السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات الوافدين في الإمارات

6 أغسطس 2014 20:20
في خمسة عشر فصلا، تبدأ بفصل “الوصول”، وتنتهي في “التراب” (القبر)، ومن خلال بنية سردية كلاسيكيّة صريحة، على مستوى توالي الحوادث وتسلسلها الزمني، والبناء الدرامي لشخوصها، وتطور هذه الشخوص وتحولاتها، يقدم لنا الكاتب باسم شاهين روايته الأولى “هروب”، التي يمكن اعتبارها شهادة عن حياة الوافدين العرب والأجانب في دولة الإمارات العربية المتحدة، بل شهادة عن حياة هذه الدولة في الفترة ما بين العامين1989 و2009، أي طوال عشرين عاما، بدءا من حياة قرية صغيرة نائية في الصحراء، هي بدايع، مرورا بإمارات الدولة، من أبو ظبي حتى الفجيرة، وصولا إلى انهيار أسواق الأسهم والعقارات في الدولة، بل في العالم كله، حيث انهيار البورصة في أميركا، كما تظهر على شاشات التلفزة في مقهى أندوتشي في الشارقة. ينطلق كاتب الرواية باسم شاهين، في روايته هذه، من ثقافة واسعة وعميقة على مستويين، مستوى الثقافة والموروث الشعبييّن، ومستوى الثقافة العامة في الحياة بمناحيها كافة. وهو يوظف ثقافته هذه في بناء شخوصه، من خلال شخصية لافي التي تقوم بتقديم الشخصيات الأخرى، أو تقوم باصطناعها وتسييرها والنطق باسمها. “كنا في إحدى ليالي الربع الأخير من سبتمبر 2009، وكان الجميع بانتظار نبأ عظيم سيأتي من وراء المحيطات، حيث يجتمع مجلس النواب الأميركي ومن المتوقع أن يتخذ قراره باعتماد خطة الإنقاذ التي ستحمي بعض المؤسسات المالية الكبرى من الانهيار”. ويأتي “خبر عاجل: مجلس النواب الأميركي يرفض خطة الإنقاذ”. و”خبر عاجل: انهيار مريع في بورصة وول ستريت”. وهكذا نقرأ الرواية من زواياها المختلفة. . خصوصا من الجانبين الاجتماعي والاقتصاديّ. مجتمع المغتربين قليلة، في حدود علمنا، الروايات الإماراتية والعربية التي تناولت ما يشبه مقاطع من “سيرة” الدولة، على هذا النحو، من خلال سيرة الأشخاص الوافدين وعائلاتهم وأعمالهم، بعيدا عن العنصر المحلي “المواطن”، مع استثناء وحيد تمثل في حضور واحد من أرباب العمل فقط. فيما بقية “أبطال” الرواية وشخوصها هم من الوافدين، إن لم نقل من المغتربين، لأن ثيمة الغربة والاغتراب هي إحدى الثيمات الأساسية التي يشتغل عليها كاتب هذا العمل. لكن الرواية توفّر مادة غزيرة وغنية وعميقة لدراسة “مجتمع الوافدين” هذا. هذا الاغتراب الذي تعالجه الرواية بقدر من الاستفاضة، ينطوي على أبعاد عدة، أساسها بعد حياتيّ يمتزج بالبعد الوجوديّ للإنسان، وهذا ما نجده، أكثر ما نجده، في شخصية عزّت محمود البنا (أبو العز)، منذ لحظة خروجه من الطائرة، التي حطت في مطار أبوظبي، ووقوفه على سلّمها، يتأمل في العالم الجديد الذي جاء إليه هاربا، واستقر فيه عشرين عاما، حتى لحظة مغادرته محطّما، إلى المكان الذي جاء منه، ووفاته مباشرة. رحلة عزّت هذه، التي يرويها لافي عبدالحميد، الراوي العليم بتفاصيل حياة عزت وغيره من الشخوص، هي أكثر من رحلة “هروب” من الزوجة الشرّيرة (نوران)، وأبعد من أن تكون رحلة بحث عن الرزق كما هي بالنسبة لبعض شخوص الرواية، هي رحلة “بحث عن الذات”، و”بحث في الذات”، و”بحث في العالم والحياة” أيضا، إذا أمكن التعبير. فمن خلال تجربة عزت هذه، في دولة الإمارات، نكتشف العالم وما يجري فيه من تحولات “انقلابية” مدمّرة، فما يجري هنا، يجري في العالم كله، أو هو انعكاس لما يجري في العالم. ولكتابة سيرة عزّت البنا، من خلال معطيات الرواية، ينبغي الوقوف على مجموعة من المحاور، أو المحطات، فنبدأ بالطفولة الحاشدة بالذكريات المريرة، وننتهي إلى وفاته المفاجئة بعد عودته إلى عمّان، مرورا بتجربة حياته مع زوجته نوران، وهروبه منها إلى الإمارات، ثم زواجه من رشيدة، وما تخلل ذلك من تحولات، نجاحات وفشل، صعود وهبوط، إن كان على الصعيد الماديّ أم على المستوى الرّوحاني والدينيّ حتّى. شخصية عزّت هذه، ليست سوى ضوء يستخدمه الراوي/ الكاتب لإضاءة المشهد الذي تنطوي عليه حياة الوافدين/ المغتربين، ومعاناتهم ومصائرهم، لكن هذا لا يتأتّى من دون بناء فنيّ وموضوعيّ رصين لهذه الشخصية، انطلاقا من قوتها وضعفها في آن. هذا البناء الذي يقوم على تداخل الأزمنة أحيانا، يعتمد البنية الكلاسيكية المعتادة في بناء الشخصية من “درجة الصفر”، إذا جاز اعتماد عنوان رولان بارت “الكتابة في درجة الصفر”، وصولا إلى المصير التراجيديّ الذي تنتهي إليه. بهذا المعنى، يبدو عزت شخصية مأسوية فعليّا، أي أنه أقرب إلى تلك الشخصيات التي ترى مصيرها وتمشي إليه مهما كان سوداويّا. وهنا تكمن أهمية هذا العمل الذي يستثمر الحياتي واليوميّ، ويوظفه في إطار رؤية وجودية شاملة، بصرف النظر عن التفاصيل التي قد تكون مهمة جدا للتحليل، وهي تفاصيل كثيرة، تتعلق بحياة الأفراد، حاضرهم وماضيهم، عاداتهم وتقاليدهم التي حملوها معهم، أو التي اكتسبوها خلال بنائهم مجتمع الغربة هذا. في حياة عزّت محطّتان أساسيّتان للهروب، الأولى تتمثل في هروبه من “الختان”، ليس فقط بما يمثله من آلام “العضو” المختون، بل بما سيمثّله لاحقا من دلالات دينية، حيث عزت يجمع الصلاة والخمر معا. والمحطة الثانية هروبه من زوجته نوران، التي لم تتورّع عن فضحه بين الجيران على صعيد ضعفه الجنسيّ. محطّتان تشكّلان دوافع مهمة في “هروبه” من موطنه إلى بلاد الغربة. وهنا تختلط المفاهيم، ويغيب الوطن في “المكان الجديد”. وهذا محور مركزي في الرواية، الوطن/ الغربة، أين الوطن وأين الغربة؟ شخصية إرهابية رباح عبد الحميد شخصية غير مركزية في الرواية، لكن لها وظيفتها التي تؤديها، ضمن تحولاتها، بدءا من شخص يدافع عن أخته حين أراد والده قتلها “غسلا للعار”، ثم “هرب” إلى الإمارات، وفجأة اختفى من عمله، وانتهى، كما سيظهر على شاشات التلفزة، في “جوانتانامو” متّهما بالمشاركة في تفجير بُرجَي نيويورك، هو حاضر هنا، في الرواية، شاهدا على ما سيجري بعد أيلول 2001، حاملا اسما حركيّا هو “أبو رجاء الأردني”، أي أنه فقد حتّى اسمَه الأصليّ. شخصية أخرى مهمة في الرواية، هي شخصية نوران، التي كانت دافعا أساسيا لـ”هروب” عزت، لكنها ليست كذلك وحسب، بل هي أنموذج للشخصية العربية التي حصلت على إقامة في الإمارات، ونسجت شبكة من العلاقات، حتى أصبحت كأنها دائرة علاقات عامة، تلاحق عزّت وتطارده وتسبب له الكوابيس. كما أنها أنموذج للمرأة الاستهلاكية، لا همّ لديها سوى الأسواق والعلاقات والوجاهة والاستعراض. لافي (من لفى، يلفي، كأنه شخص عابر ومقيم في آن)، شخصية لا نعرف عنها شيئا مهما، فهو موظف في شركة مهمته استقبال الوافدين وتنظيم شؤونهم العملية، لكنه مركز الرواية الذي يحرك شخوصها ويروي حوادثها، ومن هنا تأتي أهميته، وهو يقدم نفسه في صورة أساسية من خلال علاقته مع عزّت، هذه العلاقة التي تقوم الرواية عليها، فبعد رحيل عزّت ووفاته يعود لافي وحيدا، ويكتشف أنه لم يبنِ أية علاقة عميقة طوال وجوده في غربته. عودة إلى شخصية عزّت، وهو محور الرواية، يبدأ الراوي بتقديمه من حيث عقدته مع اسمه، الذي كان عزّات، ثم تحوّل إلى عزّت، والفارق بينهما، والاسم المتداول بين أصحابه وهو أبو العزّ، ويواصل رسم ملامحه الأساسية، بالتفاصيل الدقيقة، من جهة طفولته وشبابه، حتى سلوكياته اليومية في بلاد الغربة، فنجد أنفسنا حيال شخصية مركّبة وغنية ومعقدة، لكنها شخصية “الحياة” إذا أمكن التعبير، الشخصية الحالمة والواقعية في آن، لذلك هو في صعود وهبوط دائمين، بلا استقرار، وهذا هو الـ”هروب” الحقيقيّ الذي تحمله رسالة الرواية. هروب بلا معنى، بلا أفق محدد، وهذا هو مصير الكثير من شخوص الرواية. في الفصل الثاني “الخربة”، نقرأ معنى الهروب كما يلي: “عندما يكون الهروب وجهتك، لا يهمّ إن كان دربك صاعداً نحو قمة تل، أو هابطاً نحو واد مقفر، النتيجة تبقى واحدة في أغلب الأحوال، ومهما تشعبت الدروب، فإنّك لا تستطيع أن تسلك إلا مساراً واحداً في كل مرة، وعلى كل حال فالدروب لها نهايات حتمية، وفي بعض الأحيان قد تلتقي النهاية بالبداية فيبدو الهروب أشبه برقصة ديك مذبوح”. وفي فصل “مملكة الدخان”، نكتشف أحد أسباب هروب عزّت، أو هروب الناس عموما من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى، حيث يقول الراوي/ الكاتب: “البلاد التي تكشف عورتك لا يمكنها أن تكون وطنك. . والناس الذين يسعدهم النظر إلى سوءتك، ويحولون ضعفك إلى شبح يتلبسك ويقضّ مضجعك هل يكون هؤلاء أهلاً لك؟”. ويفسر ذلك في ما بعد لصديقه لافي: “خسر صاحبك معركة الرجولة في ليلة عرسه الأولى. . شاهده الجيران الذين كانوا من الخبث بأن استفسروا من نوران في اليوم التالي، وكانت هي من الخبث لدرجة أنها لم تخبرني بالعيون التي تتسلى في التفرج عليّ. . تخيّل يا لافي أي نوع من النساء تلك التي تفعل ذلك!”. وفي فصل “الحالمون”، نقرأ التساؤل التأمّليّ: “لقمة العيش التي تقف في الحلق. . وتخنق صاحبها، هل تكون لقمة عيش؟”، كما نقرأ عن “هؤلاء المرتحلين على الدروب الممتدة، حاملين معهم أحلاماً محلّقة في السماء. . يأتون بتوقّعات تشبه أحلام اليقظة. بعضهم تتلبّسه الكآبة ما إن يخرج من باب الطائرة، وآخرون يبتسمون لرطوبة الهواء، كمن يتنسّم عبير الحرية بعد حبس طويل”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©