الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرعب بمقاييس جمالية!

الرعب بمقاييس جمالية!
12 يوليو 2012
يصف علماء النفس تجربة “الخوف” بأنها أقدم وأعنف تجربة يمكن أن يجابهها الإنسان، خصوصا إذا كان مصدر هذا الخوف مجهولا أو يصعب تعيينه، ومن هنا فإن معظم الحكايات المرعبة التي تداولها أسلافنا البدائيون المتحلقون حول نار الشتاءات الطويلة والمعتمة قبل آلاف السنين، إنما استقت ديمومتها وحضورها وتواترها من الهالة السحرية الجاذبة والمحيطة بقصص الرعب ذاتها والمتمحورة حول الوحوش والأشباح والكائنات الضارية والغامضة التي تشكل نسيج وأصل وفضاء هذه الحكايات. وعندما انتقلت هذه الحكايات من صيغتها الشفاهية المتحولة والمرتحلة وسط الشعوب والثقافات القديمة إلى صيغتها الأخرى المدونة والمكتوبة على يد المؤرخين والباحثين والروائيين، استحوذت الرعشة الذهنية والحسية الماكرة والكامنة في قصص الرعب على مجال أوسع للرواج والانتشار بين عشاق هذا النوع من الأدب الغرائبي الملامس لتخوم الحلم والكابوس، والمشفوع بالكثير من الهيبة والتوجس والمشاعر المفرطة والمتصاعدة حد الذعر والهلع والفوبيا الخارجة عن السيطرة. السينما بدورها اعتمدت على هذا الميراث الهائل من قصص الأشباح والشياطين ومصاصي الدماء والأرواح الغاضبة والأطياف الشريرة والمستذئبين والمسكونين باللعنات، كي تؤسس لمذهب فني وبصري جديد اطلق عليه فن: “القشعريرة وارتفاع الأدرينالين”. وانقسم مريدو ومنتجو هذا الصنف من الأفلام إلى نوعين، نوع يحبذ المحتوى الرصين لأفلام الرعب والقائم على أطروحات علم النفس والفلسفة وعلم الماورائيات، ونوع آخر ينتصر للإثارة البصرية المحضة واللقطات المفرطة في دمويتها وشراستها والزائدة حتى عن حاجة القصة الأصلية ذاتها، وهو النوع الشائع حاليا في أفلام الرعب المعاصرة والتجارية التي تناولت قصص الكائنات والمخلوقات الفضائية أو تلك المشوهة والممسوخة المتمردة والخارجة من معامل ومختبرات العلماء المهووسين بتطوير الجينات لدرجة تتخطى المعايير الدينية والأخلاقية. مخيلة جامحة وفي مقابل هذا الهوس الخارجي والمتمرد والمنطلق من مختبرات العلماء المعتوهين في أفلام الرعب الحديثة، فإن أفلام الرعب الكلاسيكية التي ظهرت في بداية القرن الماضي مع السينما التعبيرية الصامتة في ألمانيا اعتمدت وبشكل يكاد يكون حصريا على الكائن القبيح والمتوحد والمنبوذ الذي يختزن مشاعر حساسة ونبيلة ولكن الآخرين يدفعونه قسرا إلى اليأس المطلق وبالتالي الانتقام منهم في موجة عارمة من الغضب والتشفي والتعويض الذاتي الجارف والأعمى. وتجسدت هذه النوازع التدميرية والانتقامية في شخصيات مرعبة شهيرة مثل وحش فرانكشتاين، والدكتور كاليغاري، ومصاص الدماء الكونت دراكيولا، والدكتور جيكل ومستر هايد، وشبح الأوبرا، والرجل الذئب، والدكتور مونرو في جزيرته المعزولة، والرجل الخفي، وهي شخصيات ظهرت بنمطها الروائي مع مؤلفين استثنائيين أمثال روبرت لويس ستيفنسون، وماري شيللي، وبرام ستوكر، وهيرمان ميلفيل، وأرثر كونان دويل، وغيرهم من المؤلفين الذين تأثروا بشعراء وكتاب أسسوا لتيار أدبي مختلف يعتمد على الرؤى المشوشة وجماليات الرعب والتحليل النفسي للشخصيات العصابية وإتباع منهج “الأوبتوغرافيا” في التحليل الجنائي، ومن هؤلاء غوته، وإدغار آلان بو، وتشارلز ديكنز، ووليم بليك الذين فتحوا أبواب الإدراك أمام متاهات اللاوعي والعقل الباطن واسترسلوا بمخيلاتهم الجامحة في العالم الغامض والمحفوف بالأسرار والعناصر الخارقة للطبيعة والمتجاوزة للعلوم المادية البديهية والقياسية. هذه الأفكار والرؤى المخيفة والغرائبية والمتبوعة بحس تحليلي وفني مستقل، وجدت في مخرج رائد مثل الفريد هيتشكوك نموذجا مثاليا وربما متفردا لسينما مرعبة ولكنها تنطوي على لغة رفيعة وأسلوب ساحر في التعاطي مع هاجس الخوف من جانبه الأكثر فتنة وإخلاصا للتعبير البصري المرهف والقارئ لتكوينات الصورة وإيحاءاتها وتأثيرها الجمالي، هذه الطاقة الإبداعية الاستثنائية لدى هيتشكوك أفصحت عن أفلام ما زالت تلقى حتى زمننا الراهن ذاك الصدى الطازج والفائر للصدمة والارتجاف والدهشة والتي باتت علامة راكزة في أفلام مثل: “النافذة الخلفية” و”سايكو” و”طيور” و”فيرتجو”، ومن المخرجين المميزين الآخرين والذين قدموا أفلام الرعب في قالب رصين ومتعدد القراءات والتأويلات نذكر ستانلي كوبريك في فيلمه “البريق” مع الممثل الرائع جاك نيكلسون، ورومان بولانسكي في فيلم “طفل روزماري”، وستيفن سبيلبرج في “المبارزة”، وديفيد فينشر في فيلم “سبعة” مع الممثلين مورجان فريمان وبراد بت، والمخرج نيل جوردان في فيلمه: “حوار مع مصاص دماء” مع براد بت أيضا بصحبة توم كروز. لعنة الفقدان هذا الاستهلال المكثف حول الأفلام المصنفة في خانة الرعب يستحقه فيلم شاهدناه مؤخرا في صالات السينما بعنوان “ذات الرداء الأسود” The Woman In Black للمخرج البريطاني الشاب جيمس واتكنز الذي سبق له التصدي إخراجيا لفيلم جميل وغير متكلف بعنوان “بحيرة عدن” في العام 2008، الفيلم الجديد لواتكنز أصاب عدة عصافير بحجر واحد حيث أعاد اكتشاف رواية المؤلفة سوزان هيل التي أصدرتها بذات العنوان في العام 1983 والتي عالجته سينمائيا كاتبة السيناريو جين جولدمان، كما أعاد الفيلم بث الروح في أستوديوهات “هامر” البريطانية العريقة والمتخصصة في إنتاج أفلام الرعب أثناء فترة الخمسينات وحتى نهاية السبعينات، وقدمت أفلاما شهيرة في هذا الحقل مثل “لعنة فرانكشتاين”، و”الجوع”، و”دراكيولا” مع الممثل الظاهرة كريستوفر لي. وكانت الشركة قد توقفت عن الإنتاج بعد انحسار إقبال المتفرجين على أفلام الرعب الكلاسيكية المفتقرة للمؤثرات البصرية والتي روجت لها وبقوة أفلام الإثارة الأميركية والتي لم تجد من ينافسها في هذا الحقل التقني المبهر، أما ثالث المكتسبات التي حققها فيلم “ذات الرداء الأسود” فتتمثل في خروج الممثل دانييل رادكليف من عباءة الدور الذي حرمه من التنويع وتجربة أدوار مغايرة عن الدور الذي ظل يتقمصه لسنوات طويلة ضمن سلسلة أفلام هاري بوتر، والذي ظهر جزأه السادس قبل عامين وحمل عنوان: “هاري بوتر ومقدسات الموت”. تقع أحداث فيلم: “ذات الرداء الأسود” في القرن التاسع عشر، وتتناول قصة الشاب الأرمل “آرثر كيبس” ـ يقوم بدوره دانييل رادكليف ـ والذي فقد زوجته أثناء ولادتها قبل أربع سنوات ويعمل كمحام مفوض في لندن وعلى وشك فقدان وظيفته، بعد أن أصبح محاصرا بالحزن والذاكرات المرهقة والمتعلقة بزوجته والتي يراها أحيانا وهي تتجسد أمام عينيه، ولكن من دون القدرة على التحاور معها وتجاوز الطبقة الكثيفة والمخادعة لأحلام اليقظة هذه، والتي يمكن لها أن تجرفه معها نحو الجنون أو الانتحار. يوافق كيبس على المهمة الأخيرة التي كلفته إياها شركة المحاماة التي يعمل لديها كي يخرج من هذه الدوامة النفسية المهلكة، وكي يضمن حياة آمنة ومستقرة لطفله الصغير ذي السنوات الأربع. تتمثل المهمة في السفر إلى منطقة ريفية تابعة لمدينة يوركشاير في شمال انجلترا حيث يتنازع الأوصياء على قصر كبير ومهجور تعود ملكيته لامرأة يشاع بأنها انتحرت حزنا على ابنها الذي رحل عنها مبكرا ولم يعثر أحد على جثته حتى الآن. وعندما يصل كيبس للمكان ينظر إليه أهالي المنطقة بريبة وشك خوفا من أن ينقل إليهم لعنة المرأة الشبح التي تسكن القصر والتي يطلقون عليها “ذات الرداء الأسود”، ويوصونه بالعودة سريعا إلى لندن قبل أن يتسبب بكارثة جديدة وغير محتملة في المنطقة. يرفض كيبس العودة ويصر على الذهاب إلى الساحل النائي والكئيب كي يعثر على مستندات الملكية الخاصة بالقصر، وكي ينهي القضية المتعلقة بالورثة، ويساعده في مهمته أحد وجهاء المنطقة والوحيد الذي لا يؤمن بالخرافات التي يروجها الأهالي حول نذر الشؤم التي تطارد كل من يشاهد شبح المرأة المنتحرة في القصر، والتي يقال إنها تستدرج الأطفال وتقودهم إلى الموت بأشكال متعددة انتقاما من أهالي المنطقة الذين تعتقد أنهم قتلوا ابنها. ألغاز عالقة تبدأ اللعبة الإخراجية المثيرة والموظفة جيدا في الفيلم مع دخول كيبس إلى القصر وحيدا، وتساهم زخارف المعمار القوطي المهيب للقصر والمناخات المعتمة للعصر الفيكتوري الذي تدور فيه أحداث الفيلم في إشاعة نوع من الرهبة الداخلية لدى المتفرج حتى قبل انكشافه الكامل على المفاجآت البصرية المربكة والمفزعة التي تطارد المحامي الشاب، والذي بات يملك مقاومة داخلية تجاه الظواهر الغيبية وتجاه الأطياف الغامضة والأشباح المجهولة خصوصا بعد اعتياده على مشاهدة شبح زوجته في السابق وفي أكثر من مناسبة، هذا الإصرار وهذا الصبر سوف يقودانه إلى اكتشاف سر الجثة المجهولة لطفل المرأة/ الشبح، وانتشاله أخيرا من المستنقع الذي غرق فيه قرب القصر، وتخليص المرأة بالتالي من عذاباتها وحيرتها ورغبتها الانتقامية التي حولتها إلى جسد هلامي ممزق ومشتت بين برزخ الحياة وممر الموت. يتحدث فيلم “ذات الرداء الأسود”عن ظاهرة مرعبة وقصة غامضة تحتاج للتماهي والاسترسال في تفاصيلها ومسبباتها وشرورها، لذلك لم يستهلك المخرج أدواته الفنية في تحليل الشخصيات أو تتبع العقد النفسية الكامنة فيها، فكان معنيا أساسا بكشف الغطاء الثقيل والغلالة الكثيفة المحيطة بالحكاية نفسها، وما يقبع خلف عالمها الضبابي من صور وأخيلة وأطياف مترنحة بين الجمال المطلق والشر الفائض. وهو فيلم لا يقدم إبهارا رخيصا ولا يجاري أفلام الرعب المعاصرة، ولكنه يستعيد إرث البدايات الذهبية في أفلام الرعب الكلاسيكية على صعيد البناء الخارجي وعلى صعيد المحتوي الروائي المكثف حول كائنات مخيفة ولكنها محاصرة ومعذبة في ملكوت الصمت والظلمة والحيرة الكبرى التي تحتاج لمن يقترب منها ويفك ألغازها البعيدة والمنسية والعالقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©