السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرسطو لم يعدّ أسنان زوجتيه

أرسطو لم يعدّ أسنان زوجتيه
12 يوليو 2012
يعتبر القرن العشرين زمن الاختراعات والابتكارات التقنية والاكتشافات الطبية وكذلك الفلكية.. ففيه اخترعت الطائرة، والتلفزيون، وتم إجراء عمليات جراحية باستخدام الليزر لأول مرة، وأيضاً تم اكتشاف أشعة إكس.. أيضاً تم اختراع المحرك الداخلي للسيارات، وإجراء أول مكالمة هاتفية عبر القارات.. وقد بدا الاهتمام بعلم الوراثة والجينات جلياً في هذا القرن، حيث تم اكتشاف الخريطة الجنية، وفهم العالم لغز الوراثة الذي يتمثل في الحمض النووي.. وفي مجال الفلك، تم اكتشاف مئة مليار مجرة بعد أن كانت البشرية تعتقد بوجود مجرة واحدة وهي درب التبانة.. وقد حصلت عدة اكتشافات ودراسات في مجال الطاقة النووية، بدأت باكتشاف النشاط الإشعاعي للذرة وانتهت ببناء المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء.. العلم والعمل وقد ساعد هذا التطور العلمي والتقني على تطور الإنسانية، بل إن الحضارة التي نعيشها اليوم هي امتداد لتلك التي كانت عليه في القرن العشرين.. رغم ذلك، فكثير من الكوارث والحروب الدامية حدثت خلال هذه الفترة. بل إن التطور التقني ساعد على جعل هذه الحروب مدمرة أكثر.. فقد أعلنت إيطاليا الحرب ضد ليبيا واستخدمت الطائرات لقصف المدن لأول مرة، واشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى، وتم فيها استخدام تقنية جديدة، وهي الدبابات من قبل بريطانيا. ولم تكتف بريطانيا بالدبابات، بل اخترعت جهازاً لإطلاق القنابل في أعماق البحر لتفجير الغواصات الألمانية التي كانت تهدد سفنها. وتم تطوير واختراع كثير من الأجهزة والتقنيات العسكرية، فقد ظهرت البازوكا للعيان خلال هذا القرن، وتم تطوير صناعة الرشاشات والدبابات، واخترعت آلات عملاقة لإطلاق الصواريخ، لكن الكوارث تظهر عندما نتحدث عن الطاقة النووية التي أسيء استخدامها فعلاً، ففي عام 1986 انفجر مفاعل نووي في منطقة تشرنوبيل نجم عنه مخاطر عديدة بسبب انتشار الإاشعاعات النووية التي قتلت 8000 شخص، حسب ما صرحت به أوكرانيا. وتسربت الإشعاعات إلى مياه الأنهار والمياه الجوفية، مسببة الإصابة بكثير من الأمراض كالسرطان وحصول التشوهات والإعاقات.. وتكبد ما كان يعرف في ذلك الوقت بالاتحاد السوفييتي خسائر مادية تصل إلى 3 مليارات دولار. وفي الحديث عن الطاقة النووية، لا أحد منا ينسى خلال الحرب العالمية الثانية القنبلة النووية التي حولت هيروشيما إلى مدينة أشباح، وبعدها بثلاثة أيام من إلقائها تم تفجير ناجازاكي بواسطة قنبلة أخرى تسببتا بوفاة 120.000 شخص فور حدوث الانفجار.. وبعد عدة سنين عدد هائل من الأشخاص ماتوا بسبب تأثير الإشعاعات.. ومن هنا، يظهر لي أن التقنية قد تطور الحضارات والمجتمعات، لكنها لا تفعل شيئاً بضمير الإنسان ولا تتحكم بمدى إنسانيته. فالإنسان، كما يظهر، لم يتخلص من تطلعاته لما في يد أخيه الإنسان، وإن كانت البشرية قد ودعت العصر الحجري وما تبعه من غزوات وحروب من أجل الطعام ومزيد من المكتسبات الحياتية، فيظهر أنه بعد آلاف السنوات لايزال الإنسان نفسه يملك تطلعات عدائية لم تخفف من ثورتها ونزقها لا التقنية ولا القانون الدولي ولا ما ورثه الإنسان من قيم ومبادئ. يقول مثل صيني: “من يضحي بضميره من أجل أحلامه كمن يحرق صورة جميلة من أجل الرماد”، وهذه حقيقة فبدون الضمير لا معنى للإنجاز الإنساني على مر العصور، وبما أن الأسلحة قتلت وأزهقت وسفكت دماء وسببت جراحاً لا تلتئم للإنسانية، فلا معنى للجهود المضنية التي بذلها المخترعون من أجل اختراعها. المؤلم في الموضوع هو أن الأفكار العنصرية والأفعال القاسية والتي لا تنم عن أي تصرف إنساني باتت تتسلل إلينا وتعيث في عقولنا فساداً، فنحن ننصت لآراء المشاهير أياً كانت حتى السلبية والعنصرية منها، ونعتقد بصحة كلامهم 100% دون تحكيم ضميرنا وجانبنا الإنساني.. وكأن الأقوال التي يتفوهون بها محكم منزل! بل قد نصل لمرحلة الاعتقاد بصحة أقوال بعض المشاهير سواء في العلوم أو الفنون أو حتى في الدين، وهذا الاعتقاد كان يقع فيه الناس بصفة عامة بناء على مستواهم المعرفي وما يتلقونه فيما يعرف بأحاديث المجالس أو من خلال ما يتم تناقله من القيل والقال، لكن اليوم وصلت الحال إلى الطبقات العلمية والممارسين والمتعمقين في أروقة الجامعات والمراكز والمعاهد العلمية. والأمر الأكثر خطورة، أن تلك الآراء غير الدقيقة تتسبب في انتشار مفاهيم خاطئة يتم البناء عليها وتعميمها، ثم إصدار مسلمات وأحكام نهائية لا تقبل النقاش والحوار، خاصة إذا كانت هذه الآراء من أسماء مشهورة بالعلم والمعرفة. واستحضر هنا مثال من التاريخ القديم للبعد عن حساسية الحاضر، حيث عرف أن أرسطو قال: إن عدد أسنان المرأة أقل من عدد أسنان الرجل (هو يعتبر أن في هذا تقليل من شأن المرأة)، وكما ذكر برتراند راسل في كتابه “أثر العلم في المجتمع”، أنه رغم أن أرسطو تزوج مرتين لم يكلف نفسه عناء النظر في فم أي من زوجتيه ليبرهن على صحة مقولته. مشكلة إصدار أحكام وآراء مطلقة دون محاولة التأكد من صحتها مرافق لذهنية الإنسان عبر تاريخ طويل في مسيرة الإنسانية، وإلا كيف نقرأ ونفهم تلك الحالة من الرفض التي تملكت المجتمع في تلك الحقبة عندما اكتشف غاليليو بالتلسكوب الذي اخترعه أن للمشتري أقمار، بل النخبة التي تعالى صراخها بالاستهجان ورفضهم حتى إلقاء نظرة من خلال التلسكوب والسبب أنهم كانوا مقتنعين تماما بعدم وجود هذه الأقمار وأن التلسكوب ليس سوى خداع للنظر. نماذج الحاضر في حاضرنا عشرات العشرات من النماذج على التسليم بأقوال غير صحيحة ومعتقدات خاطئة تماماً. أجد أنه من الضروري على الشباب والفتيات خاصة، وأفراد المجتمع عموماً، الانشغال بالتطوير المعرفي، إلى جانب إيقاظ الضمير والمشاعر الإنسانية والتسلح بالعلم، وأن تكون لنا عقول مستقلة تفكر بحرية وإنسانية وتبحث بانطلاق دون أي قيود، فنعرف الصحيح ونبتعد عن الخطأ ونحترم الغير وننشر السلام ونختبر ما يحتاج للتدقيق، وأن لا نرهن تفكيرنا بالآخرين مهما وضع حولهم من هالة وتفخيم وتقديس، أو مسحت عليهم آثار الإيمان والعلم والتدين. وكما قيل: ابحث عن المعرفة، فإن المعرفة لن تبحث عنك. بعض الناس تتحدث عن القيم الإنسانية كالاحترام ونشر الحب والمساواة ولكنهم لا يعرفون عن هذه الأمور سوى اسمها، فتجدهم متغطرسين متكبرين. ولن أذهب بعيداً، سأضرب مثلاً ببعض المؤلفين والأدباء، خاصة ممن حقق بعض النجاح أو وجدت أعماله شيئا من الانتشار والقبول بين الناس، هذه الحالة التي تجعله يعاني من فصام ـ إذا صح التعبير ـ عن واقعه اليومي الذي يعيشه، بل وعن مجتمعه الذي يتفاعل معه، أقول حالة غريبة؛ لأن الأديب الذي يتمتع بقدر لا بأس به من الثقافة يفترض أن يكون أبعد ما يكون عن الانزلاق في أتون التعالي على الآخرين وعن احتقار ورؤية الناس وكأنهم أقزام، ومما يؤلم أن البعض ـ وأشدد على كلمة (البعض) ـ وصل إلى مرحلة ينال من وطنه وينتقد دون موضوعية ودون إنصاف وحكمة، فبريق الكاميرات أخذ لاب عقله وطار بقلبه، فتخيل أنه منفرد على قمة يستحقها دون سواه. مرة أخرى أقول إنها حالة غريبة؛ لأن هذا المؤلف الذي كان يردد في مؤلفاته الحديث عن القيم الإنسانية ومساعدة الفقراء والبؤساء، ويدعو إلى الحق وتكافؤ الفرص والعدالة والمواساة ونبذ العصبية والعنصرية، وقائمة طويلة من المثل والمبادئ البراقة، جميعها تتحطم عند رؤيتك لكل هذا الكبر والغطرسة وتصاب بدهشة مع أول كلمات تسمعها منه عندما يوجهها بصلف وعجرفة وعدم مبالاة لمن يقف أمامه سواء كان أديباً في بداية طريقه أو رجلاً مسناً يطرح سؤالاً بعفوية. مع الأسف هذا الوضع لا يتوقف هنا، بل يمتد من علاقة الأديب بالقارئ مروراً إلى علاقته بزملاء الحرف وشركاء الهم من المؤلفين والأدباء الآخرين، فتلاحظ انعدام التواصل وفجوة كبيرة من الجفاء والتقاطع بينهم حتى تصل للمجتمع بأسره، فتصاب بحيرة: كيف وصل بغروره لدرجة تخيل أنه أعظم من هذا المجتمع الذي أنجبه وخرج من ثناياه؟ وكيف تعالى بنفسه حتى بات ينظر لمجتمعه هذه النظرة الدونية، ثم توجيهه سهام الغدر والقسوة ضد ناسه وأهله وأصدقائه. إنني أتحدث عن حالة عامة تعاني منها أوطان كثيرة وليست في مكان دون سواه، لقد أثبت هذا النوع من المؤلفين أنهم يملكون موهبة في الكتابة، لكنهم دون شك مفلسين من أي قيمة إنسانية، وفقراء جداً في فهم وظيفة الكتابة والتأليف وأنها أعظم من جعلها مظهر (برستيج) يكمل حلقة الغرور والنقص الذي يعانون منه، فلم يجدوا إلا رحاب الكلمة لسد فجوة النقص والمرض النفسي الذي يشكون منه.. الشيء الوحيد الذي كانوا صادقين فيه تماما أنهم لم يكتبوا إلا ما كان ينقصهم وما هم بحاجة ماسة له. أياً ما كان، فنحن متفقين على أننا بحاجة ماسة لضمير حي وقلب محب ولسان صادق.. ليكون المجتمع المتطور أكثر إنسانية وتعاضداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©