الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أفغانستان: فجوة الثقة وغياب التفاؤل

20 يوليو 2011 22:24
كابول المدينة التي اعتبرتها يوماً "وطناً " لي تحولت اليوم إلى خليط من الحواجز الأمنية والأماكن الخيالية. لقد بت غير قادرة على أن أجد فيها شارعي القديم أوالمخبز الذي اعتدت أن ابتاع منه خبزي، والذي كنت أتابع فيه الخبازين، وهم يدقون بأكفهم على العجين قبل أن يضعوه في تنور أرضي ملتهب في الصباح المبكر. لقد اختفى كل ذلك وغيره وراء أسلاك شائكة وحواجز ومتاريس أمنية ضخمة تنتصب عالياً كشواهد أجنبية على الحرب في مختلف أرجاء العاصمة كابول. وليس هذا هو التغير الوحيد الذي طرأ على كابول بل نرى فيها الآن امتداداً عمرانياً من العمارات السكنية، التي أقيمت على عجل لمحدثي النعمة وأثرياء الحرب والمراكز التجارية ذات الواجهات الزجاجية اللامعة، وصالات الأعراس ذات الألوان الفاقعة، والقصور الضخمة ذات الشرفات المصممة على نمط العمارة الإغريقية - الرومانية، والتي تحتوي على تجهيزات مترفة بناها رجال أثرياء، يحمي كل واحد منهم العديد من الحراس الأمنيين، ولا يدفعون ضرائب على مكاسبهم الباهظة. وهذه الواجهات الزائفة تتآمر مع بعضها بعضاً كي تغطى على الماضي، وتخفي تحتها ركام الحرب ودروسها وتباعد الشقة ما بين الناس العاديين وبين النخب الجديدة والأجانب الأثرياء على حد سواء. أسعدني الحظ بحكم مهنتي كمراسلة صحفية برؤية هذه اليقظة لحظة انبثاقها، وأن أتلمس عن قرب النشوة التي شعر بها مجتمع يُمنح فرصة جديدة بعد جيل من الحرب والتحولات الإيديولوجية. في تلك السنوات المبكرة لحظة بزوغ الأمل، كثيراً ما كنت أقابل منفيين أفغان تخلوا عن وظائفهم المرموقة في أستراليا وألمانيا للمشاركة في بناء نهضة وطنهم، ورجال قانون ومهندسين زراعيين أميركيين جاؤوا للمساعدة في إعادة بناء دولة غريبة. في ذلك الوقت كان يتم الترحيب بالأجانب في كل مكان كما كانت هناك أجيال جديدة من الأفغان تكافح للحاق بما فاتها. كثيراً ما كنت أقابل فتيات يشتركن في دورات رياضية وشباناً يتلقون دروس الكمبيوتر. وفي الريف كانت المرأة لا تزال تقبع خلف الأستار والحجب، ولكن المدارس كانت تقام في كل مكان والعمال ينهمكون في تطهير قنوات الري المسدودة. في تلك السنوات رأيت القرويين البسطاء وهم يرفعون بفخار أصابعهم الملوثة بالحبر بعد خروجهم من مراكز الاقتراع في أول انتخابات ديمقراطية حرة تعقد في البلاد. هذا التفاؤل والطاقة اختفيا منذ وقت طويل وحل محلهما على نحو تدريجي مشاعر الشك والارتياب والخوف. أما مظاهر الديمقراطية فقد ظلت كما هي بفضل الجهاز الضخم من المنظمات والمؤسسات الدولية التي لا تزال موجودة في البلد. ولكن سياسات المناوشات العرقية والضغائن القبلية، والمحسوبيات الشخصية ظلت قائمة، كما سادت ممارسات منح الوكالات الحكومية للفصائل العرقية كي يديروها كإقطاعيات يستنزفون أموالها، أما أموال الإغاثة فقد اختفت في جيوب الأقوياء كما ازدهرت مجدداً تجارة المخدرات، التي كانت قد أوشكت على الاختفاء. أما البرلمان فقد تحول إلى قاعة تضم رؤساء المليشيات الإسلامية السابقين والمتربحين من الحرب الذين ينخرطون في مساجلات معوقة، ولا تنتهي مع المسؤولين التنفيذيين. وفي الوقت الذي ينتشر فيه الفساد في حكومة كرزاي تواصل طالبان عملياتها وتزيد من نفوذها وتملأ فراغ السلطة. و لا يقتصر الأمر على هذا الحال حيث تقلصت المساعدات الأجنبية، وخصوصاً للمناطق الريفية التي باتت أكثر انكشافاً، وحلت العمليات العسكرية والحملات التفتيشية محل الجلسات الودية مع شيوخ القبائل. وحدثت فجوة بين النوايا الغربية وبين الإدراكات الشعبية زاد منها الانتقادات التي يوجهها كرزاي باستمرار لهجمات "الناتو" متناسياً الهجمات التي تشنها "طالبان" وقيامها بقطع رؤوس المخالفين لها. وفجوة الثقة هذه، والفساد المنتشر جعلت الكثير من المتطوعين الأجانب في مجال المساعدات يفقدون حماسهم ويغادرون البلاد. ومما زاد الطين بلة ذلك الاتهام الذي وجهه كرزاي للقوات الغربية التي فقدت ما يقرب من 2500 جندي، وهي تحارب "طالبان"، والتي تشرف على تدريب الجيش وقوات الأمن الأفغانية لتحمل المسؤولية بعد مغادرتها، بأنها"تستخدم" أفغانستان لتحقيق مصالحها، وأن ذلك قد يجعل الأفغان ينظرون إليها على أنها قوات محتلة غير مرحب بها، وهو اتهام جعل السفير الأميركي في كابول يستشيط غضباً. على ضوء كل تلك العلامات المحبطة يمكنني القول إن المعركة الكبرى من أجل مستقبل هذا الوطن ليست هي - كما يفترض- المعركة التي يخوضها "الناتو" والقوات الأفغانية ضد المتمردين في المقاطعات النائية مثل "كونار وخوست"، وإنما هي المعركة التي تدور من أجل المال والسلطة في المراكز الحضرية مثل كابول وقندهار حيث يقوم المتنافسون من العرقيات المختلفة بتسوية حساباتهم ويقوم "بارونات المافيا" الجدد بتصفية بعضهم من أجل تعزيز مناطق نفوذهم. مأساة أفغانستان الحقيقية تتمثل في الفوائد القليلة التي حصلتها من المساعدات الدولية والنوايا الطيبة التي تلقتها من مختلف أنحاء العالم عقب هزيمة "طالبان" عام 2001 لأن أبناءها - غير المخلصين منهم وهم كثيرون- قد تعلموا أن يرطنوا باللغات الأجنبية، ويسرقون أموال المشروعات ويعينون أقاربهم في الوظائف. وفي حين أن البعض قد اظهروا اهتماماً قليلاً بتعلم المهارات الحديثة التي ستدفع ببلدهم قدما للأمام فإن أفغانستان تبقى من حيث الجوهر - حتى الآن - مجتمعا تسوده العادات والتقاليد القبلية وغرائز البقاء، أما أهداف مثل الديمقراطية وحب الوطن فتتأخر كثيراً على قائمة اهتماماتها. وما لاحظته خلال زيارتي الأخيرة لأفغانستان أن الجميع يشتكون من الفساد والرشوة والزحام وأن الكثيرين منهم يقارنون ذلك بما كان موجوداً في أفغانستان تحت حكم "طالبان"... لا يرغب الأفغان في العودة لذلك العهد، لكن المؤكد أنهم يخشون مما ينتظرهم في المستقبل. باميلا كونستابل محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©