الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بنات النوخذة».. لا يوجد لدينا موتى

«بنات النوخذة».. لا يوجد لدينا موتى
20 يوليو 2011 19:40
شرعت الهيئة العربية للمسرح مؤخراً بإصدار سلسلة “نصوص مسرحية” التي تُعنى بنشر النصوص الأدبية المسرحية عربيا. كانت باكورتها ثمانية نصوص مسرحية من الإمارات صدرت في جزءين، ضمّ كل منهما أربعة أعمال لم يسبق نشرها كما لم يجر عرضها كلها على الخشبة من قبل، سواء مأخوذةً كما هي أو تمّ إعدادها. هنا يواصل “الاتحاد الثقافي”، تباعا، نشر متابعات نقدية وقراءات في هذه المسرحيات. ما يلي قراءة في النص الأدبي المسرحي الذي يحمل العنوان: “بنات النوخذة” للقاصة والكاتبة المسرحية باسمة يونس... يحيل العنوان: “بنات النوخذة” في حال تأمله، عبر مفردة النوخذة وحدها وبوصفه عتبة أولى للنص، أننا نعيش معه أجواء محلية تماما تعود بالوعي الفردي إلى الحقبة السابقة على اكتشاف النفط وتأسيس الدولة وبروز مجتمع الوفرة، أي إلى المجتمع الإماراتي بوحداته التكوينية الأولى قبل تحوّل مدنه إلى مجتمعات كوزموبوليتانية متفرقة تجمعها بالأساس مجموعة من المصالح الاقتصادية على النقيض مما كان سائدا قبل العهد الراهن وخصوصا على مستوى العلاقات الاجتماعية حيث كانت الناس أكثر انفتاحا اجتماعيا، أقلّها. أيضا، غالبا ما ظهرت شخصية النوخذة في النص الأدبي والعرض المسرحيين بوصفها الشخصية المتسلطة وصاحبة النفوذ والقادرة على الممارسة القيادية دون مرجعيات قانونية محددة، بل إن بإمكانها تبعا لذلك التحكم بمصائر الأفراد على المستوى الشخصي في البحر فيتحركون هبوطا إلى الماء وصعودا منها وفقا لأوامره دون الأخذ بالحسبان ما يمكن أن يكون مؤثرا على حياة الفرد من أخطار بيئية أو صحية، ويُضاف إلى ذلك المستوى العائلي، فحين كان الغوص بحثا عن اللؤلؤ كان مصدر الرزق الوحيد للكثير من العائلات كان الغواصون يذعنون لتلك المشيئة مرغمين بحكم أفواه جائعة بالانتظار، وهذا كله فضلا عن خطر البحر كبيئة، في حين يتحكم النوخذة بالدفة، بمعنييها الرمزي والواقعي، فيحدد متى يعود “عوليس” المنكوب بقدره ومصيره الشخصي إلى اليابسة، حيث من الممكن أن يجد “بونوليب” بانتظاره وربما لا. عوالم خفية غير أن العنوان ذاته إذ يتناول أيضا بنات “النوخذة” فإن النص من الممكن أنه يلج بالقارئ إلى العوالم الخفية لهذه الشخصية التي لا يُعرف منها سوى استبدادها على الآخرين، فماذا إذن عن “بنات النوخذة”؟ وهذا ليس بتساؤل بل هو مفتاح معرفة ما سيدور حوله النص أو أقلها ما يمكن أنْ يكنّ فاعلات فيه ومؤثرات في توجهاته. ثم أنه بالإضافة إلى كلمة “بنات”، فهناك الكاتبة وليس الكاتب وهي الكاتبة المرأة باسمها الواضح: باسمة يونس، وتلك ليست ميزة للنص الأدبي للعمل، لكنْ السؤال هنا هو: هل ستأخذ الكاتبة خط التوتر الدرامي للنص إلى الإحساس الأنثوي لتجعل منهن ـ أي بنات ـ أيقونة عملها هذا، هنا المشاعر قد تتغلب على الموقف سواء أكان متعاطفا أم يتسم بقسوته. هكذا تتحدد هوية العمل بانتمائها إلى مكان وزمان بعينهما، فهي هوية محلية وليست استيهامية أو افتراضية، كما أنها ليست طارئة أو حديثة بل أفرزتها طبيعة المجتمع الإماراتي عينه في مرحلة من المراحل التي لا تتجاوز نهاية الستينات من القرن الماضي على الأرجح. أيضا يتأكد عمق الهوية ونفاذها إلى عمق العمل عبر أسماء الشخصيات: ميثاء وعلياء وآمنة وعيسى والنوخذة بو ناصر، والتي هي أسماء ما تزال تحدث وتتكرر محليا وخليجيا وعربيا أيضا. تحدد الكاتبة الفترة التي تجري فيها أحداث “بنات النوخذة” في فترة الغوص، حيث يعني ذلك أنها الفترة التي يغيب فيها النوخذات وغوّصهم في البحر خلال موسم الصيد، هكذا فالنوخذة ينبغي أن لا يكون موجودا وكذلك الغواص عيسى الذي تتحدد طبيعة شخصيته بوصفه كذلك في سياق تعريف الكاتبة بشخصياتها. أما مكان الحدث فهو “حوش بيت النوخذة بوناصر”، لكنّ باسمة يونس تضيف إلى ذلك ما تسميه بالمنظر، أو المشهد الذي يميّز حوش بيت النوخذة: “تتوسطه نخلة وبئر وبعض الأشجار التي تغطي جوانبه ويبدو مغلقا وسوره مرتفع جدا”، ربما كانت أسوار بيوت النواخذ مرتفعة الأسوار وتغطي جوانبها أشجار ينبغي أنها كانت عالية بحيث من غير الممكن النظر إلى ما يجري في داخله ليس لأن أسواره وأشجاره مرتفعة فحسب، بل أيضا بسبب الدلالة التي تحملها عبارة: “يبدو (أي للناظر إليه) مغلقا”، فأي مستوى من الانغلاق هذا. يقولون أن ضيق الأفق يورِث ضيق النظر، وللعبارة معناها المجازي والآخر المادي الصحيحين إلى حدّ بعيد بحكم التجربة الإنسانية التي خلّت هذا المَثَل. غير أن ضيق الأفق هذا، الذي يتكشف بمستوياته العديدة مع اللحظات الأولى من قراءة النص الأدبي لـ”بنات النوخذة”، لا يتوقف عند النظر وحده فقط بل يتجاوز ذلك إلى السمع أيضا، فالأخوات المنشغلات بيومهن العادي في البيت المغلق عليهن وعلى ذواتهن يُطرق وكأنه يُطرق، فتصير اليد البشرية هنا يد الريح التي تطرق باب “الحياة” برمتها وليس باب البيت. في الوقت نفسه تتداعى الذكريات بين الشقيقات الثلاث عن أولئك الذين طرقوا ذات يوم الباب فيحضر “عيسى” من بين تلك الذكريات، ابن الراعي الذي أصبح غواصا لكن البحر ابتلعه فتى ولم يعد هو الذي كان مجيئه يحرّك فيهن، هن الفتيات قبل أربعين سنة شيئا ما، فتكون المحظوظة من بينهن التي تفتح الباب له. لكن في مستوى من مستويات الصراع الدرامي وتفاصيله الصغيرة غير المؤثرة: كيف لابنة النوخذة أن تفتح الباب لإبن الراعي، فالأمر غير جائز ضمن تراتبية اجتماعية هي أشبه بعقد اجتماعي. ثم يستحيل انغلاق السمع المادي إلى مجازي، إذ يتناول الحوار، الذي يبدأ من لحظة توتّر عالية، تكهنات بهوية الطارق الذي فتح الباب عنوة ودخل ليكون “عيسى” وقد تشابه معهن في أعمارهن، لكنه ليس بـ”سندباد” الذي عاد من أسفار بعيدة بل اعتقدن أنه الشيطان وقد تلبس هيأته، وجاء للفتك بهن. النائم الميت وهنا يتذكر القارئ أمر النوخذة الذي لا زال نائما في الحوش قرب إحدى بناته التي تقوم بصناعة الخبز والذي رغم الصراخ وحالة الهلع بين بناته لا يستقيظ. إذن ما الذي تفعله هاتان الشخصيتان في هذا الزمان وهنا بالتحديد، ليس في بيت النوخذة بل بين بناته الممتلئات خوفا وقلقا، واللواتي لأمر ما لا يسعين إلى إيقاظ أبيهن كما لو أنه ليس هنا؟. على صعيد الحوار، ليس هاك ما يجري الكشف عنه بل تبدو الحالة النفسية، بوصفها حالة مسرحية، هي الشغل الشاغل للعمل، فتتكشف هشاشتهن وضعفهن بإزاء كل ما هو خارج المكان المغلق، فكيف هي الحال إنْ تعلّق الأمر برجل، حيث كل الرجال غرباء وأمهن التي كانت تروي عنهن قصصها فيعرفهن منها قبسا عن عوالمه لم تعد موجودة ولا أخ أيضا يزور ويُزار والبيت في طرف الحي ثم إن الحال قد تبدّلت تماما. في آخر الأمر، لم يكن عيسى بـ”سندباد” ولا جان أيضا، بل هو غواص على مركب أبيهن جاء يتفقده بسبب غيابه عن الإقلاع منذ أسبوع. والبيت تفوح منه وفيه رائحة كريهة لم يستطعن ثلاثتهن أن يدركن أنها رائحة أبيهن الميّت، كما عرفنّ أنهن في عُرف الناس هنّ ميتات بالجدري منذ زمن بعيد لذلك لا أحد يقترب من البيت. كما يكشف الحوار كم كان الفتى عيسى مولعا بآمنة. أيضا “النوخذة”، وفقا للتصور المسبق عنه، لم يكن سوى قناع تخفي الشخصية خلفه خوفها. حقا، فالتسلط يخفي هشاشة صاحبه، والاستبداد حماقة يرتكبها صاحبها في حقّ ذاته وفي حقّ الآخرين، أما الضحايا فلم يكن أمامها سوى الانصياع والرضى بالمهانة على أنها قدر طبيعي للأنثى. في “بنات النوخذة”، يبدو الاكتشاف محورا للعمل ومغزى له أيضا، لكن الثيمة الاكتشاف الأساسي الذي تنبني عليه فكرة العمل هي أنهن مررن برحلة أعمارهن حبيسات فكرة أبيهن الخائف. ذلك الرجل القوي الذي يقود سفينة طيلة ثلاثين عاما يخاف على بناته إلى حدّ يبدو لا معقولا بالمعنى الإنساني، كما أنه مبالغ فيه بعض الشيء على مستوى النص الأدبي للعمل، فربما أن عيش النساء في العزلة بوصفها الفكرة المجازية للعيش في الأفكار المسبقة والمواقف التي لا تقبل الجدل أقرب إلى روح العمل منه إلى شيء آخر. فحتى النوخذة الذي لا يتحرك ولا يصدر عنه أي ردّ فعل مؤثر أو غير مؤثر دراميا ليس سوى فكرة مسبقة، إذ أنه ميت فيما بناته، حبيسات فكرتهن عنه، ما زلن لا يعتقدن بموته، لأن اعترافهن بذلك يعني موتهن أيضا، وهذا ما يحدث بالفعل بعد خروج عيسى إلى الحياء ثانية في إثر آمنة، إذ يموت البيت ويتهاوى على رأسي ميثاء وعلياء ويصير أثرا من بعد عين. وعزلة النساء الثلاث هنا غير مقترنة بحلم او بتوق أو بنداء ما خارجي قد يكون منبعه في الجسد البشري بوصفه كيانا من أشواق ورغبات ومخاوف أيضا، فهنا العزلة مضاءة وقد تكون محفّزة للتوتر الدرامي بحكم وجود التناقض بين الشخصيات وطبيعة صراعها مع بعضها البعض، لكنها هنا، عزلة أنثوية منغلقة على ذاتها كما هو البيت منغلق على النساء الثلاث، من ذلك النوع من الانغلاق الذي يسدّ الأفق ويجعل الحياة محض عيش كسائر الكائنات الأخرى؛ عزلة منسدة الأفق بلا نزعات أو أشواق عليا بل باستكانة ورضى مطبق بالموت على مَنْ هم فيه، وما هو خارج هذا الحيّز الضيّق من العيش، أي المكان، ليس سوى شرّ. الآخر هو الجحيم، هنا بحسب عبارة المثقف الفرنسي جان بول سارتر، لكنه آخر معكوس على ذاته ولا يمتص الأشعة المقبلة من الشمس وبالتالي لا يعكسها أيضا. إنها العتمة فحسب؛ التي ليست سوى موت يتنفس. يبلغ العمل أوجه في صفحاته الأخيرة، رغم أنه لا حبكة هنا تنحلّ، بل هو الذهاب مباشرة إلى أزمة الشخصيات دون تمهيد. ففي تلك الصفحات تتضح الرؤية وتتفكك الشخصية الواحدة إلى شخصيات أخرى بحكم ما اعتراها من شكّ في موقفها من العالم ومن الحياة، إنما يكون القطار قد مضى من زمان. وربما كان يمكن لذلك أنْ يبدأ في لحظات من العمل سابقة على الصفحات الأخيرة بحيث يمكن اختصار العمل ذاته مع الاحتفاظ بدراميته عاليةً، ربما كان لذلك أنْ يحدث لولا نزعة الكاتبة باسمة يونس إلى استخدام القول الشعري بما يتضمنه من مجازات وتشبيهات في الديالوغ وليس المونولوغ. فلو افترضنا جدلا أن النص الأدبي لعمل مسرحي هو “بنات النوخذة” سيبقى نصا أدبيا ولن يبادر أحد إلى تحويله إلى عرض مشهدي فإن شعرية القول في حواراته أمر ممكن أو يثير خلافا على الأكثر، إنما يبقى من الصعب قبوله في عمل سوف يتم تحويله إلى مشهدية مسرحية يقترن فيها الملفوظ، أي ما يتضمنه الحوار من كلام، بفعل ما على الخشبة يقوم به ممثل فيما على الممثل الآخر أن يبادر بفعل آخر يستجيب للطبيعة الدرامية للعمل ويصعِّد منها، حيث التوتر الدرامي هنا يشير إلى تطور المنطق الحكائي والسردي للعمل المسرحي بناء على الحوار وعلاقته بفعل الممثل من جهة ثم إبقاء المتفرج في حالة انشداد بصري ونفسي أثناء متابعته للصراع بين الشخصيات. وهذا القول الشعري، رغم جمالياته في بعض مناطق الحوار في النص الأدبي لـ”بنات النوخذة” يستغرق الكثير من الصفحات ولا يسمح للقارئ بتلقي العمل المسرحي بوصفه مسرحا خالصا لا تختلط فيه عناصر الشعرية، بل تكون الشعرية في المفارقة التي تصنعها درامية العمل بحدّ ذاته وليس باتكائه على الشعر. لكن الأمر يختلف تماما في حالة المونولوغ لأنه ما من رد فعل من المنتظر أنْ يتحقق تبعا لهذا المونولوغ ما يعطي للقارئ أولا ثم للممثل إنْ حدث ذلك إمكانية أن يعيش الحالة الدرامية كما هي تماما دون الحاجة إلى ما هو فائض عن حاجة الحوار المسرحي بالتأكيد. في آخر الأمر، فإن المرء يعيش مع هذا النص الأدبي بكل ما تشتعل فيه من أحاسيس، وربما لا أبلغ من تفكك الشخصيات الأنثوية شيئا فشيئا كما تفعل باسمة يونس مع الشخصيات الأنثوية فحسب، إذ باختصار وباستعارة من النص نفسه مع بعض التحوير، فإن يد الأمل إذ تطرق الباب يأتي الجواب: لا يوجد ليدنا موتى، مع أنّ الموت يعشش في النفوس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©