الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مديح الغريب لـ... الغريبة

مديح الغريب لـ... الغريبة
20 يوليو 2011 19:38
لا يملّ الشاعر الفلسطيني أنور الخطيب من إعلان حبه لها، قصيدة بعد قصيدة، ولا يكلّ من البحث عن لغة ترتقي إلى بهائها العالي... وفي كل مرة يقولها في تشكيلات إيقاعية وانفعالية متجددة، باحثاً عن منظومة من الرؤى والعبارات التي تليق بها كأنما يعزف أنغاماً متصاعدة على وتر واحد/ وترها. في الحزن والأمل يخرجها من جيب القصيدة ليطرز باسمها معطف الشعر، ويبني في أحضانها وطناً كاملاً لا يعرف النقص ولا يدركه تغير المسميات. في حزنه العالي، يلتقي الغريب بالغريبة، يسميها فلسطين، ويمنحها رذاذ روحه المتشظية وقلبه المفعم بالوله، ويشيد لها مديحاً خالصاً من كل سوء. تشكيلات الألم دائماً كان الحزن الفلسطيني شاسعاً كما ينبغي لحزن الأوطان أن يكون، في النشيد كما في الأغنيات والمواويل وهدهدات الأمهات الواقفات على شفا حلم، ظل الحزن يعشش في قلوب الفلسطينيين على امتداد تغريبتهم. لكنه، لبس في الشعر لبوساً آخر وارتفع في بعض التجارب الشعرية الحقة إلى مستوى رمزي لا يقل في ثرائه عن رمزية الأساطير الكنعانية العتيقة، وكأن هذا الطراز من العذاب المتغوّل في الأرواح والنفوس داء عضال لا يداويه إلا... الأمل، ولا ينفع فيه غير الشعر... ولأن الحزن يزدهر في الغربة ويتفتح في جحيم الفقد فإنه يصبح بيت الغريب وسرّه الثاوي في قفصه الصدري والحياتي وظله وحليفه الأزلي... فالحزن هو الرفيق الوحيد الذي لم يخن الفلسطيني فيما خانته كل الأشياء الأخرى... وفي حالات الفقد تتجوهر الغربة أكثر، وتتقطّر وتتكثَّف في ماء الغياب... وهي الحالة التي تطالعنا في المجموعة الشعرية الجديدة “مرّي كالغريبة بي”، للشاعر أنور الخطيب الذي يفقد في حالات الفقد وجهته وجملته وتعمى أصابعه ويخسر حتى رائحته ليصبح الفقد كاملاً، مادياً تتعطل فيه الروح عن العمل ومعنوياً تتعطل فيه ملكات الإبداع ووسائله. وأمام منجل الموت الذي يحصد كل أحباء الشاعر واحداً تلو الآخر من دون أن ينال فرصة وداعهم، يتعزز شعور اليتم ويضيق المدى، لكن الشاعر رغم حزنه وغربته ووحدته التي صيغت له على نار هادئة وبعناية مدهشة لا يفقد الأمل في لقاء سيأتي بعد أن تتهدم الحدود الفاصلة بين الحبيب ومحبوبته... بعد أن تستقيم البلاد إلى عودها وتشد بعضها إلى بعضها، ستعود له الرائحة وعندها تتحول الصرخة من “مري كالغريبة بي” إلى “مرّي بي كما يمرّ دمي في لحظة الاشتهاء”. السؤال من أوّله في الغربة ينمو السؤال على راحته في تربة الشعر جذوراً وفروعاً، وتنضاف إليه مع مرور الوقت أسئلة أخرى، وفيما تتساقط أوراق التوت عن المشاريع والأوهام والتسويات يعلو السؤال جارحاً وحاداً ليطوق أعناق الباحثين عن وهم الدولة مثل مشنقة. بالسؤال ومن السؤال يبدأ النص الشعري عند أنور الخطيب؛ هو الخيط الواصل المتصل بين مفاصل مجموعته... وهو إن شئت القاسم المشترك الأعظم بين جميع اللوحات الشعرية التي يرسمها بقلم راعف، وروح نازفة حائرة، ولغة متدفقة صاخبة بالأحاسيس والعواطف كأنما تتغيا في القول دماً طازجاً يليق بالمحبوبة المفقودة وفردوسها... أما الحبيبة فهي دائماً فلسطين: تصريحاً وتلميحاً/ رمزاً ودلالة/ تاريخاً وجغرافيا/ واقعاً وأسطورة... حولها وعنها وبها يتقولب النص في أشكاله المتناسلة سؤالاً وحواراً وومضة وصورة واستعارة وبلاغة تظل قاصرة عن قول بلاغة تجليها في الحضور والغياب... وأما السؤال فيتصل بالوجود بداية ومنتهى، سؤال قلق معذب تجترحه روح أضناها البحث عن معنى وراء ما يكابده الفلسطيني منذ فقد الوطن ألف وجهه المنافي وأدمن الرحيل، عن حكمة تختفي خلف مجزرة هنا ومذبحة هناك، عن غاية كبرى تفسر ما لا يفسر وتمنطق ما يبدو خارجاً عن كل منطق... سؤال مرفوع إلى السماء ساحباً وراءه ذيلاً طويلاً من الخيبات والهزائم المعلنة والمستترة... ماراً بـ / وعلى كل ما حاق ويحيق بهذا الشعب من كوارث ومآسٍ كان بعض أبنائه أحياناً هم صناعها بامتياز، وكان الدم الفلسطيني مهرها المسفوك في غير مكانه. تمتد الأسئلة على اختلاف صياغتها الشعرية والأسلوبية من “مفردة واحدة لحبيبتي” وحتى “أحزان شاعر كبير” القصيدة الأخيرة في مجموعته، لكنها تظل معلقة بانتظار إجابة ما تشفي غليل القصيدة، وتعينها على حل ألغاز ومعميات الواقع الذي تستلهم بعض حيثياته في متنها، وإذ تغلي الروح وترتفع درجة حرارة الحنين يتقمص الشاعر فلسطينه ويتوحد بها ليغدو ناطقاً باسمها. إنها أناه التي تتردد أصداؤها في غير قصيدة، تحكي وتبوح وتتوجع وتأمل وتحلم وتصرخ ثم تلملم ثورتها وتنام في بيت من بيوت القصيدة بانتظار أن يأتي ما يغير الحال. فكل أنا في القصائد لا تعني أنا الشاعر أو ذاته الخاصة بل تعني الذات الجمعية والأرض المستباحة، وفي كل تماهٍ مع صورتها يطوف الخطيب حول مداراتها السبعة كاشفاً عن كونها باتت الحاسة السادسة والحدس الذي لا يفارقه إلا ليلقاه حلماً أو كابوساً أو قصيدة مؤجلة. يتوغل فيها قارئاً تفاصيلها في المبنى والمعنى، في الحل والترحال يحمل ذاكرة خضراء كأنما رويت للتو من نبع التاريخ رافضاً في الوقت نفسه أن يصنع أحد من تجلياته/ تجلياتها “حائطاً للبكاء”. ولأن فلسطين متصلة بما حولها تاريخاً وجغرافيا تحضر الأسطورة لتقول الوطن المسلوب حتى من اسمه ومعناه، المسروق من بعده التاريخي والحضاري والميثولوجي لتعيد رسم شجرة عائلته وأسماء أولاده وأحفاده فيغدو الجرح بهذا المعنى جرحاً تاريخياً يتراءى في القصة والأسطورة وما ترك الأنبياء على وجه فلسطينه المباركة، المشتهاة من كل بشر الأرض، المفتوحة لكل العصافير والطيور إلا هو، الفلسطيني، مغنيها الأجمل. وعندما يعنّ له أن يتوسد ذراعها أو ينام في حضنها يمتطي ظهر القصيدة ويسافر فيها إلى تخومه الأولى وحيواته التي ولدت وكبرت ونمت وماتت وانبعثت على ثراها.. لهذا يصبح للتراب معناه المقدس، ولآدم الغريب (الفلسطيني) مرافعته الطويلة التي لا تقول غربته عن وطنه فقط بل عن نفسه وذاته أيضاً... آدم الغريب في القصيدة هو السؤال الأول المعلق منذ الأزل وإلى الأبد على سقف الكون ينتظر الإجابة في بعده الفلسفي والميتافيزيقي، وهو الحريق المشتعل الذي لا يطفئه ماء اليقين ولا يفلح في إسكاته مألوف التفاسير أو “غبارها” بلغة الشاعر. المعشوقات لا يبدو الوطن الفلسطيني في قصائد الشاعر أنور الخطيب حالة حنينية فقط، بل حالة نفسية وفكرية وسياسية وسوسيولوجية تتيح للقصائد أن تنفتح في موجات متدافعات متتاليات لتخرج من نواتها الأولى إلى مديات تتسع بقدر ما يتسع الجرح الفلسطيني نفسه، وبين أوجاع الليل وأوجاع السلام الوهمي تنضج القصيدة، تشيد نصف العزلة وتترك نصفها الثاني للمخيم، ولحياته المؤقتة حيث الناس يمارسون كل شيء بشكل مؤقت منتظرين العودة إلى ديار باتت جمرة في القلب والكف. تتسع القصيدة للرثاء والتجلي وبعض الشطحات الصوفية والرموز والأساطير والأنبياء والروايات والتجليات وجراح الأوطان كلها مختصرة في الجرح الأصل، كلها تنبئ عن عذابات الشاعر منذ الولادة إلى المنفى، سواء في استيهاماتها الذاكروية أو تجليها العياني في الحقيقة، وعن كون التشرذم حالة عامة لا تفرق بين ساحة وأخرى إلا في حجم الرغبة في تغييب هذا الجرح وأصحابه... هنا تحضر الوحدة التي تتردد كثيراً لدى الفلسطينيين الذين يشعرون بأنهم يقفون وحدهم بلا ظهر ولا سند. تلك الوحدة التي صرخ بها محمود درويش عالياً ذات قصيدة وتجلت في شعر الخطيب في غير قصيدة. وكما يتلبس الوطن صورة الحبيبة يتلبس صورة الأم أيضاً، تلك الأم التي يرثيها الشاعر في موتها تشبه كل نساء فلسطين وهنَّ يعددنَ أبناءهنَّ للمنافي، ولا تشبه أحداً في أمومتها وترمّلها وعشق الشاعر لها، والقصيدة لرقتها وحساسيتها الشعرية العالية تكاد تكون نشيداً لكل أم، وفيها تتداخل صورة الأم بصورة الأرض في جدلية يعثر المرء عليها في معظم نصوص الديوان. في العشق يقول الشاعر معشوقة من طراز استثنائي، نسخة وحيدة لا تتكرر وهي كل ما يريده الغريب من هذه الأرض... بل إنه يقايض كل ما يملكه بذرة تراب من ترابها. فالفلسطيني لا يريد من كل هذه الأرض سوى هذه (الأرض)... لا بديل لها ولا رجعة عنها، وعن عشقها العالي لن يتوب. في معضلة وجوده المعقدة لا يجد الشاعر إجابة شافية على أسئلته لا في المكان ولا في الزمان، ولا عند العرافات وقارئي الكف والفنجان ولا الكتب ولا الروايات القديمة.. فيرفع إلى ربه صلاة طويلة تستفيد من اللغة القرآنية وموروثها وحمولاتها وتوظف الحدث التاريخي في سياقات متجددة. وبين تشكيل الألم وصياغة الأمل تتموضع ثيمة الظل التي جاءت لتفصل بين أبواب المجموعة (التي تبدو أقرب إلى ثلاث مجموعات يضمها غلاف واحد)، وتمظهرت في غير قصيدة حملت اشتغالاً فنياً يتوسل قول المقول بطريقة مختلفة وفي رمزية لا تخلو من الغرابة منشئاً مشهداً سوريالياً لمملكة من الظلال، لا تحيا فيها إلا ظلال الأشياء والناس والأماكن والأشجار والجهات والبيوت... كلها يحكمها ظل ملك بنى عرشه على مملكة من ظلال. يضيق المخيم فكرة وفضاء... تضيق الروح في بحثها عن معنى للسراب الذي ينتشر في كل شيء... تضيق المساحة بين الأبيض والأسود ليتفشى الرمادي... تضيق الأسئلة، تضيق الدائرة، يضيق الهواء، يضيق الكون، يضيق قلب الشاعر... لكن القصيدة تتسع مع طفل ينهض من قلب اليأس ليسترد الحكاية كلها، ويتلوها على مسمع الجليل... فتسترد معه الأرض عشاقها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©