السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحب المفخخ

الحب المفخخ
12 يوليو 2012
تقيم رواية واسيني الأعرج “أصابع لوليتا” منذ العنوان الرئيس تناصها مع رواية “لوليتا” لنابكوف، الذي يتجاوز العنوان إلى شخصية بطلة الرواية نوّة أو مريم التي تتماهى مع شخصية بطلة نابكوف حتى يصعب على بطل الرواية الفصل بينهما، الأمر الذي يجعل هذه الرواية تستدعي مع تلك الشخصية أيضاً الفضاء العاطفي وسطوة الحضور الطاغي لملامح الجسد الأنثوي على بطل الرواية. إن هذا الاستدعاء المفاجئ الذي يمليه حضور الفتاة الآسر في لحظة من الزمن تقفز فوق الحالة الشعورية وتجعله أسيرا لحالة داهمة غير مفهومة يلعب فيها اللاشعور والخيال دوراً أساسياً في خلق تلك الحالة من التماهي يعبر عنها بصورة لاشعورية عندما يناديها بصوت علي، وهي تبتعد عنه باسم لوليتا كأنها أنثى الخيال التي تتجسد أمامه فجأة. إن هذا التداخل بين شخصية الخيال المرسومة بالكلمات وشخصية الواقع في هذه الرواية يشكل أحد مفاتيح قراءتها، ذلك أن بطل الرواية الذي يقع في عشق هذه الفتاة سيقوده هذا العشق إلى تحولات جديدة تفضي إلى تحولات وتبدلات في حياته، وفي تطور أحداث الرواية وحركة السرد وعلاقات الشخصيات ببعضها البعض داخل العالم السردي للرواية. يوحي عنوان الرواية للقارئ منذ البداية أن الرواي هي رواية حب مجنون يحدث فجأة بين بطل الرواية المهدد بالقتل من قبل عصابات الإرهاب المتشدد دينيا في بلاده وبين امرأة ساحرة الأنوثة، لكن القارئ سرعان ما يكتشف أن قصة هذا الحب المجنون والعاصف على الرغم من أنها تشكل المحور الأساس الذي تدور حوله أحداث الرواية، إلا أنها تتداخل مع أحداث وقضايا أخرى عديدة تتصل بحياة البطل وأقدار حياته واختياراته التي كان عليه أن يدفع ثمنها، بدءاً من الموقف من انقلاب منتصف الستينيات في الجزائر وحتى اندلاع موجة الإرهاب والعنف الدموي في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر. من رواية لأخرى تحاول الرواية التي تتميز بمحدودية شخصياتها الرئيسية (يونس مارينا، وإيفا، ولوليتا “نوّة”) أن تبني عالمها السردي والحكائي على لعبة الضمائر التي تسعى من خلالها أن توهم القارئ بإلغاء المسافة بين الخيال والواقع، من خلال التماهي الذي يحدث بين شخصية لوليتا وشخصية مريم أو نوّة التي يفاجأ يونس مارينا بطل الرواية بحضورها المباغت من أجل الحصول على روايته الأخيرة في معرض فرنكفورت، وكأن هناك شخصيتين يتحقق التطابق المذهل بينهما، واحدة تقفز من رواية وتقتحم عالمه بصورة خاطفة وعجيبة، ثم تختفي سريعاً، كما ظهرت لتعود إلى الظهور مرة أخرى محتلة المشهد السردي الحكائي، وواحدة أخرى تظل تنتحل اسمها وهي التي يعيش معها يونس تجربة عشقه، كما يتحدث عن ذلك إلى صديقته الثانية ايفا. إن تلك اللعبة تحاول إيهام المتلقي بأن هناك شخصيتين واحدة متخيلة، وأخرى من لحم ودم، في حين أنهما شخصيتان من حبر وورق، وبالتالي فإن محاولة إلغاء المسافة بينهما ما هي إلا لعبة سردية، أو لعبة إغواء يلعبها الكاتب مع شخصيات روايته ومع القارئ في آن معاً... لعبة على مستوى السرد تريد أن تقول ما الذي يمكن أن تفعله المفاجأة بنا عندما نجد أن الخيال قد تجسد في الواقع وأضحى حقيقة ماثلة أمامنا، في لحظة مباغتة تستولي على كياننا بصورة مذهلة. على جانب آخر، تتخذ تلك اللعبة عند بطلة الرواية الثانية بعداً مشابهاً يكمل الدور الأول الذي يلعبه يونس مارينا معها، إذ تستعير الاسم نفسه، وتحاول أن تلعب دور شخصية لوليتا معه لكي تستمر لعبة الإغواء، وبالتالي تلغي أي فاصل بين شخصية الحلم والخيال وشخصيتها، لكي تكون شخصية تقفز من رواية وتسكن رواية أخرى في عشق آخر. البدايات والخواتيم تلعب جملة الاستهلال أو خطاب البداية في السرد الروائي دوراً فعالاً في عملية التلقي، فهي بقدر ما تحيل على عالم الرواية فإنها تقوم بمهمة ضبط أفق التوقع أو الانتظار عند المتلقي، إلا أن السمة الغالبة التي تميز جملة الاستهلال هو علاقتها بنهاية أو خاتمة الرواية، وهذه العلاقة إما أن تكون متطابقة أو تأتي مخالفة لأفق التوقع. لذلك لا يمكن إدراك تلك العلاقة إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية. ينتمي خطاب المقدمة والنهاية في هذه الرواية إلى النوع الثاني الذي تكون فيه نهاية الرواية غير مطابقة لبدايتها ومخالفة لأفق التوقع بصورة مفارقة تولّد صدمة عند القارئ. يفتتح الروائي روايته بعلاقة بطل روايته برائحة العطر المألوف الذي يهب عليه فجأة دون أن يعرف مصدره: “استنشق يونس مارينا رائحة العطر الهارب طويلاً بعد أن أغمض عينيه، تمتم وهو يحاول أن يتفرس الوجوه التي كانت تذهب وتجيء في رتابة لا تنتهي (...) لست باتيست غرونوي ولكن هذا العطر ليس غريبا على حواسي؟. شعر بالدوار اللذيذ التفت يمينا وشمالا وراءه أمامه، ثم حاول جاهدا أن يركز بصره على الأمواج المتراصة من البشر يقرأ ملامح بعضها وروائحها. لم ير شيئاً” ص 14. لكنه فيما بعد تتقدم منه صاحبة العطر وتتعرف إليه خالقة تلك اللحظة المجنونة من التطابق بين النموذج لوليتا وشخصيتها الواقعية نوّة. وفي حين تمضي الرواية في هذا الخط السردي مستعيدة جوانب من تجربته في التخفي ومعارضة النظام بعد انقلاب 1956 في الجزائر والنهايات الغريبة للثورة ورموزها، وهروبه من البلاد وتحوله إلى كاتب مشهور، تأتي نهاية الرواية صادمة لأفق التوقع إذ نكتشف أن لوليتا/ نوّة قد كلفت من قبل الجماعات الإرهابية التي تطارده بقتله، وعندما تكتشف الشرطة الفرنسية أمرها وتقوم بمحاصرتها، تلجأ إلى تفجير نفسها. رواية من؟ تكتب لوليتا في نهاية الرواية ليونس مارينا: “سأغرقك بالقصاصات حتى تنصاع لي حباً وليس ضغطاً. ويوم أيأس منك سأترك لك ورقة بيضاء عليك أن تملأها بنفسك. ستكون أول صفحة من رواية حبيبتك لوليتا وأصابعها التي كسرت في وقت مبكر” ص 458. إن هذه اللعبة التي تلعبها لوليتا مع بطل الرواية تقود إلى سؤال مركزي عن صاحب هذه الرواية هل هو لوليتا كما تدعي... أم أن أقدار يونس مارينا هي التي كتبت هذه الرواية كما كتبت مصيره؟ إن الجواب عن هذا السؤال يقودنا مرة أخرى إلى اللعبة التي لعبتها لوليتا مع البطل، وظلت عبرها تقود مسار الأحداث وتوجهها حتى انكشفت حقيقة الدور الذي كانت تلعبه معه، فما كان منها إلا إنهاء الفصل الأخير من تلك الرواية. قبل ذلك تتحدث لوليتا عن العلاقة بين الكذب (الخيال) وبين الكتابة والتباس العلاقة بينهما، كما تتحدث عن حقيقة تلك الشخصية، والدور الملتبس الذي تلعبه داخل الرواية، وأثناء علاقتها مع بطل الرواية: بين فعلي كتب وكذب فرق في حرف واحد يندثر فيه معنى وينشأ آخر، بل قد يتداخلان. أحيانا الكتابة تصبح كذبة والكذبة تتحول إلى كتاب جميل. لوليتا أيضا ليست أكثر من كذبة جميلة في عمق كتاب: ص 178 ـ 179. يستنطق الكاتب بطلة روايته ويجعلها تقول ما يود أن يقوله عن تلك العلاقة الملتبسة بين الواقع والخيال، ودور كل منهما في إغناء الآخر وإكسابه سمات جديدة يتداخل فيها الحلم مع الواقع، والبحث عن القيم النبيلة والجمال مع الخيبات وعذابات الكائن الإنساني في واقع ما يزال يسعى للتخلص من الاستبداد والإرهاب والقمع على اختلاف مسمياته ودوافعه، ويبحث عن قيم الجمال والحب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©