الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

د. فاطمة الصايغ: الإمارات ليست نتاج طفرة..

د. فاطمة الصايغ: الإمارات ليست نتاج طفرة..
13 أكتوبر 2010 20:53
أقلام نسائية إماراتية (16) تحتل الكتابة النسوية مكانة استثنائية في المشهد الثقافي الإماراتي. فهي غنية بأقلامها واسمائها. مبادرة في موضوعاتها. غزيرة في انتاجها. متنوعة في إبداعاتها ما بين الشعر والقصة والرواية والريشة. هنا إطلالات على “نصف” المشهد الثقافي الإماراتي، لا تدعي الدقة والكمال، ولكنها ضرورية كمدخل للاسترجاع والقراءة المتجددة. الحديث عن المؤرخة والباحثة الإماراتية الدكتورة فاطمة الصايغ حديث طويل وشائك، لأنها تجمع في تفاصيل حياتها ومسيرتها الكتابية العديد من العناصر، ففضلا عن أنها متخصصة في الكتابة عن تاريخ المنطقة، فإنها واحدة من الشخصيات الإماراتية الرائدة والمتميزة في خدمة المجتمع وقطاع التعليم العالي والبحث في القضايا الوطنية والتاريخية والتراثية التي تسهم في إلقاء الأنوار الكاشفة على الكثير مما له علاقة في خدمة الوطن وأصالته وحضارته وعراقته عبر فترات متعاقبة، كما أنها أكاديمية عريقة فمنذ أن حطت رحالها في فضاء التدريس الجامعي فإنها تعتز بكونها أول امرأة إماراتية تولت رئاسة قسم التاريخ والآثار في جامعة الإمارات العربية المتحدة بمدينة العين، وما تزال تغذ الخطى نحو المزيد من العطاء والإنجاز في مجالات البحث العلمي والدراسات وتأليف الكتب ونشر البحوث والمقالات عبر وسائل إعلامية مختلفة، لكن على الدوام فقلمها يحتضن (الوطن)، ولها نافذة مشرعة تطل منها على قضاياه الحساسة التي استأثرت بعناية خاصة منها، وهي تدافع عنها بجرأة وحماسة عاليتين، وبخاصة تلك القصص والوقائع المغرضة التي بثها عدد من المستشرقين والرحالة حول قبائل المنطقة والأحداث السياسية وفندتها ضمن دراساتها وكتبها العديدة في إطار إشكالية البحث في التاريخ، كما ترفض بصراحة شديدة تقييد حرية المرأة واستغلالها على حساب الهوية والدين وأية مسميات أخرى. لكن أجمل ما في كتابات الصايغ أنها تعبير خالص عن (الوطنية) وغير مغللة بوجهة نظر رسمية، وتأسيسا على ذلك تسجل الصايغ على أنها أول امرأة مواطنة تدير مثل هذا القسم الذي يكتظ بالرجال من مؤرخين وأساتذة وباحثين وذوي اختصاص، وفي حوار خاص معها حول ذلك تقول: “دعنا نعترف بأن المجتمع الشرقي بعاداته وتراكمات التقاليد والمتعارف عليه منذ سنين طويلة، ما زالت تسيطر عليه فكرة الرفض للمرأة القيادية أو المسئولة خصوصا إذا كانت طبيعة مسئوليتها تحتم عليها ضرورة التعامل الإداري من مرؤوسين من الرجال، فما بالك إذا كانوا يحملون أعلى الشهادات والمؤهلات العلمية. لكن كون إدارة الجامعة وضعتني في هذا الموقع المهم، فان ذلك يؤكد بلا شك أن علاقتي مميزة مع الآخرين، كما يؤكد الاعتراف بدوري كامرأة قادرة على تحمل أعباء مثل هذا المنصب. وأحمد الله أن علاقتي فعليا ناجحة ومتميزة مع الجميع، وهذا في تقديري كاف لخلق مناخات تنعكس ايجابيا على الأداء والعملية التدريسية وخدمة طلبة الجامعة وتحصيلهم العلمي وحياتهم الجامعية بشكل عام، ولعل ذلك هو الجزء الأهم في شخصيتي كمتعلمة تجتهد في خدمة مجتمعها ووطنها. صحيح أن النظرة الاجتماعية ومع التطور الاجتماعي الكبير الذي تشهده الإمارات حاليا قد تغيرت بعض الشيء نحو المرأة المسؤولة، حيث أصبحت تحتل مواقع مختلفة في المجلس الوطني مثلا، كما أصبحت وزيرة وسفيرة في الخارج، وتعمل في مواقع حيوية وإستراتيجية، ولكن يظل ذلك بحاجة إلى مجهود المرأة لتعميق النظرة الاجتماعية إلى عملها وإنجازاتها في مختلف المجالات، والى أهدافها وكينونتها كامرأة منتجة وعاملة وإنسانة متكاملة في ذات الوقت”. لغة الرصد ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أسلوب الصايغ في الكتابة في حقول عدة وبخاصة في مجال التاريخ يستفيد من أنواع النصوص جميعها، أدبية كانت أو غير أدبية، ولهذا يستطيع أي قارئ التواصل مع إنتاجها الكتابي بسهولة ويسر، فلغة الرصد ممتعة، والمعلومة دقيقة، وفضاء البحث واضح لا لبس فيه سواء على مستوى البحث أو على مستوى التحليل والمقارنة، وهي بذلك تذكرنا بكتابات المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو 1926 ـ 1984) والتي أحدثت ثورة في حقل دراسات الخطاب والوقائع، وطورت مفهوم تاريخ أنظمة الفكر في الدراسات المعاصرة. ومن ذلك نستطيع القول إن الدكتورة فاطمة الصايغ عبر أكثر من كتاب ودراسة ومقالة وورقة عمل بحثية، نجحت في إحداث تأثير كبير في حقل الدراسات المتعلقة بتاريخ المنطقة بوجه عام والإمارات بوجه خاص، إلى تحقيق جانب من السرد والتوثيق، وجانب آخر من التحليل والاستقصاء والبحث وإظهار النتائج وتحديد الأفكار ضمن منهجية تقوم على رصد التاريخ ومناقشته من خلال تتبع النظرة الاستشراقية للمنطقة، وتفنيد المزاعم اللاحيادية، ومن ثم رغبتها الشديدة في أن تكون وسيطا بين الماضي والحاضر من أجل مستقبل، فيه كل السيادة والعدالة الاجتماعية.. إنها تدعو في كل المحافل الثقافية والاجتماعية إلى الاستفادة القصوى من التراث وأحداث التاريخ في مناقشة وصياغة الحاضر لخدمة أجيال المستقبل، وإيجاد النموذج البطولي الحقيقي والمشرف، ليكون نبراسا لهذا الجيل في مواجهته لتحديات العصر. ومن يقرأ كتب الصايغ، يستطيع أن يلمس (التوثيق والسرد) وكيف يتحولان إلى صور نابضة بالحياة، وكأن قلمها له المقدرة على التحول إلى فريق تلفزيوني مجهز بأحدث الآلات لتقديم وتصوير الوقائع والمدن والأحداث والشخصيات، لتجتمع كلها في سيناريو بديع لا ينشد في النهاية إلا إظهار الحقيقة للناس والرأي العام، لأن الصايغ في الواقع تجيد (النبش) في الحكايات والوقائع بطريقة علمية موضوعية، تشي على الدوام بذلك التحيز الفطري للوطن بكل جمالياته وظروفه ورجاله ضمن تلك الخطوط السردية التي تختبئ وراء كتابة إعلامية تارة، وكتابة منهجية تارة أخرى، وكتابة غير متحررة من نون النسوة.. كتابة تسعى على الدوام لتحقيق مبدأ (التوازن الاجتماعي) الذي يقرب الناس من الثقافة السياسية والإنسانية، وبذلك يصبح هو أساس تقدم أي أمة على هذه الأرض. وأكدت الصايغ غير مرة على ضرورة (توظيف التاريخ) في الحياة العامة، وغير ذلك يصبح تدريسه تلقينا لا جدوى منه. توعية تاريخية الدكتور فاطمة الصايغ المولودة في إمارة دبي تحمل درجة الدكتوراه من جامعة ايسكس في المملكة المتحدة عام 89 م، وكان عنوان أطروحتها “الخط الجوي البريطاني وتأثيره على صنع القرار البريطاني تجاه مشيخات الساحل 1929 ـ 1952”، نجحت في إنجاز ونشر أكثر من عشرين بحثا متخصصا من أهمها: “الوكيل الوطني ودوره في صنع القرار البريطاني في منطقة الساحل المتصالح”، ونشر البحث في مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية الصادرة في الكويت العام 1993. وبحث آخر بعنوان “التبشير في منطقة الإمارات ـ الخدمة الطبية كوسيلة للتبشير 1900 ـ 1949م”، ونشر في المجلة العربية للعلوم الإنسانية الصادرة في الكويت العام 1995م. بالإضافة إلى بحث بعنوان “المرأة في الإمارات ـ دراسة تاريخية لتطور المرأة في القرن العشرين”، إلى جانب جملة من البحوث من بينها: “النظام القضائي البريطاني في الإمارات”، “تطور البنية التحتية في دبي”، و”التنصير وأثره على التراث الشعبي في الإمارات” وغيرها من الدراسات الجادة التي تشهد لها بالتفرد على مستوى الجرأة في التناول والمنهجية وأدوات الكتابة والبحث والتأريخ للمنطقة. في مسيرة الصايغ أيضا إنها حائزة على جائزة الشيخ راشد للتفوق العلمي، ثم جائزة الإمارات التقديرية (فرع الدراسات التاريخية) عام 2009. في نظرتها لقراءة وكتابة التاريخ لها رأي خاص وجريء في ذات الوقت إذ أنها ترفض الاتجاه الذي يساند فكرة إسناد كتابة تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة لمتخصصين ومؤرخين أجانب وتقول في ذلك: “...على الرغم من أن عددا منهم قد يتصف بالدقة، لكن الوصول إلى الحيادية المطلوبة دون تحيز أو بحثا عن مصالح معينة، أمر ليس من السهل تحقيقه، كما أن كتابة التاريخ لا تقتصر على تدوين وقائع وأحداث فقط، لكنها يجب أيضا أن تلمس هاجس ووجدان المجتمع، وهو ما لا يستطيع المؤرخ الأجنبي تحقيقه بأي صورة من الصور”. كما أنها تطالب بالمزيد من الاهتمام بمناهج التاريخ التي تدرس في مدارس الدولة، محذرة من التهاون في هذا الأمر، ما يؤدي إلى خلق (المواطن المتعولم) كما تحذر من خطورة ما يجري الآن في جامعات الدولة من تدريس التاريخ باللغة الانجليزية، ما يحول تركيز الأساتذة والطلبة إلى شرح المصطلح اللغوي، وليس القيم والمعلومة التاريخية، وبالتالي خلق جيل مقطوع عن تاريخه ومسطح فكريا، كما دعت من خلال بعض كتاباتها إلى وضع خطط ومشاريع لصيانة المباني التاريخية والمحافظة عليها، فهي تمثل بما تمتلكه من طرز معمارية وهندسية ومفردات جزءا مهما من ذاكرة الأمة وتاريخها عبر حقب مختلفة، كما دعت إلى ضرورة توثيق تطورات الظواهر الاجتماعية التي تصاحب التطور في حياة أبناء الإمارات ضمن انتقالهم من مرحلة البساطة إلى مرحلة الاستهلاك. بنت الأستاذ إلى جانب كتاباتها في الصحافة المحلية حول تراث وتاريخ الإمارات والمنطقة وقضايا إنسانية متعددة.. تتشعب نشاطات الصايغ من خلال عضويتها في العديد من الهيئات والجمعيات من بينها: اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة وجمعية دراسات الخليج في الولايات المتحدة وجمعية دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة وجمعية أصدقاء الدراسات العربية في جامعة جورج تاون الأميركية، وأخيرا عضو مؤسس في جمعية الدراسات التاريخية لدول مجلس التعاون الخليجي بالكويت. كما أنها تعرف في الأوساط الجامعية والثقافية على أنها مشاركة جيدة في معظم الملتقيات والمواسم الثقافية على المستوى الإقليمي والمحلي فقد شاركت في الموسم السابع لندوة الثقافة والعلوم في دبي بمحاضرة قيمة بعنوان “المرأة في دولة الإمارات ـ الواقع والتطور” ولها عدة محاولات في كتابة الشعر والقصة القصيرة. كل هذا الزخم والتنوع في مجالات الكتابة، جاء من تحت عباءة بيئة لها علاقة وطيدة بالإبداع والعلم والقراءة ولغة الحوار، وفي ذلك تقول: “كان والدي يعمل في سلك التعليم، فهو الذي أسس أول مدرسة نظامية في دبي عرفت بالمدرسة الأهلية، وكان ذلك عام 1945، وكان من طلابها كل من جمعة الماجد والفطيم، وعدد من رجال الأعمال المعروفين في دبي. ترعرعت في بيت علم وثقافة، وشببت في أجواء مليئة بالمثقفين والدارسين في وقت لم يكن الاهتمام بالثقافة شيئا مهما بالنسبة للناس، كونهم كانوا يرزحون تحت وطأة الصراع مع متطلبات الحياة التي كانت تتجاوز الاهتمام بإدخال أولادهم للمدارس، لذلك كان طلاب والدي من كبار السن، فمثلا جمعة الماجد عندما دخل إلى المدرسة لم يكن طفلا صغيرا، إنما كان في العشرينيات من عمره، وكلما التقي به، يذكرني دائما بأنه كان طالبا عند والدي، وهناك الكثيرون من رجال الأعمال يطلقون عليَ لقب “بنت الأستاذ”.. لقد كان والدي يشكل بالنسبة لي رمزا ومنهجا لمستقبلي وحياتي”. لكن هاجسها الطاغي على الدوام هو الهوية الوطنية والمحافظة على خصوصيتها وثوابتها، كذلك البحث المستمر في المحافظة على هوية الشخصية الإماراتية، ولهذا وجدناها ناشطة في الحديث عن هذه القضية في مشاركات داخلية وخارجية، إذ أنها شاركت بأوراق عمل بحثية ودراسات في أكثر من 30 مؤتمرا عمليا وعالميا، وفي أكثرمن 60 ندوة محلية وعربية، بالإضافة إلى العديد من الملتقيات والمنتديات المعنية بتراث وتاريخ وهوية المنطقة. حيث نعلم أنه ومنذ الكشوفات الأولى في أم النار عام 1959 برهنت الفرق المحلية والأجنبية التي تنقب عن الآثار أن دولة الإمارات العربية المتحدة كانت ذات أهمية بالغة فيما يتعلق بتطور التجارة البحرية على طول المحيط الهندي، كما أنها نقطة التقاء أساسية في خطوط التجارة التي تربط الشرق بالغرب. الدفاع عن المرأة تبنت الدكتورة الصايغ في كتاباتها قضية الدفاع عن المرأة، والإشارة إلى الخطوط العريضة التي تبرز مسيرتها ومكانتها الرفيعة التي تحققت بفضل المناخ الديمقراطي الذي تحقق للوطن والمواطن، والمرأة جزء مهم من هذا الواقع. أما المظلة التي كتبت من تحتها موضوعاتها فهي مظلة العدالة والشورى والصراحة، وهي قيم نابعة من جوهر الإسلام نفسه، وبهذا لا تكون الديمقراطية استيراد مبدأ من الدول الغربية التي تتيه فخرا بتطبيقاتها الديمقراطية، بل هي تجربة أصيلة نابعة من التراث الإسلامي العريق والتقاليد والأخلاق العربية. في هذا الإطار وفي حوار خاص معها حول عمل المرأة، وصراعها مع الرجل قالت: “بداية القضية ليست قضية امرأة ورجل.. وأتمنى أن تنتهي المعركة المزيفة بينهما والتي هي من صنع إعلامي يهدف إلى خلق نزاع وهمي يزيد من هوة الصراع الوهمي بين المرأة والرجل وهما أصل الكون ومن المفروض أن يعملا معا على النهوض بالحياة والمجامع.. وفي تقديري أن المسألة تتعلق بالعمل والإنتاج والإسهام الفعلي في بناء حركة التطور الاجتماعي. وأرى أن المرأة الإماراتية وبفضل الجهود الرسمية محظوظة لأنها حصلت على حق التعليم وحق العمل في آن واحد.. وما كان هذا ليتحقق بصورته المثالية لولا جهود وعناية ورعاية صاحب السمو رئيس الدولة “حفظه الله” الذي يكرس جهوده من أجل حياة كريمة للمرأة مع ربطها بتراث بلدها من خلال عشرات المؤسسات والجمعيات التي أخذت على عاتقها النهوض بالمرأة وخاصة جمعية نهضة المرأة الظبيانية وما يتفرع عنها من جمعيات الاتحاد النسائي في كافة أنحاء الدولة.. وما تقدمه من نشاطات ومشاريع وبرامج لترجمة الجهود الرسمية إلى عناوين لافتة.. حيث باتت النماذج النسائية اليوم قادرة على تحمل الأعباء الاقتصادية للأسرة فكثير من البيوت تعولها نساء أسهمن بعملهن على مواجهة المتغيرات والتحولات الاقتصادية الطارئة”. وتقول الدكتورة الصايغ في معرض ردها على سؤال وجهته لها حول الدور الفعلي للفتاة الإماراتية في حركة البناء الاجتماعي الذي يواجه أنماط الحياة المستوردة: “استطيع القول أنها قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال. فمحافظتها على كيانها وشخصيتها الخليجية ومخزونها التراثي من العادات والتقاليد والقيم الأصيلة وغيرها أكد على أن “الحداثة” لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها تراث الماضي بكل عراقته وإنسانيته، ويتزامن مع ذلك محاولاتها نقل هذا المخزون إلى أبناء الجيل الجديد في مختلف مناحي الحياة وهي مهمة ريادية إذا ما قيست بأثر الغزو الفكري والتحديات الخارجية”، وبذلك تكون الصايغ قد ساهمت في مشروع تمكين المرأة صوب فعل حقيقي تلعب في إطاره دورا سياسيا واجتماعيا في المجتمعات الخليجية والعربية. تاريخ الإمارات منذ أن بدأت الكتابة وجدت الصايغ أن البحث في موضوعات بيئية مجتمعية هي أفضل أنواع الكتابة، ففيها يستطيع الباحث أن يكتشف خصائصه المجتمعية بأسلوب علمي، وأن يطلع على طائفة كبرى من الباحثين والدارسين الذين سيطلعون على هذا البحث أو ذاك. من هنا اختارت مجتمع الخليج العربي عموما، ومجتمع الإمارات خصوصا مادة لبحثها، ترصد من خلالها التطور الذي أحرزه هذا المجتمع على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ووقفت تحديدا عند التحول الكبير في النظام الذي يحكم هذا المجتمع من طريقة إلى أخرى، حيث ترسَخ نظام الدولة، وسيطر النظام المؤسساتي المبرمج مكان النظم التي كانت سائدة في هذا المجتمع. انسجاما مع ذلك جاء في مقدمة كتابها “دولة الإمارات العربية المتحدة من القبيلة إلى الدولة”، ونقتطف: “إننا في دولة الإمارات العربية المتحدة نمر اليوم بمرحلة انصراف شامل إلى التنمية الاقتصادية والتجهيز العلمي الحديث، وندعو الجيل الجديد إلى تعلم الدراسات العلمية وامتهان الصناعات الإنتاجية. غير أن الصدى المحبب الذي نلقاه في صدورنا لاستثارة الماضي الذي يبين كيف عاش أسلافنا دفع الدولة إلى الاهتمام بالدراسات التاريخية وتأسيس مراكز أبحاث ودراسات لها أهميتها. ذلك لأننا في نهضتنا الحالية نفكر في الماضي، ولكننا نعمل بروح الحاضر، وعليه فان دراستنا لتاريخ شعبنا يجب أن تنبع من اعتقادنا الراسخ بأن أيام الأزمات التي مرت علينا كانت أيام عزم وتصميم صنعت تاريخنا. ونحن كمؤرخين نعتقد أن هناك فرقا واضحا بيننا وبين مؤرخي بعض الشعوب التي سطت على شعورهم صورة عهد ذهبي ماض، واعتبروا أن كل ما جاء بعده عهد تدهور وانحطاط، فنحن نعتقد أن عهدا من عصبيات قبلية وتشرذم وتفرقة قد انطوى، ونحن نبدأ الآن عهدا جديدا يتعلم درسا من العهد القديم، لان التاريخ سيحكم علينا كيف نجابه اليوم المشكلات التي تعترضنا، وما لم نربط الماضي بالحاضر فلن نستطيع أن نفهم ذاتنا ونؤكد وحدتنا وحركتنا نحو المستقبل”. لقد نجحت الصايغ ومن خلال منهجية البحث العلمي ما بين التوثيق والدراسة والتحليل من التأكيد على أن دولة الإمارات هي من الدول التي استقطبت العالم في أواخر القرن العشرين لأهميتها الاقتصادية والجغرافية، ولأنها دولة حديثة حققت في حقبة صغيرة من الزمن ما عجزت عن تحقيقه دول عريقة وكبيرة. وفي كتابها هذا سردت عبر عشرة فصول تاريخ الإمارات مذ كانت تلك المنطقة قبائل متفرقة، مواردها الرئيسية من صيد اللؤلؤ، وحتى العصر الحاضر، حيث أصبحت دولة عصرية لها دستورها وأنظمتها وقوانينها، ومواردها المتنوعة التي تعتمد بشكل رئيس على النفط ومشتقاته، وتلعب دورا مهما في المنظومة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي. وقد خصصت الصايغ مساحة طيبة في كتابها لمسألة الأوضاع الاقتصادية في منطقة الإمارات قبل ظهور النفط. ونقتطف بعض ما جاء في صفحتي 25 و 26 من الكتاب: “كان لمنطقة الإمارات دور متميز خلال مراحل تطور الحضارة الإنسانية فيها، فهي منذ العصور القديمة كانت ممرا بحريا تجاريا رئيسيا لكونها تقع على الخليج العربي، فهو أحد الطرق الرئيسية للمواصلات في العالم القديم الذي يربط بين الشرق والغرب يشاركه في ذلك طريق البحر الأحمر، وهما بموقعهما الجغرافي يشكلان الذراعين العربيين للذين يربطان أوروبا بالهند. وظلت منطقة الإمارات تتمتع بأهمية طيلة فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وارتبطت أوضاعها السياسية إلى حد كبير بالأوضاع العامة في بقية مناطق الخليج العربي باعتباره ـ أي الخليج العربي ـ الطريق الذي عبرت منه منتجات الهند والصين إلى الأسواق في فارس والشام وبالعكس، ومنه أيضا عبر السلع الواردة من الجزيرة العربية إلى الهند والشرق الأقصى، فازدهرت على ضفافه الكثير من المدن التجارية مثل: جلفار والبحرين ولنجة وسيراف وقيس وهرمز. غير أن هذه المدن تعرضت للمحن والاضطرابات وقلَت أهميتها تحت ضغوط الأحداث السياسية التي توالت على المنطقة، فهبطت تجارتها منذ اكتشاف البرتغاليين للطريق البحري إلى الهند في نهاية القرن الخامس عشر، إذ تحولت معظم الطرق التجارية البحرية الرئيسية التي تربط آسيا بأوروبا إلى طريق رأس الرجاء الصالح”. وهنا علينا أن لا ننسى أن الذي يكتب في التاريخ هو (راوية) من طراز خاص، أنه يسعى من خلال طريقة الأدب الوصفي إلى توضيح الحقائق، وربما يستند في أسلوبه إلى طريقة أدب الرحلات، وأدب السيرة الذاتية للشخصيات. وقد مزجت الصايغ الكثير من هذه العناصر والأساليب لتخرج لنا في النهاية بطريقة جديدة، لا تأبه كثيرا لمفهوم ثقافة الخوف والتأثير السلبي الذي تتركه (الرقابة) على المؤرخ والباحث وهو يستعرض التاريخ، أو يستعرض الواقع، لأنها في النهاية تريد إظهار الحقيقة بالمنطق، ولا تريد إدخال الفيل من (خرم الإبرة)، كما يبحث بعض من يكتبون عن تاريخ الأمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©