الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجنون.. آخر العقل

الجنون.. آخر العقل
6 أغسطس 2014 20:15
فرانشسكو جويا، الذي رسم “مأوى المجانين”، لابد أنه اختبر في حضرة ذلك الجسد المتذلّل في الفراغ، ذلك العري بين الجدران العارية، شيئاً يتصل بمعاناة معاصرة: أشرطة الزينة الرمزية، التي تكلّل الملوك المخبولين، خلّفت في مشهد كامل أجساداً متضرّعة، أجساداً غير حصينة تجرحها الأغلال والسياط، والتي تتعارض مع اهتياج الوجوه. الرجل الذي يرتدي قبعة ثلاثية الأطراف ليس مجنوناً لمجرد أنه يغطي عريه بقبعة بالية. لكن داخل هذا المجنون، وبواسطة قوته الجسدية وشبابه الوحشي، يبزغ حضور إنساني متحرّر وطليق منذ بداية الزمن. لوحة “مأوى المجانين” هي أقل اهتماماً بالجنون وبتلك الوجوه الغريبة التي يجدها المرء في لوحة أخرى لجويا بعنوان Caprichos“نزوات”، وأكثر اهتماماً بالوتيرية العالية لتلك الأجساد الجديدة التي إيماءاتها، إن هي استحضرت أحلامها، تمجّد –بشكل خاص– حريتها الخفيّة. جويا، في لوحات أخرى، يوجّه نفسه إلى جنون آخر، ليس جنون أولئك المرميّين في السجن، بل أولئك المطروحين نحو الظلام. ألا يربطنا جويا، عن طريق الذاكرة، بالعالم القديم المهمَل المليء بالسحر، بالرحلات الخيالية، بالعرّافات اللواتي يجثمن على أغصان أشجار ميتة؟ ألا يذكّرنا المسخ الذي يفشي أسراره، همساً، في أذن الراهب، بالقزم الخرافي (حارس كنوز باطن الأرض) الذي فتن قدّيس هيرونيموس بوش؟ بالنسبة لبوش أو بروجيل، هذه الأشكال يولّدها العالم نفسه. من خلال صدوع ذات روح شعرية غريبة، تبزغ من الأحجار والأعشاب، تنبجس من عواء حيوان. أما أشكال جويا فتولد من العدم: إنها لا تملك خلفية، بمعنى أن صورها الظلية مرسومة فقط على الظلمة، وأن لا شيء يمكن أن يحدّد جذورها وتخومها وطبيعتها. الغصن الذي عليه تثرثر العرّافات. . من أية شجرة نبت؟ هل هو يطير؟ نحو أي موقع، وأي بقعة؟ ليست هناك أية علاقة بالعالم. إنها مسألة “نوم العقل” التي فيها حقق جويا الصورة الأولى للغة الكونية. إنها مسألة الليل الذي ينتسب إلى الجنون الكلاسيكي، تلك الليلة الثلاثية التي غرق فيها (البطل الإغريقي) أوريستس. لكن في تلك الليلة، اتصل الإنسان بما هو كائن في أعماق ذاته، وبما هو أكثر عزلةً وتوحّداً. راهب جويا، مع ذلك المسخ الذي يلتصق بظهره واضعاً براثنه على كتفيه نافثاً لهاثه في أذنه، يبقى وحيداً: لا سرّ يُفشى. هنا فقط نجد حضور القوى الأكثر خفاءً، وفي الوقت ذاته، الأكثر حريةً: القوة التي تمزّق الأجساد، التي تتحرّر وتهاجم أعيننا. وراء ذلك الموضع، الوجوه نفسها تنحلّ وتتعفّن. إنه ليس الجنون الذي نراه في “النزوات”، والمتصل بأقنعة أصدق من حقيقة الوجوه، إنه الجنون الذي يكمن أسفل القناع، الذي يفترس الوجوه ويتلف المعالم، بحيث لا تعود هناك أعين أو أفواه، بل نظرات تنطلق من لا مكان وتحدّق في اللاشيء (كما في “سبت الساحرات”)، أو صرخات من ثقوب سوداء (كما في “حجّ القديس إيزيدور”). الجنون قد أصبح الإمكانية التي بها يلغي الفردُ العالمَ والإنسانَ معاً، وحتى تلك الصور التي تتحدى العالم وتمسخ الإنسان. إنه الملاذ الأخير، وراء الأحلام ووراء كابوس البهيمية: نهاية وبداية كل شيء. ليس لأنه وعدٌ وبشارة، كما في الغنائية الألمانية، بل لأنه غموض التشوّش الكامل والرؤيا. “معتوه” جويا الذي يصرخ ويلوي كتفه ليهرب من العدم الذي يسجنه. . هل هذا ولادة الإنسان الأول وحركته الأولى نحو الحرية، أم الانتفاضة الأخيرة للميت الأخير؟ وهذا الجنون الذي يربط الزمن ويقسمه، الذي يلوي العالم في حلبة ليلة واحدة، هذا الجنون الأجنبي بالنسبة إلى تجربة معاصريه، ألا يرسل -إلى أولئك القادرين على استقباله، إلى نيتشه وآرتو– أصوات الجنون الكلاسيكي، المسموعة بالكاد، والتي تتحوّل إلى صرخات وسعار؟ ساد وجنون الرغبة لغة المركيز دو ساد الرصينة، الحليمة، تلملم الكلمات النهائية للجنون وتمنحها، من أجل المستقبل، معنى أبعد. بين رسومات جويا المكسورة، وذلك التيار المتدفق، الذي لا يعوقه شيء، من الكلمات المتواصلة من الكتاب الأول “جوستين” إلى العاشر “جولييت”، لا نجد شيئاً مشتركاً باستثناء حركةٍ معينة تستعيد مجرى الغنائية المعاصرة، مجفّفةً مصادرها، ومعيدةً اكتشاف سر لاشيئية الجنون. داخل القصر الذي فيه سجن بطل ساد نفسه، داخل الأديرة، الغابات، الأبراج المحصنة حيث يلاحق على نحو لانهائي آلام ضحاياه، يبدو للوهلة الأولى أن الطبيعة تمارس فعلها بحرية مطلقة. هناك يكتشف الإنسان من جديد الحقيقة التي نسيها، رغم أنها كانت جليّة: أي رغبة يمكن أن تكون مضادة للطبيعة، ما دامت أنها موهوبة إلى الإنسان من قِبل الطبيعة نفسها؟ وطالما أنها ملقَنة من قِبل الطبيعة في الدرس العظيم للحياة والموت، والذي لم يكف عن تكرار نفسه في العالم؟ إن جنون الرغبة، الجرائم الجنونية، الشهوات الأكثر لامعقولية. . جميعها تكون حكمةً ورشداً نظراً لأنها جزء من نظام الطبيعة. كل ما غرسته الأخلاق والدين والمجتمع الأخرق من كوابح في الإنسان، يحيا من جديد وينتعش في قصر الجرائم. بالنسبة للمركيز ساد، ليس ثمة عودة إلى الحقل الذي يتصل بالولادة، ليس ثمة أمل في أن يصبح الرفض الأول للنظام الاجتماعي نظاماً للسعادة أعيد تأسيسه وترسيخه من خلال ديالكتيك الطبيعة التي تنكر نفسها وبالتالي تؤكد نفسها. جنون الرغبة المتوحّد والذي، بالنسبة لهيجل وفلاسفة القرن الثامن عشر، يغمر الفرد في عالم فطري يُستعاد مباشرةً في عالم اجتماعي هو، بالنسبة إلى ساد، يرمي الفرد في فراغ يهيمن على الطبيعة في غياب كلي للتناسب والوحدة، يلقيه في لا وجودية الإشباع والتي تتكرّر بشكل لانهائي. ليل الجنون هو إذن بلا حدود. هنا مصدر وتيريّة ساد العظيمة: بينما يتقدّم، تتلاشى الخلفيات والمحيط. المباغتات، الأحداث، الصلات الدرامية أو المحزنة للمشاهد. . كلها تختفي. ما كان متقلباً ومتغيّراً في روايته “جوستين” –حادثة ما تُختبر، ومن ثَم هي جديدة– تصبح في “جولييت” لعبة مطلقة وسائدة، دائماً منتصرة، بلا نقيض، كمالها هائل إلى حد أن جِدّتها يمكن أن تكون مثيلاً لذاتها. في غياب الديكور، والذي يمكن بسلاسة أن يكون ليلاً تاماً أو نهاراً كاملاً (ليس ثمة ظلال عند ساد)، نتقدّم ببطء نحو غاية ما: موت جوستين. براءتها قد استنزفت حدّ الرغبة في تعذيب هذه البراءة. لا نستطيع القول أن الجريمة لم تقهر طهارتها، علينا أن نقول –عكسياً– أن طهارتها الفطرية قد جلبتها إلى الموضع الذي جعلها تستنزف كل الوسائل المحتملة لأن تكون مادةً للجريمة. وفي هذا الموضع، حين لا تستطيع الجريمة أن تفعل شيئاً أكثر من دفعها بعيداً عن حقل سلطتها العليا، الطبيعة بدورها –التي كانت عرضة للخضوع والازدراء والانتهاك لفترة طويلة– تستسلم كلياً لذلك الذي يناقضها: الطبيعة بدورها تدخل الجنون وهناك، للحظة واحدة فقط، تسترجع سلطتها ونفوذها الكلّي. العاصفة التي تطلق لنفسها العنان، البرق الذي يهاجم جوستين ويلتهمها. إنها الطبيعة وقد أصبحت ذاتية إجرامية. هذا الموت، الذي يبدو أنه يفلت من حقل جولييت الجنوني، ينتسب على نحو أعمق إلى الطبيعة أكثر من أي شيء آخر. إن ليلة العاصفة والرعد والبرق هي علامة كافية على أن الطبيعة تعذّب نفسها وتؤذيها، وأنها قد بلغت الدرجة القصوى من الانشقاق، وفي هذا الوميض الذهبي تكشف عن سلطة عليا وسيادة، هي نفسها وشيء خارج نفسها معاً: سيادة قلب مجنون بلغ، في عزلته، تخوم العالم الذي يجرحه ويحرّضه ضد نفسه ويلغيه. بالنسبة لساد، كما بالنسبة لـ جويا، الجنون يستمر في المراقبة ليلاً، لكنه في هذه اليقظة يتحالف مع قوى جديدة. العدم الذي كانه يصبح الآن القوة القادرة على الإلغاء والمحو. الجنون والعمل الفني إن جنون تاسو، وسوداوية سويفت، وهذيان روسو. . ينتسب إلى مؤلفاتهم تماماً مثلما تنتسب هذه الأعمال إلى مؤلفيها. في النصوص، وفي حياة البشر، نجد العنف ذاته، أو المرارة ذاتها والوجع ذاته. الرؤى كانت متبادلة. اللغة والهذيان كانا متشابكيْن. لكن العمل الفني والجنون، في التجربة الكلاسيكية، كانا متحديْن بشكل أعمق في مستوى آخر: عند الموضع الذي فيه يحدّد كلٌ منهما الآخر، حيث يوجد إقليم فيه الجنون يتحدّى العمل الفني، ويختزله على نحو تهكمي، ويجعل من منظره الرمزي (الإيقوني) عالماً باثولوجياً (مرَضياً) من الهلوسات. منذ زمن هولدرلن ونرفال ازداد عدد الكتّاب والرسامين والموسيقيين الذين “استسلموا” للجنون. لكن يجب ألا نخلط أو نرتكب خطأ هنا: بين الجنون والعمل الفني لم يكن هناك أي تسوية أو تكيّف، أي مقايضة متواصلة، وأي اتصال بين اللغتين. إن تعارضهما أصبح أكثر خطورة من السابق، وتنافسهما الآن لا هوادة فيه. لعبتهما هي لعبة حياة وموت. وفان جوخ، الذي لم يلتمس الإذن من الأطباء لرسم لوحاته، عرف جيداً أن أعماله وجنونه كانا متنافرين ومتعارضين. خدعة جديدة، وانتصار جديد للجنون: العالم الذي فكّر في ضبط وتسويغ الجنون عبر علم النفس، يجب أن يسوّغ نفسه أمام الجنون، طالما أنه في صراعاته وآلامه يقيس نفسه بواسطة أعمال كتلك التي أبدعها نيتشه وفان جوخ وآرتو. لكن لا شيء يضمن للعالم أنه عن طريق آثار الجنون تلك يمكن أن يبرّر ذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©