السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عام اللغة

عام اللغة
17 فبراير 2016 20:35
لينا أبوبكر «لا يمكن للحقيقة أن تقلد، لا يمكنك أن تصبح حقيقياً من خلال نسخة كربونية، لا يتم تحقيق الحقيقة عبر اتباع الآخرين»...هذا هو أوشو، الذي عرف كيف يمكن للحقيقة أن تكون غنيمة سهلة جداً للسرقة أو التقمص الرخيص الذي يسمى تأدباً «اتباعاً»، واللغة هي الحقيقة التي لا تهدأ، «فكيف لا تصدق كبيراً قال يوماً: (قلبي مسعور، وأنا أكتشف ما هو خفي في روحي. أنا مغمور في هذه النعمة العظيمة التي تسمو على كل المتع والألم).. الكتابة إذن هي السعار والذي يسمى تأدباً أيضاً: السعي إلى الاكتشاف، واللهاث وراء الفكرة، وبهذا يكون كل كاتب مسعوراً وليس كل مسعور كاتباً! الساعة: لغة ! الساعة الآن صفر بتوقيت اللغة، هنا تبدأ الكتابة، كل شيء لا ملمحي، مجهول، تتخلى فيه عن عقلك، طالما أنك تحاول تأمل ما خفي مما تحسه، ولست بحاجة لأن تراه كي تتعرف إليه، إنه كما أسماه أوشو تماما:«فن التخلص من العقل»، وهذا لا بد له أن يتحلى بالشجاعة القصوى لرفض المعرفة التكرارية، و«التحرك في المجهول، بالتالي إدراك ما يسمى»، أفلا يشبه هذا المنطق الأوشوي، طقوس الكتابة، التي تصل بك إلى فقدان السيطرة التامة على نفسك وربما إرادتك حتى يختلط عليك أمر حكمتك فتصبح مجنوناً..... الكتابة ثمرة ملعونة هي حصيلة ممارسة محرمة مع المخيلة، وقد يكون أخطأ أوشو كثيراً حين اعتبر أن المجهول طريق للحب؛ لأنه لو قال إن المجهول طريق للإحساس بالمتعة، لكان أكثر عدلاً مع الحب، فالكتابة الحقيقية ليست تلك التي تستفزها طاقة الاستغراق بهذا الكائن، حتى حين نظن أننا نحب، هناك ما هو أكثر أنانية من الحب يدفعنا للكتابة. كاميرا الطاقة في كل الأحوال المجهول يظل منطقة آمنة، لا تخضع لصراع الطاقة، لكنه حين يرتبط بالكتابة كمادة تأملية، تعيد اللغة صياغته ضمن مجالها الكهرومغناطيسي، وعن طريق ما يحتويه من محاور كهربائية متصلة مباشرة مع مركز المخيلة في الدماغ، فإن المجهول يبدو مألوفاً ومروضاً بالإبداع، ورغم خصائصه الزئبقية، فإن اللغة كاميرا الطاقة التي تنجح بالتقاط صور له عندما يكون تردده الكهربائي عالياً، إنها طاقة حيوية، تقوم بتخزين عدد هائل من الشحنات الكهربائية كي تستخدمها في الساعة صفر بتوقيت القلق! في هذه الحالة لست بحاجة للبحث عن سبب للكتابة، لأن الكتابة من أجل الكتابة أصدق من أي مبرر آخر، إنها كالتهمة إن حاولت الدفاع عنها أو تبريرها تهينها، تتنازل عنها، تتراجع في ارتكابها، تبدو مختلة لا تبعث على الثقة، فكيف تفرط بالحقيقة! من يختطف الطاقة؟ عندما تكتب أكثر مما يستحق اللصوص، وترضى بأن يختطف هؤلاء طاقتك منك، فأنت جبان، لأن الاستبسال باسترداد طاقتك، هو نوع من العقوبة توقعها على السارق أو السارقة، لتجردهم من الطاقات المستعارة بالتالي تقتلهم مرتين.. ولكن ماذا عن قتلك أنت؟ من يتكفل بالجريمة؟ يذكرني أوشو بجدي؛ لأنه يلتقي معه بتأملاته، ولكن على الأرض... جدي كان فلاحا، تتورد وجنتاه خجلاً كلما رفع فأسه في وجه وردة، فالعلاقة بينه وبين أرضه خاصة جداً، أصحابه في الأراضي المجاورة يختلفون عنه كثيراً؛ لأن الفلاحة بالنسبة إليهم مكسب للرزق أو أسلوب حياة وطبيعة موروثة، بينما هي بالنسبة إليه تعلق بالمجهول، إنه يفلح لكي يقترب من النقطة العمياء، يفلح ليرتكب الجريمة على طريقته، علاقته بالأشياء لا تحكمها الحميمية العادية والتكرارية، بل قوامها التبادل الطاقوي بين الطرفين: الأرض والفلاح، كان يفهم تماماً معنى أن يمارس الإخصاب مع بيارته، يضع رأسه برأسها، ينسى عدوه ويتذكر المجهول.. لحظة التقاء القطبين الكهربائيين تبدأ النشوة، فمن يراه من مسافة يظن أنه يداعب حورية لا تراها ولكنك تستدل عليها من طاقتها السريرية، كان يفلح ضيعته برأسه لا بفأسه، تماما كما أفعل مع لغتي التي كانت تربيني على طريقة جدي، أضع رأسي برأسها فقط، وأصبر عليها، ملقية وراء ظهرها كل المكائد والأعداء، لغتي هي عدوي الوحيد الذي يليق بي، تنازلت من أجلها عن كل حروبي الرخيصة مع الآخرين، لم أحتج لأحد سواها كي أنتصر معها عليْ... تحديتُني بها، ومارست معها نشوة جدي، خرجت مني لأرتدي قمباز الجد وشاربه ولحيته الطليقة في الساعة صفر من موعد اللغة، فكلما ساورتني رغبة بالكتابة توجهت إلى حقيبة جدي وأخرجت زيه وتقمصته تماما، والجميل في الأمر أنني لم أنجح في حياتي كلها بالكتابة بدون عدته، مواصفاتي في لحظة الحقيقة وموعد اللغة كانت صفتي: الفلاحة! ختم اللغة المدينة على مد البصر، وبشر من نواحي لا تخطر ببال بشر، وغراب آلان إدغار بو، شعار وطني للتفاؤل، وأنا أرتدي طاقية إفرنجية وبنطال جينز، وحذاء رياضيا، وأمشي، وأمشي لأجل التوقف عندي، فماذا سأقول بعد لجدي؟ إنني بحاجة ماسة للكتابة، في وسط لندن، الآن، فماذا سأفعل وختم اللغة ليس بحوزتي؟ افترشت ناحية صغيرة نائية بعيداً عن أعين المارة والعابرين، أخرجت الورقة والقلم، أحاول أن أكتب دون جدوى، أحتاج للزي الرسمي للكتابة، وأنا بعيدة جدا عن خزانة ملابسي، بمسافة عزلة وقاطرة معطلة.. الطاقة الآن تبلغ ذروتها كالنشوة، ولا سبيل لإفراغها؛ لأن الطقس ناقص، والرأس مستعار، هذه لست أنا، وأنا أريد الآن كوفية جدي لأعدل مزاج الكتابة ! قُبلة لُغة الرابط الوحيد دائماً بين كل ما تتذكره أو تتخيله، أو تعبر عنه، هو اللغة، لا شيء سوى اللغة، لا تبحث عن وحدة موضوعية، أو تواشج عضوي، ابحث فقط عن العروة الوثقى: اللغة.. في القطار، يسأل طالب يوناني: ما أجمل زيك، من أي البلاد أتيت؟ = من القدس. - إسرائيل؟ = فلسطين. - القدس عاصمة إسرائيل. = القدس عاصمة جدي.. هذا زيه، هذا زي القدس. الشاب لذيذ ولطيف وهكذا ببساطة تامة: - فلسطين جميلة إلى هذا الحد... سأتذكر دائما جدك.. لولا أنني رجل مثله، لكان لي فعل آخر معه، ولكنني اكتفيت بمنحه قبلة اللغة، ومضيت أحمل أرض الغريب على ظهر جدي... رَجُلَ اللغة يقول لوركا: في عينيك كل الطرقات بلا نهاية.. ثم بعد هذا، أراه يجلس ميتا على بوابة حانة مهجورة: «الموت يتجول داخل وخارج الحانة» هذا ما لفظه لوركا في لحظة احتضار اللغة... بين الموت والحب قابلت لوركا، في مشفى غريب على هضبة واسعة، مزدحم بالموتى والغرباء، بالبياض والأضواء الصفراء، مزدحم بدواري... يا إلهي، لا أحب أن أفقد وعيي، أخاف على لغتي! الأنبوب متصل بوريدي، ينقل دم الغرباء إلى عروقي، شيء ما يقتحم عالمي، لا أريد دما ليس لي، دما غريبا لا أعرفه، حتى لو كان ذلك سيكلفني تهمة بالعنصرية! بين الوعي واللغة، كان ثلاثينيا، مغمسا بزيت الحنطة، شارب خفيف، وغرة متهدلة فوق حاجب مستتر، فمن هذا؟ إنه لوركا! من هو لوركا؟ شاعر أندلسي... أعتقد أنني سأموت به ! نسيت دم الغرباء، وبدأت بارتشاف دم اللغة، كان لوركا الرجل الوحيد الذي مارست معه اللغة عارية، دون أن أضطر لارتداء قمباز جدي، بصراحة كنت أريد رجالا لأحبهم، لا لأمارس معهم الحب، وهذا ما جعل علاقتي بلوركا علاقة ليست طارئة ولا مؤقتة ولا عابرة ولا مجرد نزوة لغة، إنها علاقة موت.. أن تحب يعني أن تموت... ولقد مت بأحضان لوركا ألف مرة ولم يتعب من موتي، لم يمل، لم يكن محايدا، لم يكن سراقا ولم يكن بياع أكفان ولا منظم جنازات، منذ لقائنا الأول، سحب الأنبوب من دمي، غسل لغتي واحتفظ بجثتي في دفتر الموت، لقد كان قاتلي، وهذا وحده يكفي ليكون جدي !
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©