الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية الفيل والعميان

حكاية الفيل والعميان
20 يوليو 2011 19:40
تنقل الكثير من المراجع من بين سير حكماء الهند قصة “العميان والفيل”، وخلاصتها أن حكيما معلما لأمير شاب متهور يدعي العلم بكل شيء، أراد أن يلقنه درسا، فطلب منه إحضار فيل وجماعة من العميان، دون أن يخبرهم بأن ما أمامهم فيل، وطلب منهم أن يتحسسوه ويصف كل منهم ما لمس، فمن لمس الذيل قال كأنه مكنسة، ومن لمس القدم قال كأنها جذع شجرة، ومن لمس الخرطوم قال كأنها خرطوم مياه و.... وهكذا فعل كل العميان عدى أعمى عجوز انتظر وظل ينصت، وبدون أن يتحسس أي جزء كوّن فكرة متكاملة، وفي النهاية قال لهم الذي استمع أكثر إن ما تحسسه زملاؤه العميان هو فيل. مع صحة تقديره، فهم لم يصفوا سوى مقاطع من الفيل، بينما الفيل أكثر من ذلك أيضا. إنها حضارة الهند المتعددة، ففيها نشأ عن بعض طقوس العبادات الهندية الكثير من الفنون التي امتزجت فيها روح الأساطير بمنطق الحياة، وكان منها ما نسميه الآن “الباليه” الذي ترجع تقاليده إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، حين ظهرت عبادة الإله الراقص “سيفا” الذي أحب زوجته “أساتي” أكثر من حياته، فلما ماتت حزن عليها حزناً حدا به إلى أن يطوف بجثتها راقصاً حول العالم سبع مرات. أسوق هذا بين يدي تناول معرض من أبرز المعارض التي تحاول تقديم صورة عن الهند، معرض يقدم مقاطع من الحياة الهندية، وشيئا من تاريخها وأساطيرها وشخوصها المألوفة، وقدرا من تراثها الشعبي. هو معرض “تمثيل الهند: العميان والفيلة” الذي أقامه “غاليري الربع الخالي” في دبي، ويضم أعمالا من التصوير الفوتوغرافي لستة من المصورين الهنود، حاول كل منهم أن يقدم في أعمال رؤيته الخاصة إلى الهند. الفنانون المشاركون هم: بوهلر مايكل روز، كامبلي بريا، نيل شودري، ماهيش شانتارام، فيديشا سايني، زوبين بستكية. تقوم فكرة المعرض كما يقدمها بيان الدعوة على تقديم الصورة شبه المكتملة للبلاد الشاسعة، حيث يقدم كل فنان جانباً من جوانبها، على طريقة العميان الذين يتلمسون الفيل كل بطرف من أطرافه، حيث أن كلا منهم سيعتقد أن الفيل هو هذا الطرف الذي يمسك به، لكن أحداً منهم لن يمسك الفيل كاملاً. التحدي الكبير وهكذا فالهند أوسع وأكبر من أن يراها أي من الفنانين، إنها شبه القارة الهندية التي تتحدى الرؤية الضيقة ببساطة، وليس من فنان قادر على تقديم صورة شاملة عنها، وعن تعدد ثقافاتها وطبيعتها. وهكذا يجتمع هؤلاء المصورون الذين يعتمدون في نهاية المطاف على التواصل مع بعضهم بعضاً عبر حكاياتهم المختلفة عن هذا الحيوان الهائل (الفيل)، ليقدم كل واحد منهم للمشاهد جانبا يعشش في مخيلته وذاكرته من صورة هذا الكيان، فهذا يرسم ساق الفيل والثاني يرسم خرطومه، والثالث عاجه، وهكذا لتتكون في النهاية صورة متعددة الأبعاد والجوانب، صورة تظل أيضا ورغم كل شيء ناقصة وقابلة للمزيد من الإضافات التي لا تنتهي، حيث الحقيقة كاملة تظل هي أننا أمام بلد وثقافة موجودة في خيالنا. ثمة عناصر مشتركة بين هذا الفنان وذاك، عناصر تنتمي إلى الثقافات والديانات وأبرزها السيخ والبوذية والكونفوشيوسية، ويستطيع المشاهد من نظرة واحدة أن يحدد الهوية الهندية لهذا العمل، لكننا لا نعرف كم في الهند من الديانات التي تجعل الهنود يتفرقون ويختلفون في تفاصيل كثيرة، ولهذا فنحن حيال مشهد واسع وممتلئ بالتفاصيل التي تحيل إلى عالم ما من عوالم هذا البلد، وما يقدمه الفنانون هو جهد متعدد الأبعاد. كما لا يفوت الفنان الهندي التقاط مزيج من الحضارات التقت على أرض الهند، ومن بينها الحضارة العربية الإسلامية، متمثلة أساس بمساجدها وما تنطوي عليه من جماليات العمارة، حيث نتج المزيج العجيب من الأسلوبين الهندي والإسلامي في البناء، وأتت إلى الوجود في أحضان الهند الفسيحة الأرجاء مساجد ضخمة تمثل خير ما حققته البدائع المعمارية الفنية في الهند، وأصبحت شاهد عيان على التراث الثقافي الإسلامي فيها وجمال الفن الهندي أيضا. إننا في عوالم تقارب الفنتازيا، نساء من عالم الأحلام في أوضاع الغناء والرقص والموسيقى، مما لا نجده ربما في أي من فنون الشعوب الأخرى، وإذا وجد لدى الأفارقة شيء منه فهو يتخذ طابعا مختلفا من حيث الألوان والتكوينات وأشكال الرقص والراقصين، فالفن الهندي يهتم كثيرا بالألوان الزاهية، وهو ما نلمسه في فنون شرق آسيا وجنوبها على اختلاف التفاصيل والمكونات، بينما تميل فنون أفريقيا مثلا إلى القتامة والأقنعة والرموز المختلفة. الموروث والراهن هنا نجد اهتماما كبيرا بالطبيعة وما تنتجه من مواد، فالبعض يستحضر الطبيعة الحية كما هي، والبعض الآخر يستحضر شجرة أو زهرة، فالفنان ماهيش شانتارام يهتم كثيرا بالأزهار في أجواء تحيل على الاحتفال، لكنه يمزج بينها وبين الواقعي والموروث، هو الفوتوغرافي الذي تستوقفه الكراسي والأزهار في بقايا حفل، أو أزهار الزينة المتناثرة حول المروحة، فالاحتفال هنا طقوس وألوان باهرة، وهو أزهار وأشخاص، أزهار وأدوات احتفال، والفنان يرصد أيضا مدخل بيت والحديقة والأزهار والطاولة والكرسيين، ويجمع الأزهار والستائر والكراسي الحمراء، السجادة الحمراء والأجواء الاحتفالية. عالم غني بالألوان والمكونات المألوفة. والاهتمام بالطبيعة والإنسان يبرز أكثر ما يبرز عند بريا كامبلي، فالطبيعة في عمله ساحرة ونقية، فالزهرة لا اليد هي موضوع لوحته، وإن حضرت شخصية دينية ففي إطار آخر. بينما يسمح لعدسته برسم مشهد الفتاة التي تخفي وجهها بالياسمين الأبيض وتنظر إلى علبة فارغة من العلب المستعلمة لحفظ الحلي. ولا يختلف الأمر كثيرا بخصوص أعمال كل من فيديشا سايني، زوبين بستكية، حيث المشاهد الجمالية بأبعادها الروحانية العميقة. التجربة الأكثر اتساعا تبدو حين نتنقل إلى الشوارع مع الفنان نييل شاودهوري الذي ينقل مشاهداته من مشاهد جماعية وفردية، صور مشغولة بالفوتو مونتاج حيث تتداخل الصورة مع مقاطع من صحف، فبقدر ما تحضر العمارة القديمة بجمالياتها، يجري استحضار لشاشة التلفزيون، البقرة المقدسة إلى جوار الدراجة الهوائية وسط الحشود الجماهيرية ووجوه الحداثة المتمثلة في الإعلانات (الكوكاكولا)، بائع الصور والتماثيل، كريشناجام والسيارات القديمة، وشخصية شيفا وما يحيط بها، عازفة الناي من خلال التطريز على القماش بالحرير، بكل ما يحيط بها من زينة نباتية، وحضور لشخصيات كوميدية وطبيعية، حيوانات أليفة كالخروف، وكائنات أسطورية من الأساطير الهندية الكثيرة، العالم الشعبي والنجوم والنجمات في مشهد غرائبي، وسوى ذلك من أسواق الهند وحياتها اليومية. هي رؤية للهند من داخلها وعن كثب، قديمها وحديثها. عالم بوهلر روز حافل أيضا برموز وعناصر من الموروث الديني التي تظهر في رسومات وتصاوير قديمة، وخصوصا بعض الشخصيات النسائية التي تظهر إلى جانب البقرة البيضاء الضخمة، إنها البقرة المقدسة بكل ما تعني للهندوسي من رموز العطاء والقوة، في إطار مع العازفة كريشنا، وإلى جوارها ما يشبه شاهدة قبر عليها صورة لعروس طفلة مع كائن خرافي. لكن روز يبتعد أحيانا ليصور الطبيعة الصامتة كما يفعل مع بعض أنواع الفاكهة. وحضور هذا لا يتعارض مع حضور ذاك. وفي نهاية المطاف، فإن هذا المعرض المتخصص بالتصوير في الهند، وبهذا العدد من المصورين الهنود، استطاع أن يلخص لنا ما لا يمكن تلخيصه، وهي تجربة جديرة بالتقدير والتكريس، لأنها تضيء على حضارة من الحضارات، وتمثل ما يشبه المتحف الصغير لهذه الحضارة، وهذا هو دور من أدوار المعارض، أي اختيار حضارة أو ظاهرة أو قضية لتسليط الضوء عليها وإبراز أهم ملامحها، بما يمكن من قراءة هذه الملامح ووضعها في سياقها من الفن في العالم، فأين هي الحضارة الصينية واليابانية مثلا؟ وأين فنون أمريكا الجنوبية بما لها من تقاليد عريقة وملامح هوية متميزة؟ ثم أين هي أفريقيا وما أنتجت من فن على مدى قرون؟ وهنا لا بد من القول إن المعارض الكبرى المهمة في أبو ظبي ودبي وبينالي الشارقة مثلا استطاعت تقديم مثل هذه الظواهر، فقدمت تجارب عالمية في تظاهرات قيمة، ولكننا نلفت هنا إلى أن بعض هذه التجارب تمر من دون أي قراءة معمقة، وبعضها لم يجد المتابعة المستحقة، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن مصير هذه المعارض بعد انفضاضها؟ والسؤال الأبرز هو علاقة هذه المعارض بواقع التشكيل في الإمارات، فكم من الفنانين في الإمارات استطاعوا التواصل مع الفن الهندي في هذا المعرض، أو مع غيره؟ أسئلة معلقة تنتظر إجابات أصحاب الصالات من جهة، والمؤسسات المشرفة على تنظيم وتنسيق الحراك الفني من جهة ثانية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©