الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قلعة دمشق.. روحُها

قلعة دمشق.. روحُها
17 فبراير 2016 20:35
سمر حمود الشيشكلي سماء زرقتها بلون سماء الربيع، صافية كالكريستال الشفاف، على صفحتها نثار غزل البنات الأبيض ندفه البرد غيوما كالغيم، ولكنها إلى ندف القطن أقرب. تحمل الصورة عبق فجر الحياة، ابتداؤها وأزليتها الأرضية، رائحتها تقبع عميقاً في ذاكرة حاسة الشم، والروائح ذاكرة يشكلها الحدث والأشياء. تلك هي دمشق ذات مساء متأخر. سألني مسافر كندي صادف مقعده إلى جانب مقعدي على متن الطائرة التي ستحملني من تونس إلى دمشق عبر مطار ميلانو الإيطالية، وتحمله في نفس الوقت إلى سويسرا عبر نفس المطار، وربما ليقتل توتره وضجره من تأخر الإقلاع، سألني: - إلى أين وجهتك؟ = قلت: دمشق. - أعرف أنها مدينة قديمة، ولا أعرف أكثر، فكيف هي دمشق؟ = شهادتي ستكون مجروحة. - أدمشقية أنت؟ = هي دمي وأوكسجين وجودي. - سأل بقليل من الاستخفاف: وماذا يميزها عن غيرها من مدن العالم؟ = أجبت وقد امتزجت نبرتي بقليل من الغيظ المتحدي: مدينة لا تتميز بشيء عن مدن العالم، بل وفيها كل عيوب مدن الشرق المتخلف، ولكن روحها العتيقة الجديدة آسرة. - إذاً، أنت تدينين لي بفنجان قهوة في دمشق، لو تسنت لي زيارتها ذات يوم، قد تكون مكاناً لمهمة عمل جديدة، فأنا خبير أغذية أعمل مع الأمم المتحدة. = لو حصل ذلك، احرص على زيارة سورها وقلعتها وجامعها الأموي. بعد عام بعد عام تقريباً، حضر ستيف إلى دمشق في مؤتمر قصير، وسنحت له فرصة التجوال في المناطق التي رشحتها له، وفي غيرها أيضاً. بيد أنني لم أرافقه في تجواله؛ إذ كنت خارج دمشق، للأسف، في مهمة عمل لي أيضاً. لكنه اتصل بي عبر هاتفي الذي أعطيته له على متن الطائرة إلى ميلانو، محطتنا المشتركة وقتها، وقال: - أنت محقة، دمشق روح مضيئة. = ابتسمت، وابتلعت دمعة عشقي لدمشق. عشق ابتلي به كل من عرفها بروحه. دمشق، واكبت الزمن كأقدم مدن العالم وواحدة من أقدم العواصم العريقة بماضيها وجمالها، بل أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ. دبت على أرضها الحياة منذ بدء الخليقة، وحظيت بالنماء والعمران وراحت تتقلب عليها الدول وتتوالى الحضارات، وكل منها تترك شواهد وآثاراً لم تمحَ، جعلت من تاريخها سجلاً ثميناً، مترعاً بالأطياف والطاقة الجميلة. تاريخ في كل جانب من جوانب دمشق مظهر من مظاهر الحضارة العمرانية المتميزة، وسورها هو أحد المعالم العمرانية التي يشهد لها بالأصالة على مر العصور. فقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي أن: «أول حائط في الأرض بعد طوفان نوح، هو حائط دمشق». بني سور دمشق المحيط بالمدينة لأول مرة في العهد الآرامي، ثم جدد في العهد الروماني، وكذلك في العصر البيزنطي. وتربط السور بقلعة دمشق علاقة وثيقة، لأنها القلعة الوحيدة التي بنيت على سور، بينما تم بناء أغلب القلاع الأخرى، كقلعة حلب والحصن والمرقب والقاهرة والكرك... وغيرها على هضاب، وبذلك تكون القلعة الوحيدة التي تتميز بأنها أفقيه على مستوى أرض المدينة. والقلعة وهي أول حصن عرفته دمشق، وقد جددها القائد السلجوقي «آتسز بن أوق» بعد دخوله إليها سنة (471 هجرية - 1078 ميلادية) إبان حكم العباسيين. وفي عهد الدولة النورية (الزنكية) التي حكمت العراق والشام في السنوات الأولى من القرن الثاني عشر (549 هجرية/‏‏1154 ميلادية) أقام نور الدين في دمشق، وجعل قلعتها مقره، فأصبحت دمشق للمرة الأولى منذ نهاية العصر الأموي عاصمة للدولة العربية الإسلامية. وقد جدد نور الدين القلعة ودعمها بالأبراج وبخندق محمي بسور، كما أنشأ فيها دورا ومساجد وحمامات ومدارس. أما صلاح الدين الأيوبي، الذي تولى السلطة في الشام والعراق وأماكن أخرى منها مصر بعد انتهاء عهد الزنكيين، فإنه اتخذ من قلعة دمشق مركزا لعملياته العسكرية. وواصل ابنه الأكبر الأفضل علي، مسيرته، مستعينا بعمه (العادل) حاكم الجزيرة الذي أصبح منذ سنة 1200 سلطانا على الدولة أو الإمبراطورية الأيوبية التي ترامت أطرافها لتشمل العراق ومصر والشام، وخلال المسيرة التاريخية للدولة الأيوبية كان للملك الصالح أيوب، ومن بعده الناصر يوسف، دور فاعل في تقوية أسس القلعة، وتحصينها، وإضافة الكثير من المباني السكنية والإدارية داخلها. واهتم المماليك، أيضاً، بدمشق وقلعتها، ونستطيع اليوم أن نتلمس آثار الكثير مما فعلوه، فالظاهر بيبرس جدد القلعة، وبنى فيها دارا كبيرة مع مرفقاتها، وأشاد قاعة على شكل قبة واسعة فوق برج الزاوية الشمالية الغربية وحماما قرب البوابة الشرقية، وأعاد بناء الجهة الشمالية المؤلفة من خمسة أبراج مع بدناتها. وعندما دخلت الشام تحت السيطرة العثمانية، كان لقلعتها شأن كبير مع تاريخهم فيها، ومن أبرز معالمه أن أسعد باشا العظم، وهو من أهالي دمشق، أصبح نائبا (حاكما) لدمشق، واستقر مركز عمله فيها. وكلما كانت القلعة تتعرض للتخريب أو الزلازل كان السلاطين العثمانيون يأمرون بصيانتها وإعادة بنائها من جديد. بعد عزّ لكن القلعة لم تنج من الزمن ونوائبه، ففضلاً عن أنها أصبحت مجرد أنقاض مع مطلع القرن العشرين، فقد استخدمت حتى وقت قريب سجنا وثكنة عسكرية، بدأت مع الاحتلال الفرنسي لسوريا. كما أنها طوقت بمجموعة كبيرة من الأسواق أخفت معالمها، حتى أن الواجهة الجنوبية للقلعة اختفت خلف (سوق الحميدية) الذي امتد عبر كل المسافات بين الأبراج، أما (سوق العصرونية) فقد اتسع ليمتد على طول الجدار الشرقي للقلعة. لكنها حررت فيما بعد فأزيل (سوق الخجا) من الواجهة الغربية، وحرر الجزء الشمالي من الواجهة الشرقية، كما أزيلت جميع المباني عن الميدان الشمالي، لتكشف عن سطوة جمالها الرائع. وصف القلعة تقع القلعة في الزاوية الشمالية الغربية من مدينة دمشق القديمة، بين باب الفرج من الشرق وباب النصر من الجنوب، وقد صممت بشكل تستفيد به من الميزات الجغرافية والاستراتيجية لموقعها. كما أن المصادر المائية التي كانت غزيرة في هذه المنطقة جيِّرت لخدمتها وخدمة أغراضها الدفاعية، إذ يمر فرعان من نهر بردى فيها، نهر العقرباني شمالها، في حين يدخلها نهر بانياس جنوب البرج الثالث. صممت القلعة لتعتمد على قوة دفاعاتها الذاتية؛ فهي تتألف من ثلاثة عشر برجا مع البدنات الرابطة بينها، وتظهر الأبراج عن البدنات بارزة باتجاه الخارج. وزودت الأبراج بمرام في كل طابق مع تصوينة علوية مزدوجة مزودة بالسقاطات والرواشن. ويتألف مكان الرمي من إيوان مجهز بمرمى ويسمح الفراغ بوجود اثنين من الرماة يتناوبان الرمي فيما بينهما، ولتيسير حركة الجنود تم تأمين أبواب بالأبراج تصلها بالممر. وإذا مر الزائر عبر البوابة الغربية للقلعة إلى الداخل، فسيجد نفسه أمام ممر مسقوف. وللجدران الخارجية مناسيب دفاعية، إلا أن الممر المسقوف لم يبق منه سوى الأقواس. أما القصر الأيوبي الذي كان واقعا في الجزء الغربي للقلعة فقد تهدم. والقصر الموجود حالياً يعود إلى أيام المماليك. داخل القلعة يمكن أن نقف على الكثير من الأبنية والمؤسسات، مثل القصور التي كانت مقرا للسلاطين، الحمامات، الغرف المستطيلة المزودة بدرج للنزول إليها أو القاعات الكبرى التي تحملها الأعمدة الجميلة الواقعة في منتصفها متزينة بتيجانها. ولهذه القاعات مداخل تفتح على ممرات طويلة مسقوفة، وهناك أواوين مغطاة بصفوف من المقرنصات، فيما تزين الكتابات القباب. وغالبا ما كانت المسافات بين الجدران مسقوفة بعدة مناسيب من الأرضيات الخشبية المحمولة على دعامات مثبتة ضمن حفر في جدران الأبراج. لقد اعتمد معمار القلعة وهندستها على الكتلة البنائية الضخمة للأبراج؛ فأحجار الأبراج هي أحجار ذات بطون، ويساعدها هذا في امتصاص صدمات القذائف الموجهة إليها. وتتألف جدرانها من ثلاث طبقات، صفان من الحجارة المنحوتة من أحد جانبها تحيطان بقلب أو حشوة من الدبش، وليس هناك أي اتصال بين حجارة الأبراج والبدنات المجاورة حتى لا يسبب سقوط أحدهما انهيار الآخر. وكل من يطلع اليوم على خارطة القلعة الخارجية يجد أنها كانت محاطة بأسواق وخانات ومدارس ومستشفيات وجوامع ومقامات وطاحونات وأبواب، منها على سبيل المثال: سوق الحميدية وباب النصر وسوق الحريقة وباب الجابية وخان أسعد باشا العظم وقصره والمدرسة النورية وقهوة النوفرة، والمدرسة الشميساطية والمدرسة الجقمقية ومقام صلاح الدين الأيوبي والمدرسة العادلية والمدرسة الظاهرية ثم طاحونة باب الفرج وباب الفراديس، وبيمارستان النوري. وكان فيها عدد من القصور والمنازل والحوانيت. واصطفت في القلعة وعلى سور دمشق منشآت مدنية ما تزال حتى الآن، منها جامع أبي الدرداء وهو قاعة واسعة تتصل بالبرج الشمالي المتوسط والى جانبها أيوان صغير وفي الحرم ضريح ينسب إلى الصحابي (أبي الدرداء). ودار رضوان والطارمة ودار المسرة ومخازن وطاحون للحبوب. وقد سكن القلعة في عصور مختلفة السلاطين والملوك والأمراء والولاة، إضافة للفقهاء والعلماء والوزراء. ولابد للجالس هناك أن يحس بعبق التاريخ ورائحته الزكية. بنيت قلعة دمشق على شكل مستطيل والمساحة التقريبية لها حوالي 33 ألف متر مربع. أحيطت بخندق عميق ملء من فرع نهر بردى. عدد أبراجها 12برجا، وهذه الأبراج الشاهقة فيها عدة طبقات، كانت العليا منها تستخدم لسكن الجنود، والسفلى تستخدم كمخزن للتموين استعدادا لأوقات الحصار والحروب. يصل بين الأبراج جدران سميكة يطلق عليها اسم (البدنات) وتأخذ كل (بدنة) رقمي البرجين المجاورين لها. وخلف الأبراج والبدنات هناك ممر مسقوف، يطوف بجهات القلعة الأربع، يطلق عليه اسم (الممر الدفاعي). وكان لها أربعة أبواب، لكنها حالياً ثلاثة فقط. وكان هناك معمل خاص وأساسي لأسلحة الجيش داخل القلعة، بالإضافة لعدة معامل أخرى خارجها. وأبراج للحمام الزاجل الذي كان مدربا على نقل الرسائل، بالإضافة لوجود دار لصك النقود، سجن وحمام ومدارس لتعليم الأطفال، وأيضا منازل للأعوان والعاملين في أركان الدولة حتى أصبحت وكأنها مدينة صغيرة. عهود وملوك استفاد من القلعة جميع الملوك الذين مروا على دمشق، ومنهم: نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي لأنها أصبحت قلعة صمود ودفاع عن مدينة دمشق بشكل عام، وكذلك تصدت القلعة وحمت دمشق من تهديد الصليبيين في عام 1148 ميلادي، وقد لعبت دورا هاماً في الدفاع عن المدينة عند هجوم التتر عام 1259 للميلاد. في العصر المملوكي أصبحت القلعة كذلك مقرا لنواب السلطنة، إذ أصبحت القاهرة هي العاصمة، وكان ملوك المماليك يقيمون فيها عند قدومهم إلى دمشق، وقد عني الملك (الظاهر بيبرس) بترميمها، وبعد وفاته أصبحت مقرا (للإنكشارية) و(الدالية) ثم أصبحت المقر الوحيد للحامية العسكرية. لكن القلعة تحولت إلى سجن في فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، ونتيجة هذا التحول تم بناء أبنية إضافية باستخدام مواد دخيلة على نسيج بناء القلعة الأساسي كالخرسانة ووحدات البلوك المصنع. وبسبب مرور قلعة دمشق بعوامل مختلفة سواءً كانت طبيعية كالزلازل أو بشرية عسكرية كهجوم خارجي معاد عليها تعرضت لعوامل هدم كثيرة... لقد تفاخر التاريخ بها عندما كتب عنها بين سطوره لكنها بحكم الزمن ترجلت عن جوادها، ويحاول الدمشقيون المخلصون أن يعيدوا لها وجهها الأصيل كمعلم من معالم دمشق وكرمز لعزتها، وهي تحكي قصة أولئك الرجال الذين عملوا من أجل وحدة هذه الأمة وخيرها واستقلالها. ........................................................... هامش: المعلومات الواردة في النص من كتاب: معجم البلدان لياقوت الحموي، وكتاب قلعة دمشق لهزار عمران- وجورج دبورة، ومطويات عن قلعة دمشق من مطبوعات ميرية الآثار والمتاحف في دمشق 2010. أبواب سرّيّة تتميز قلعة دمشق بمداخلها العديدة، فلها أربعة أبواب رئيسة هي: (الباب الحديث) فتح في عهد حديث في جهة الشمال وكان أمامه جسر. و(الباب الشرقي): وهو المدخل الرئيسي من الشرق. بابان سرّيان كانا على جسور متحركة؛ لأن القلعة كانت محاطة بخندق مملوء بالماء؛ عرضه يتراوح بين 15 إلى 20 متراً في بعض المناطق وبعمق يتراوح بين 5 إلى 10 أمتار في مناطق أخرى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©