السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إلى أين تتجه المدرسة الليبرالية تربوياً؟.. خرّيجو التبعيَّة

إلى أين تتجه المدرسة الليبرالية تربوياً؟.. خرّيجو التبعيَّة
11 أكتوبر 2018 00:10

الفاهم محمد

يلعب التعليم والمدرسة دوراً أساسياً في رقي الأمم وتقدمها. فهو يمكنها من الخروج من حالة التخلف التاريخي والاجتماعي، كي تتبوأ مكاناً لها بين الشعوب المتطورة. إن الشواهد التاريخية على هذه العملية كثيرة. يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر اليابان، كوريا الجنوبية، ماليزيا، اندونيسيا، الدول الإسكندينافية وغيرها. غير أن المدرسة لا تتمكن من لعب هذه الوظيفة بنجاح إلا ضمن مجتمع ديمقراطي، يسمح بصعود نخب جديدة كنخب طلائعية تملك القدرة على إعادة الفرز الاجتماعي، اعتماداً على الاعتراف بالكفاءات وليس بالولاءات.

في الآونة الأخيرة، بدأنا نسمع عن خوصصة التعليم، وعن ضرورة ربط المدرسة بسوق العمل وبالمقاولات. من هنا تم اتخاذ العديد من الإجراءات ـ التي أطلق عليها ظلماً إصلاحات ـ سواء على مستوى المناهج والمقررات الدراسية، أو على مستوى القوانين المنظمة لمهنة التدريس. لقد كان الهدف هو خلق طبقة شغيلة قادرة على الانخراط في سوق الشغل، تمتلك خبرة تقنية في مجال ما، قد يكون هو الصيدلة أو القطاع البنكي أو شركات الصناعات الغذائية والألبسة وغيرها. غير أن هذه القوى العاملة للأسف ضعيفة من ناحية الكفاءة المعرفية، ولا تمتلك أي تصور نقدي إزاء العالم الذي تعيش فيه. نحن إذن أمام مفهوم جديد للمدرسة يطلق عليها المدرسة الليبرالية، فما هي خلفيات هذا المشروع وأبعاده الخفية؟ أي مستقبل ينتظر المنظومة التربوية، خاصة في العالم العربي ؟

الرهان على المقاولة
جدل كبير يدور اليوم في العديد من البلدان حول طبيعة البرامج التعليمية. ففي سنة 2010 تم إقرار برنامج (common core) أو المدعو اختصاراً CC في الولايات المتحدة الأميركية، بحيث تم فرضه على 46 ولاية. يتعلق الأمر بمنهاج تعليمي ينبغي اتباعه من طرف الجميع ابتداء من الروضة وإلى غاية المرحلة الثانوية. وهو برنامج يختلف كلياً عما هو معهود في النظم التربوية والتعليمية التي عرفت لحد الآن، فهو يفرض على جميع التلاميذ بغض النظر عن اختلاف مستوياتهم على اكتساب مجموعة من المهارات والكفاءات بدل نقل معارف محددة. كما أنه يتضمن العديد من المعلومات التي يمكن القول عنها إنها غير تربوية أو هي انتقائية وتحور العديد من الحقائق المعروفة. أغلب النصوص المدرجة داخل هذه الكتب المدرسية هي عبارة عن قطع مجتزأة من مقالات صحفية، تتناول مشاكل الحياة اليومية أو تسلط الضوء على المشاكل البيئية. هذا معناه أنها لا تتضمن أي شيء عن كلاسيكيات الأدب الغربي، أو إشكالات الفكر الإنساني والاجتماعي.
هدف التعليم ضمن هذا المستوى هو تتبع الأخبار ومسايرة الأحداث، وليس تكوين فكر نقدي تحليلي ومعارف قوية. بل إن المتتبعين رؤوا أن هذا المنهاج لا يهيئ التلاميذ لدخول الجامعات، بل فقط ولوج سوق الشغل حتى يصبح المرء قطعة في الآلة الضخمة لرأسمالية الشركات. كما أنه لم يتم وضعه من طرف الدولة، أو تطويره من طرف الهيئات التدريسية والتربوية، بل هو برنامج مدعوم من طرف بعض الشركات الكبرى، وبعض الشخصيات المعروفة والمليارديريين في عالم المال والأعمال للنهوض بكفاءة التلاميذ. مثل هذا التعليم في الحقيقة لا يراهن على المدرسة، بل على المقاولة، لذلك فالمنهاج التعليمي يعتمد على لغة بسيطة ومشبعة بكلمات الدارجة. بطريقة مباشرة هدف هذا البرنامج هو تدجين العقول والسيطرة عليها، بغية صنع أجيال طيعة لا تعرف شيئاً سوى العمل ودفع الضرائب.
لقد انتقل التعليم من كونه مسألة وطنية كي يصبح شأناً دولياً، خاضعاً لتوجيهات قوى الضغط المالي والشركات العابرة للحدود. هكذا أصبحت القرارات في هذا المجال الحيوي والاستراتيجي ـ كما في غيره من المجالات ـ يمر فوق رأس الدولة Para Etat، واليوم نحن نسمع كلاماً كثيراً عن إصلاح التعليم، غير أن تضخم الخطاب حول هذا الموضوع يخفي حقيقة أساسية مسكوت عنها أو معبر عنها بطريقة ضمنية، وهي أن الرهان الحقيقي هو حول المقاولة وليس حول المدرسة.
المدرسة والاصطفاء الاجتماعي
عادة ما نعتبر أن ما يحدد طبيعة انتمائنا للمدرسة هو العمل الذي نبذله. النجاح إذن يقاس بالاجتهاد والكد المعرفي والتربوي الذي نسعى لاكتسابه. غير أن بيير بورديو وجان كلود باسرون يؤكدان في كتابهما الشهير: «إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم» أن الوضع الاجتماعي والإرث العائلي، يلعب دوراً محدداً في النجاح المدرسي للتلميذ. وهكذا تساهم المدرسة في إعادة الفرز الاجتماعي للنخب، والحفاظ على الفوارق الطبقية، والإبقاء على النسق الاجتماعي كما هو، بدل المساهمة في خلق الحيوية في حركة المجتمع. إن النجاح المدرسي إذن مرتبط بما يطلق عليه الكاتبان الرأسمال الثقافي الذي يكتسبه الطفل من عائلته. ينتج عن هذا أن الفعل التربوي يمارس سلطة رمزية تعمل على ترسيخ الثقافة والفوارق السائدة داخل المجتمع. ضمن هذا المنحى ينبغي للمدرسة أن تقوم بوظيفة واحدة وهي وظيفة إيديولوجية وليس معرفية، إنها إعادة إنتاج الأوضاع القائمة في المجتمع بالشكل الذي يسمح باستمرار هيمنة النخب المتنفذة.
هذه الأطروحة التي باتت الآن من كلاسيكيات سوسيولوجيا التربية، تزداد حضوراً في سياق العالم العربي بشكل عام، حيث انعدام الديمقراطية يزيد الأمر استفحالاً. ذلك أن نجاح المدرسة يصبح مهدداً للدولة المحتكرة للسلطة، فالشرائح الاجتماعية الباحثة عن الترقي في السلم الاجتماعي، من شأنها أن ينتهي بها المطاف إلى المطالبة بالمشاركة في التدبير وصنع القرار السياسي، وهذا من شأنه أن يشكل خطراً على الدولة ذات الطابع الاستبدادي. إضافة إلى هذا يظل التعليم في الوطن العربي مثلاً تحت رحمة الأوزان الثقيلة للماضي، فالمعارف التقليدية لا يمكنها بأي حال من الأحوال الاستجابة لتحديات المستقبل.

مناهج محدودة
إن مثل هذه السياسة التعليمية من شأنها أن تخرج لنا مهارات تقنية محدودة، وليس باحثين أكفاء قادرين على الدفع بالمجتمع نحو نهضة اقتصادية حقيقة ومستقلة. كل الشركات الكبرى اليوم مثل مايكروسوفت للإعلاميات أو مرسيديس للسيارات أو فايزر للأدوية ـ وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر ـ ينقسم العمل فيها إلى ثلاثة مستويات:
1 ـ العلماء والباحثون: وهم كل هؤلاء الذين يهتمون بالبحث الاستراتيجي، من أجل تطوير برامج معلوماتية جديدة، أو إيجاد سيارة للمستقبل تتجاوز المشاكل التي تطرحها السيارة الحالية سواء من الناحية التقنية أو البيئية. أو كذلك يبحثون في سبل توفير علاجات وأدوية لأمراض مستعصية. كل هؤلاء رصيدهم الأساسي هو البحث العلمي. إنهم رجال المختبرات الذين يقومون بالتجارب ويفكرون في المستقبل، ويضعون أفكارهم على شكل مخططات هندسية على الورق. هم قلة وهم محاطون بعناية فائقة ويتقاضون أجوراً قد لا تقدر بثمن ما داموا ـ إلى حد ما ـ يملكون الحقوق الفكرية لهذا الاختراع أو ذاك.
2 ـ المهندسون المؤهلون: وهم كل من يبحث عن وسيلة لتنزيل الأفكار الإستراتيجية من الورق حتى تصبح شيئاً ملموساً على صعيد الواقع، فهم يعرفون بفضل خبرتهم وتأهيلهم التقني العالي، ما هي المواد اللازمة لتنفيذ الفكرة بالشكل الأفضل، وما هي الصعوبات التي تعترض ذلك حتى يتم تفاديها. وكيف يمكن إيجاد هذا المنتج بكلفة أقل.
3 ـ التقنيون: وهم الجيش العرمرم من الطبقة الشغيلة، التي لا تعرف شيئاً سوى الحفاظ على عمل الآلة وعدم قطع التيار الكهربائي عنها. إن منتهى ما يمكن أن يقوموا به هو إجادة التعامل معها، أما في حالة إصابتها بالعطب فهم غالباً ما يظلون عاجزين وينتظرون التقني المؤهل الذي سيأتي من الدول المتقدمة حتى ينظر في شأنها.
مدارس العالم الثالث لا تخرج النوعين الأولين، فهؤلاء يوجدون في الجامعات ومعاهد البحث والتخطيط الكبرى في الغرب. نحن بالكاد نخرج النوع الثالث كنتيجة طبيعية للبرامج التربوية للمدرسة الليبرالية. أفقهم الذهني محدود وهم يقبلون بالأوضاع كما هي ويتكيفون معها. هدفهم في الحياة يقع ضمن أدنى السلم في قاعد هرم الاحتياجات لأبراهام ماسلو. أي أنهم يعيشون فقط من أجل إشباع الحاجات الأولية عبر التبضع والشراء، فتلك هي القيم التي تعلموها في المدرسة الليبرالية. مثل هذا التعليم قد يحرك السوق الاقتصادية ويخلق فرصاً للعمل، لكنه للأسف غير قادر على تحقيق تنمية شاملة وإقلاع حضاري حقيقي للمجتمع. إنه بالعكس من ذلك يحافظ على التبعية، ويجعل مفاتيح العلم والتكنولوجيا في يد الدول القوية، بينما لا تملك الدول الضعيفة سوى قوة العمل الرخيصة.
يتم الترديد باستمرار أنه ينبغي المواءمة بين المدرسة وسوق الشغل، إلا أن ما يخفيه هذا الشعار هو الإيديولوجية الكامنة وراءه، والتي تقتضي تقزيم وظيفة المدرسة في النهوض الاجتماعي والحضاري، والحفاظ عليها كمزود رئيس لسوق العمل ـ التي أضحت يوماً عن يوم معولمة ـ بشغيلة تعرف فقط التسيير والتدبير، بدل الابتكار والإبداع الذي من شأنه وحده أن يعمل على تحقق تغيير حقيقي. وما دام المجتمع يفتقر إلى مشروع حضاري قوي، سواء في مجال التكنولوجيا والأبحاث الطبية أو الثورة المعلوماتية أو الهندسة الزراعية أو غيرها. فإن المدرسة ذات المنحى الليبرالي، المرتكزة على اكتساب المهارات وليس المعارف، ستظل عاملاً من عوامل تأخر المجتمع بدل أن تكون رافعة حضارية حقيقية. إننا نطلب اليوم من المدرسة أن تتكيف مع سوق الشغل، في حين أن المطلوب هو العكس، أي تغيير سوق الشغل وتأهيله بالبنيات الصناعية والتكنولوجية كي تستطيع استيعاب كفاءات الخريجين ومواهبهم الإبداعية.

خلاصة
إن هذا يعني في مجمله أن مشكل المدرسة العمومية ليس مشكلاً تقنياً، يكمن مثلاً في اكتظاظ عدد التلاميذ في الأقسام، أو ضعف البنيات التحتية من حجرات ومراحيض وبنايات ضرورية، أو استبدال سبورة الطباشير بالسبورة البيضاء. وبرغم أن كل هذه المشاكل وغيرها مهمة وينبغي علاجها من أجل إعداد أفضل للمدرسة العمومية، إلا أن المشكل يكمن أكثر من ذلك في السياسة التربوية المعتمدة. فلكي يتم إصلاح المدرسة ينبغي إصلاح السياق الاجتماعي الذي تنتمي إليه، ولكن إذا كان هذا المجتمع يسعى دوماً إلى الحفاظ على علاقة التبعية بين المركز والهامش، والحفاظ كذلك على مركزية السلطة، فإن التعليم سيظل دوماً موضوعاً للهيمنة وللتجاذبات السياسية، وبدل أن يكون استراتيجية للمستقبل فإنه سيظل دوماً مجالاً لتأبيد الخضوع والتبعية.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©