أخسر المعركة لو نافسته في الشعر، لذا كان عليّ أن أجد حقلاً مختلفاً أباريه فيه. باعثي الداخلي، العميق، الغامض، كان دوماً تلك الرغبة الشخصية جداً لإيجاد لغة تنتمي إليّ وليست موروثة كلياً من أبي. في وقت مبكّر أبديت اهتماماً بالسينما، وفي فترة مراهقتي كنت واثقاً بأنني يوماً ما سأحقق أفلاماً. السينما كانت شيئاً اكتشفته بنفسي. كنت أبحث عن لغة، لغة سينمائية. عملياً، توقفت عن كتابة الشعر لحظة حملت الكاميرا بيدي. لحظتها شعرت بأني مفتون. وعرفت أن الأفلام هي مستقبلي، وهي أيضاً عقوبتي.. ذلك لأن ثمة الكثير من الأشياء في الحياة. الشعر كان مجرد وسيلة للتعبير عن نفسي حتى أتمكن من العثور على الطريقة الحقيقية بالنسبة إليّ: تحقيق الأفلام. لهذا السبب، كل فيلم أحققه هو ضرب من الشعر. كنا نملك أرضاً صغيرة في بارما. تعلمت في مدرسة القرية حتى بلغت الحادية عشرة. بعد ذلك انتقلنا إلى روما، والتحقت بالثانوية هناك. عندما دخلت الكلية انقطعتُ فجأة عن الدراسة لأنني آثرت أن أعمل في السينما. جدلية مع الجحيم عشت فترة مراهقة سعيدة للغاية في بلدتي. وعندما تكبر وتبدأ في استبطان وتأمُّل أفكارك ومشاعرك ودوافعك، فإنك تفهم أن الفردوس المفقود كان فردوساً لأنه في حالة جدلية مع الجحيم. عبر الاستبطان أدركتُ أن العديد من الأشياء التي اعتبرتها أسطورة في مرحلة المراهقة كانت على الأرجح، واقعية، دراما.. بدلاً من أن تكون مجرد لحظات غنائية جميلة. الطريقة الوحيدة، بالنسبة إليّ، لسبر حياتي، والتفكير فيها وتحليلها، كانت من خلال الأفلام. إن تحقيق فيلم هو وسيلة لفهم الواقع بشكل أفضل، ولفهم نفسي بشكل أفضل. في العاشرة من عمري، عندما كانوا يسألونني ماذا أريد أن أكون حين أكبر، كنت أجيب فوراً: أريد أن أصنع أفلاماً. كل واحد من أصحابي كان يرغب في أن يصبح رئيساً للشرطة أو جنرالاً أو إطفائياً. أما أنا فقد أردت أن أصبح مخرجاً. وعندما بلغت الخامسة عشرة، قمت بزيارة إلى المناطق الجبلية، وهناك وهبني شخص ما كاميرا 16 ملم. صنعت فيلماً مدته عشر دقائق عن الأطفال. كنت المخرج والكاتب والمصور والمونتير، ثم عرضته على المزارعين في تلك المنطقة الصغيرة التي كنا نقيم فيها. الفيلم أثار اهتمامهم، فقد كان ثاني فيلم يشاهدونه في حياتهم، الأول أنتجته وكالة أبحاث أميركية عن الزراعة في فيرمونت. لم يكن فيلمي مهماً، بل كان من نوع home movie، أي الذي يُعرض في البيوت. لكنني صرت أعشق السينما أكثر. في العام التالي حققت فيلماً قصيراً آخر عن طريقة ذبح المزارعين للخنازير أيام الكريسماس. عشاءات سينمائية لم أدرس السينما على الإطلاق. المدرسة الوحيدة لتعلّم السينما هو أن تذهب إلى صالات السينما وتشاهد أفلاماً، لا أن تضيّع وقتك في دراسة النظريات في المعاهد السينمائية. إن أفضل معهد سينمائي في العالم هو «السينماتيك» في باريس، الذي يعرض كل الأفلام العالمية، وأفضل أستاذ هو هنري لانجلوا مؤسس السينماتيك. من طريق والدي تعرّفت أيضاً على ألبرتو مورافيا. أعتقد أني كنت محظوظاً في التعرف على مثل هؤلاء الأفراد. كنت أتناول العشاء، ليلياً تقريباً، مع بازوليني ومورافيا وزوجته إلزا مورانتي. جلسات العشاء تلك كنت أعتبرها جامعتي، من خلالها تعلمت كل شيء. التأثرات وافرة: رينوار، جودار، ماكس أوفولس، دوفجنكو، والعديد من مخرجي هوليوود. أستطيع أن أذكر الكثير منهم. الأفلام، مثل الثقافة، هي كلٌّ متصّل ومترابط، وتاريخ السينما عبارة عن فيلم طويل وجميل، مؤلَّف من آلاف اللقطات المتعاقبة. كل لقطة هي جزء من الكل. كنت الشاب الذي يبحث عن العديد من المعلّمين. وقتذاك، في العام 1959، حصلت على علامة ممتازة في اللغة الإنجليزية، في امتحان نهاية المرحلة الثانوية. وقد كافأتني عائلتي بدفع مصاريف رحلتي إلى باريس. ذهبت إلى باريس مع أحد أقربائي. هناك شاهدت فيلم جودار «على آخر نفس» Breathless، وفي الحال وقعت في غرام الفيلم، السينما، صنع الأفلام. ثم عدنا إلى روما. «الحياة الحلوة» في الواقع، لم يكن «على آخر نفس» الفيلم الذي جعلني أرغب في أن أكون مخرجاً. لقد رغبت في ذلك بعد أن شاهدت فيلم فلليني «الحياة الحلوة» La Dolci Vita، والذي سبّب لي صدمة، بالمعنى الإيجابي. لقد حضرت عملية تصوير بعض مشاهد الفيلم، وأنا في الثامنة عشرة من عمري، وذلك حين أخذني والدي معه إلى استديوهات سنشيتا. وقتها كان فلليني قلقاً بشأن إمكانية منع الفيلم من العرض. كان خائفاً من تدخّل الكنيسة والبابا ضد فيلمه. ثمة إشارات ضمنية كثيرة للدين في فيلمه. لذلك كان يعرض الفيلم للمثقفين، لأصدقائه، وغيرهم. ذهبنا مع بازوليني وآخرين. كانت صالة العرض صغيرة جداً. وجدت نفسي محاطاً بالكثير من الشعراء، وكان عليّ أن أفعل شيئاً آخر. بعدئذ شاهدت فيلم «على آخر نفس» في باريس، ووقعت كلياً في غرام ذلك الأسلوب، تلك اللغة، تلك الحرية. الذي جذبني إلى جودار، مع أفلامه الأولى، أنه كان يتمتع بحرية تامة. أيضاً كان ينتهك كل القوانين، ويبتكر طريقة جديدة في سرد القصص. وكان يستخدم هذا الشغف في التلويث، بالمعنى الجيد. في دمج نوعيات مختلفة، في مزج مواد مختلفة. إضافة إلى تلك الطريقة المغايرة في المونتاج. كنت دوماً أميل إلى الأفلام التي من خلالها يعاد خلق السينما، كما لو أنها بداية السينما. ذات يوم التقيت مع بازوليني عند مدخل المبنى، وقال لي: أنت شاعر، لكنك ترغب في صنع الأفلام.. حسناً، ستكون مساعداً لي. كنت في العشرين من عمري عام 1961عندما سنحت لي فرصة مثيرة للعمل كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفلامه: (أكاتونه ــ Acatone). العمل مع بازوليني تجربة استثنائية ومهمة جداً بالنسبة إليّ. بازوليني كان شاعراً وروائياً ثم كاتباً مسرحياً. كان مثلي في اتصاله بالسينما. كلانا كان بكراً. لم نكن نعرف شيئاً عن العمل السينمائي. وهو لم يفكر أبداً في إخراج الأفلام إلى أن عُرض عليه أن يخرج فيلماً. كنا نتعامل مع السينما للمرة الأولى.. بلا خبرة ولا تجربة. لهذا فأنا لم أكن أراقب مخرجاً وهو يعمل، بل أشهد ولادة مخرج. كان يمتلك الشجاعة والجرأة على تحقيق فيلمه الأول، الذي كان بداية سلسلة من الأفلام الجميلة، العظيمة. في ما يتعلق بالأسلوب، كان الأمر محركاً ومثيراً جداً، لأن اللقطة المتحركة أو المصاحبة، التي يصورها بازوليني، تبدو كأنها أول لقطة متحركة أو مصاحبة في تاريخ السينما. حتى اللقطة القريبة تبدو كأنها أول لقطة قريبة في تاريخ السينما. كان يكتشف السينما، يكتشف لغته السينمائية. لقد جاء بازوليني إلى السينما وهو لا يعرف شيئاً عنها. جاء من الأدب وكان بريئاً جداً على مستوى اللغة السينمائية. لذلك فإن كل لقطة يأخذها هي تأسيسية. كان ذلك أشبه بولادة اللغة.. كما لو يخترع السينما للمرة الأولى. أما بالنسبة إليّ، فقد كنت أساهم مع بازوليني في ولادة السينما. وقد برهن لي فيلم «أكاتونه» أن السينما هي اللغة الشعرية الحقيقية. إنها أقرب إلى الموسيقى منها إلى الأدب، أقرب إلى الشعر منها إلى المسرح. في إيطاليا، لدينا مخرجون عظام مثل روبيرتو روسيلليني، وفيتوريو دي سيكا، ولوكينو فيسكونتي، وفلليني، غير أن الموجة الجديدة الفرنسية هي التي أغوتني، ذلك لأنها كانت بالفعل تعيد ابتكار كل شيء. تابوت الشعر عندما بلغت الحادية والعشرين، عرّفني بازوليني على الناشر الذي نشر لي كتابي الأول «بحثاً عن اللغز» (1962)، الذي ضم مختارات من قصائدي. وحاز الكتاب جائزة في إيطاليا. بعد ذلك أنهيت علاقتي بالشعر المكتوب على الورق. كان الكتاب أشبه بتابوت ضم قصائدي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©