الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بنتوس.. وطقوس العزاء

بنتوس.. وطقوس العزاء
6 أغسطس 2014 20:15
*إدارة الحزن أصعب بكثير من إدارة الحب والكاتب الناجح هو الذي يجيد إدارته * القشيري صوّر الحزن بعفوية بينما كان ابن الرومي يفكر فيه بعمق الفلاسفة الكبار * السواد الذي يسود في مناسبات الحزن هو آخر ما تبقى من تقاليد بنتوس ------ في خمسينيات القرن العشرين، عندما نشرت فرانسوا ساغان قصتها "مرحباً أيها الحزن" تهافت القراء على اقتناء هذا الكتاب ولم يخل منه رف في مكتبة أديب أو هاو. كانت الكاتبة في سن المراهقة تقريباً، وعالجت الحزن معالجة واقعية بحس مَن بدأ يتفتح على الحياة، ولكنها بعملها هذا جعلت الاهتمام بالحزن كبيراً لدى القارئ كأنها كانت مطلعة على ميثولوجيا الحزن في كل آداب الشعوب. والحزن من الصفات التي جعلها سرفانتس تلازم وجه بطله دون كيشوت "ذي الوجه الحزين" مع أن أعماله كانت مثيرة للضحك والسخرية. وقد اكتشف النقاد والمفكرون والفلاسفة روعة هذا الوصف، ومن أبرزهم أونامونو الإسباني الذي خصص لدون كيشوت كتاباً كاملاً، اعتمد الحزن أساساً حتى لمن أراد السخرية من الحياة البشرية. ------ ترى من يستطيع أن يحصي أنواع الحزن ودرجاته؟ من يرسم حدوداً بين حزن بينيلوبي وحزن هيكوبا، ملكة طروادة، التي دفعها الحزن إلى الجنون والعواء مثل كلبة، مما جعل هيكاتي تشفق عليها وتحولها إلى كلبة سوداء، كلما عوت عرف السامعون أن هناك عاصفة قادمة، وأن الدمار سيحل قريباً؟ من يستطيع أن يصنف حزن الصمة القشيري مثلاً أو حزن ابن الرومي؟ قال القشيري (والقصيدة تنسب إلى عدة شعراء كابن الدمينة والمجنون وقيس بن ذريح ويزيد بن الطثرية): بَكَت عَينِيَ اليُسرى فَلَمّا زَجَرتُها عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أَسبَلَتا مَعا وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمى ثُمَّ أَنثَني عَلى كَبدي مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعا فَلَيسَت عَشيّاتِ الحِمى بِرَواجِعٍ عَلَيكَ وَلَكِن خَلِّ عَينَيكَ تَدمَعا وقال ابن الرومي في رثاء ولده: لا تَنفُسا عبرة أجودُ بها فلستُ أبكي بها على الدِّمنِ لم يُخْلق الدمعُ لامرئٍ عبثاً اللَّهُ أدرَى بلوعةِ الحزنِ أساء بي ما أتيتَ من حَسَنٍ إليَّ فيما مضَى من الزَّمَنِ منعْتني بعدكَ العزاء به يا ليتَ ما كان منك لم يَكُنِ صوّر القشيري الحزن بصورة عفوية، فجعل الحزن يتحكم به، على الرغم من محاولته السيطرة عليه، بينما كان ابن الرومي يفكر بعمق الفلاسفة الكبار في هذا الحزن، حتى إن حسنات ابنه الفقيد تحوّلت إلى مثير لأعمق أحزانه. . . ومن أورع ما نسمعه منه قوله: فإن تمنعاني الدمعَ أرجعْ إلى أسىً إذا فَتَرتْ عنه الدموعُ تلهَّبا فهناك خطر كبير عندما يحل الحزن، فقد يقضى على الحزين إن لم ينجده الدمع. فهناك آلية معقدة كل التعقيد تربط بين الحزن والدمع لتوفير نوع من العزاء الذي يبقي على الحزين حياً. فما الذي يجبر المرء على البكاء، وما الحالات التي تستدعي الدموع، حتى يرى الشاعر أنه لما أراد كف إحدى عينيه عن البكاء، وكفتا معاً؟ إنه ميدان واسع يجول فيه الخيال الأدبي بحرية كبيرة جداً. والأديب الذي يجيد إدارة الحزن في إنتاجه يقطع شوطاً كبيراً في النجاح، بل نقول إن إدارة الحزن أصعب بكثير من إدارة الحب، لأن منابع الحزن تفوق منابع الحب. وقد حيّر الحزن القدماء فظلت الميثولوجيا نفسها محتارة، فقدمت صورة غير مكتملة التحديد، لأنها لا يمكن أن تحصي ألوان الحزن، وإن أحصت، إلى حد ما، ألوان الحب. فقد جعل أفلاطون هناك تشخيصين للحب، فادعى أن هناك فينوس بنت زيوس التي تمثل الحب الأرضي، وهناك فينوس بنت أورانوس التي تمثل الحب السماوي. . . ولكن أحداً، حتى من المهتمين بالميثولوجيا، وحتى علماء النفس في العصر الحديث، لم يستطع أن يحدد الحزن، حتى إن بعضهم جعله مرضاً، بينما جعله بعضهم - مثل آنا فرويد - آلية تدافع بها الأنا عن ذاتها. وللحزن تقاليده في الحياة منذ القديم، وهي تختلف من قارة إلى قارة ومن شعب إلى آخر. اقتسام العالم في الميثولوجيا هناك خمسة عصور: الذهبي والفضي والبرونزي والبطولي والحديدي. وقد أخذ كثير من المفكرين، من قدماء ومحدثين، بهذا التقسيم أو ببعض هذا التقسيم. ترى الميثولوجيا أنه لم يكن هناك حزن ولا موت بل فرح دائم في العصور القديمة. يبدو أن نظرية مالتوس لم يكن لها تأثير، فخيرات الطبيعة وفيرة، وأعداد البشر صغيرة. ولكن في العصر البطولي، عندما هربت الأرباب من الأرض بعد أن كثر الفساد، وكانت ربة العدالة آخر من هرب، ليأسها من تحقيق هدفها، دعا زيوس أخويه الآخرين لاقتسام العالم، فاختار بوسيدون عالم المياه لثروته الكبيرة، واختار هاديس العالم السفلي، عالم الموتى الذين يدخلون وفي فم كل واحد قطعة نقود، مما يجعله من الأثرياء، وأبقيا السماء الخالية من حظ زيوس، الذي جعلها فيما بعد أقوى من المملكتين السابقتين بعد اختراع الصاعقة. العالم السماوي يحكمه زيوس، والعالم المائي يحكمه بوسيدون، والعالم السفلي يحكمه هاديس أو بلوتو. ولكن ماذا عن العالم الأرضي؟ لم يكن من نصيب أحد، بل أبعد عن القسمة، وفي هذا الإبعاد مأساته، إذ صار ميداناً يسرح ويمرح فيه كل سكان المملكتين الأخريين، أي صار ميداناً لذرف الدموع بسبب القتال الجاري فوقه بين سكان العالمين العلوي والسفلي بالإضافة إلى القتال بين أبنائه. إنه العالم الوحيد الذي يحزن ويبكي. الوظائف في العالمين الفوقي والتحتي محدودة، أما في الأرض فكثيرة، اجتمع الأرباب ووزع زيوس عليهم الأعمال التي يجب أن يقوم بها كل إله، فلابد من تنظيم الحياة البشرية تنظيماً يجعلهم لا يثورون ولا يتمردون. وهذه قائمة بأهم الوظائف التي وزعت على الأرباب، وهي غير موجودة في العالمين الآخرين: وظائف العواطف وأحوال العقل: الحب والكراهية والرغبة الجنسية والغضب والانسجام والنزاع والفرح والضحك والأمل والخوف والغضب والوهم والخداع. . . . وظائف الأحوال البشرية: الولادة والموت والنوم والأحلام واللذة والألم والصبا والشيخوخة والثروة والفقر والجوع والمرض والرخاء والشقاء والفرض المتاحة. . . وظائف الصفات: القوة والجمال والحكمة والغباء. . . وظائف السلوك: الشجاعة والتواضع والاعتدال والكبرياء والرحمة الحق والكذب والعقوق والعدالة واليمين والاحترام. وظائف الأقوال: الفصاحة والإقناع والنقد والمخاصمة والشورى واللعنات والندب والشائعة. . . وظائف الأفعال: القوة والمنافسة والنصر والعمل والنزاع والقتال والجريمة. وظائف المجتمع: السلم والحرب والحكم الصالح والقانون والعشوائية والعدالة والظلم. وزع زيوس هذه الوظائف على الأرباب، ولم يكن قادراً أن يرضي الجميع، ولكنهم رضخوا واقتنعوا آخر الأمر، لأن ترك البشر على هواهم ليس من مصلحة أي رب. وقام كل رب بوظيفته، وهذا غير متاح لهم في أي عالم آخر، لا في السماوي ولا في منزل الموتى، ولا في الحقول الإليزية. فهناك إليوس: الشفقة والرحمة والتعاطف. وإيريس: الشقاق والحسد وإثارة النزاع. ويونوميا: القانون المدني. وأوسا: الشائعة. . . الخ. أين كنت يا بنتوس؟ وزع زيوس الكثير جداً من الوظائف المتعلقة بقضايا البشر وعواطفهم، وبعد مناقشة طويلة في البانثيون رضي كل فرد بوظيفته، أو اقتنع بها، أو أقنعه ملوك الأوليمب بها. ولم يكن بنتوس حاضراً في توزيع الوظائف، ولم يسأله أحد أين كان. هل كان يلعب والألعاب لم تبتكر بعد؟ أم كان يلاحق حورية، وملاك الحب لم يستلم وظيفته بعد؟ أم كان يحارب ومارس لم يستلم خوذته؟ في أي الممالك كان، والممالك لم تكن قد وزعت؟ سأل، بعد أن علم بما جرى، عن الوظيفة التي تركت له. فأجابه زيوس بأنه لم يبق له شيء، فكاد يطير صوابه، وأدرك أنه إن لم يحتج إليه الناس طواه النسيان، ولا يعود له اسم في قائمة الأرباب. طلب أن يدير العدالة فقال زيوس إنها أسندت لأسترايا، فطلب الحرب فقال زيوس أسندت لأريس، فطلب الشقاق فرد زيوس بأنها أسندت إلى إيريس الأخت الشقيقة لأريس، وراح بنتوس يعدد الوظائف حتى وصل إلى أدناها من مساوئ السلوك، بل وصل إلى حد أن ينقل الأرواح فأجابه إنها وظيفة هرمس. حاول زيوس أن يقنعه بالبقاء بلا وظيفة، فصرخ بأنه يطلب منه الانتحار. فكر زيوس مستعيناً بميموسيني (الذاكرة) عسى أن يجد له وظيفة، فيكون له اسم على ألسنة البشر. وطال البحث عن هذه الوظيفة إلى أن قال زيوس: وجدت لك وظيفة يا بنتوس، إن بلوتو ملك مرعب ومخيف، ومملكته حزن وعويل ونواح، فلماذا لا تساعد المنكوبين والحزانى الذين يبقون على قيد الحياة؟ كيف؟ تساعدهم على البكاء فيخف حزنهم فلا يقتلهم. واضطر بنتوس إلى قبول هذه الوظيفة وصار ملك الدموع. إنها وظيفة نبيلة، ولكن اثنين اعترضا عليه وهما جيلوس (الضحك) وكوموس (العربدة) وزعما أن هذا العمل من اختصاصهما، فما يخفف الحزن مثل الضحك والعربدة. ورفض زيوس إشراكهما في هذه الوظيفة، وحصرها ببنتوس. حرص بنتوس على إبعاد هذين الرّبين عن عمله فنظم الأناشيد والأغاني التي تحض على البكاء وذرف الدموع كعلاج للحزن، وراح يدرب الجوقات ويعلمها على الحركات وطبقة الصوت التي تساعد على البكاء، فتشكلت جوقة الندابات اللواتي يرتدين ثياباً خاصة ويقمن بالنواح لمساعدة الحزانى على البكاء. وكن يرافقن حاملات القرابين إلى القبور بأناشيدهن الحزينة، ويضربن على صدورهن ويلوّحن بشعورهن ويؤدين حركات منسجمة مع أناشيد الحزن. ومنذ ذلك الوقت صارت مشاهد تقاليد بنتوس تظهر في الأدب، بل خصص القدامى مسرحيات خاصة بهذه التقاليد "حاملات القرابين" وكان الأبرع في ذلك أسخيلوس. وحتى وقت قريب كنا نرى في القرى ندابات يرتدين السواد ويرخين جدائل شعرهن على صدورهن وهن يرددن الأناشيد الحزينة، وتنفرد إحداهن بإنشاد أبيات خاصة بالفقيد، فترد عليها الندابات باللازمة، وحاملات القرابين يجهشن بالبكاء، الصامت والصاخب، إلى أن يضعن قرابينهن على مرقد الراحل. حزن فرانسوا ساغان مختلف اليوم عما كان عليه في العصور السابقة. يبدو أن بنتوس ترك وظيفته وغادر الأرض، بعد أن تحجرت قلوب البشر. صار يحرضهم فلا يستجيبون ويثيرهم فلا يبكون، صاروا بلا دموع. ظهر بنتوس في العصر البرونزي، ونحن اليوم في العصر الحديدي الذي تنبأ بروميثيوس أنه عصر نهاية هذا الجنس البشري. لم تعد هذه التقاليد تظهر في الأدب الحديث، كما كانت تظهر عند أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وإن ظهرت بعض المشاهد العابرة كما في مسرحية "الذباب" لسارتر. ولم تعد المقابر تحتل أي أهمية في الأدب الجديد الذي أخذ يظهر بعد الحركة الرومانسية. ومع ذلك ما زال السواد سائداً في هذه المناسبات، حتى لا تظهر آثار الدموع التي يثيرها بنتوس على ثياب الحزانى، وهو ما تبقى من تقاليد بنتوس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©