السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خزّافو جلفار

خزّافو جلفار
15 نوفمبر 2017 19:12
كتابة وتصوير: لولوة المنصوري منذ البُعد والبراءة وحتى بعد سنوات الغياب والجراد والجوع، وقيامة النفط والحضارة والأمان، تلوّح يد الصانع من تحت المخازن وحجارة المقابر والأفران، يلوّح الصانع بيدٍ من خزف، وتنزلق أمشاج الطين تكسو السهل والوادي والأكواخ الحجرية في (شمل)، أقصى شمال الإمارات. منذ تاريخ أبعد من أم النار، التمّ شمل الماء والطين والنار، وصهلت الأرض بالهواء، فتحت اليد شهيتها للتشكيل والفخار والرسم والفنون.. كانت الأرض تنحت إنسانها في سهول شمل الخصبة، وكأن الأرض البريئة هناك تنبت الفخار والألوان والزخرفة وتمرن إنسانها على إنتاج الإبداع وتجسيد الجمال. فلا شيء سوى الطين يحتمل أمراض الزمن، يتماسك في حفرة اللهب ليتكوّن، يخزن الينابيع بدرجات يتحملها الجسد الإنساني. وتكون فصول القيظ والعطش في قسوة مناخ صحراوي دليلاً ومحرّضاً للإنسان الإماراتي الأول على صنع جرار الفخار، كسبيل أوليّ لتخزين الماء وحفظه بارداً في جوف الطين المصقول. في شمل، شرق إمارة رأس الخيمة، الأخضر يملك السهل الخصيب والوادي، وسفح جبل الحاير بوادي حقيل ينفتح على أطلال المحارق وبيوت الفخار وآثار الأفران الحجرية والمراعي وخزّانات المياه العذبة ودخان الكهوف الدافئة وحجارة المدافن والأسوار والمقابر القديمة، وبين شمل وجلفار وجدوا طفولتهم، وألعاب الطين والحجر تسير على هذا السهل، على مدّ من المقابر القديمة جداً والفخار بين الخليج العربي وجبال الحجر، نموّهم الطبيعي كان يتقاطع مع مسار الذئاب والضواري، ومسارب روائح الأرغفة الساخنة في تنانير الجارات المترحلات من مسندم، وكان الأهل يسكنون في بيوت ناشزة على المقابر، يقع إحداها في سهل واسع، سهل من الأصداف والمحار، ينتصف أكبر ثنائي وجودي متلاحم في الوطن (البحر والجبل). حقول الطين الغرين والطين المترسب أزمنة في السهل، قد خصّب الأرض ونشّط بدو الجبال في ابتداع صنعة الخزف والفخار. ظلام مألوف يسقط هناك على السفح والوديان، يستدير عند منعطف السهل، ظلام غيوم تتقاطر مشحونة بالسيول وجنّة التحولات والخصوبة، يتصاعد الماء من بخار المقابر القديمة ومناجم النحاس والطين، وتسيل العروق المائية والينابيع الصغيرة من برج امرأة نبيلة، من سلالة ملوك اليمن، كانت تصعد هناك لتستريح من مهمة التحكم بالعابرين في المضيق. غيوم الشتاء تغلق عيون الطريق، ويفتح المطر جنون الوادي، تنحسر الشمس هاربة بالصباح نحو جبال ما وراء البحر. ويولدُ الطين بين الظن واليقين، تنكمش مفاصله حين يهاجر الشتاء بأمطاره، ويحل الصيف ثم الخريف، يتسارع الجبليون للخروج إلى السفوح والوادي، لتبدأ عملية البحث عن أنواع الطين الثريّ المهيّج في الشمس، ونخله بالمنخل ليصير ناعماً متحضّراً للدعك والتشكيل. * الطين الأحمر: من السهولة العثور عليه، إذ يوجد على السطح وأحياناً مختبئاً بين الصخور الرملية. * الطين الأخضر: نادر الوجود، والحاذق يعرف أنه يمتزج بين التراب والصخور الجبلية. * الطين الأصفر المائل إلى البياض: طين قوي يمتزج بالصخور الجبلية. استُخدم كل نوع من الطين في صناعة أوان ذات أغراض مميزة، وقد يخلط الطين الأحمر بالأصفر بالأخضر وفق تقدير محسوب، ويستخدم الماء العذب في العجن، ثم تتم عملية دهس الطين بالأقدام، ويدخل الصانع في قبو مكتظ بالتماثيل والألواح وأدوات الحفر والنحت، لتبدأ رحلته الدائرية الممتعة في الإناء الذي يدور بين راحتي يديه، في صوت التشكيل والبرم والقطع والنحت، تلك الرحلة الدرويشية تستدعي انغماساً روحانياً بالكتلة التي بين أنامله، وانسجاماً مع النداء السريّ الغامض في قلب الكتلة، حيث طقوس الوحدة التي تستوجب الإصغاء الداخلي، في عمق رنة التكوين ما بين تزاوج الماء والطين، وكأن الصانع في محراب صلاته، في غربته اللذيذة النابعة من ألفته المتجانسة مع عناصر تكوينه الأزلي، يستذكر حكايات الأزمنة المنسية، أسطورة إيقاظه من أبخرة الطين ورعشة الماء وحركة النفخ الإلهي العظيم. حقول الطين الطافحة في وادي حقيل كان لها شأن عظيم في صناعة الفخار المحلية في جلفار، تلك الصناعة التي حركت ازدهار المنطقة وكانت مصدر رزق وكسب وإنتاج السكان المحليين. كانت العائلة الجلفارية تتشارك في صناعة الفخار، يأتي الأب بالطين ويدقه وينخله، وقبل أن يشكّل الأواني يندفع الأطفال في قفز مرح على الطين، ليكتسب نعومة ومتانة، ثم تتولى نساء البيت عملية النقش على الأواني وزخرفتها بالخطوط المتموجة وصولاً إلى الأقمار والشموس والزخارف الفلكية والنباتية. كبرت أصابع أطفال جلفار مع دعك الطين، وتماسكت أقدامهم العريضة كلما اشتد الدهس المرح على العجين، كان ذلك التقافز من أجمل مراحل الشغب واللعب الطفولي هروباً من صرامة الأعمال الجبلية الأخرى، ولد الطفل الجلفاري القديم في الجبال بين سواقي الماء وأفران الفخّار، وُلد من العظام، وُلِد هارباً هروباً اختيارياً إلى البحر والقلاع والأودية، يجمع الأصداف ويشكّل قلائد الضوء، أو يحفر الطين بأظافره ويكوّن وجهه الخاص. ولد ابن جلفار من الفخار، في العاصفة ما بين جبل التشكيل وأحجار الموانئ، ولد وعيناه مفتوحتان على البحار البعيدة والأوردة النافرة في السماء، واتسعت مخيلته باتساع اللهفة والاكتشاف والأحلام. يتساءلون كثيراً عن السرّ الذي ميز أبناء جلفار على مدى تعاقب الأزمنة، لقد خرجوا من الكهوف والمقابر والمحار، طرقوا أبواب الظلام والسيول دون خوف، تبعوا آثار الموتى، وحين خرج لهم الوباء والجراد والشّقر الحمر، اصطفوا كقوارب نجاة، وهاجموه بوابل من الصلاة والصبر والمراثي والصدور العارية، نازلوا الموت حتى الرّمق الأخير، وحتى سقوط آخر الرّماة على تلك الصخور التي طُبعَت عليها دماؤهم، وكانت دماؤهم فخراً لطلاء فُخّارنا وأعلام الوطن. مقبرة الفخار «أم النّار» بين ملوحة الخليج العربي الذي ضمّ رفات حضارة العبيد، وخصوبة شمل في جبال الحجر، التي خبأت تحت صخورها وحدائق نخيلها الوارفة كنوز مقبرة أم النار، كانت لعبتنا الطبيعية هي حجارة وفخار ذلك القبر الدائري الضخم المتناثر، وكيف لنا حينها أن ندري أنه من أكبر القبور التي عثر عليها في الإمارات ! هل كان مقبرة جماعية لأسرة واحدة كبيرة من أم النار، أم لقبيلة كاملة؟ تعود المقبرة في حسابات الآثاريين إلى 4500ق.م، استمر دفن الموتى لأكثر من 100 عام في ثلاثة أقبية أسرية، تم تقسيمها باستخدام جدران داخلية إلى العديد من حجرات الدفن. قيل: عند امتلاء الأماكن المعدة للدفن كان يتم حرق الجثمان خارج القبر ثم إعادة دفنه في وقت لاحق في الجزء العلوي من القبر، وتعمل البلاطات الحجرية كأرفف يتم فيها حفظ رفات الجثث المحترقة من أجل ترك فراغ لدفن جديد على مستوى سطح الأرض، وبفضل طقوس الدفن المعقدة هذه أمكن استخدام القبر لأكثر من 100 عام وهو ما يفسر العدد الكبير من حالات الدفن، 430 حالة دفن سنوياً. دوّن الآثاريون في تقاريرهم البحثية عن الطريقة الأساسية في دفن الموتى في مدفن أم النار بمنطقة شمل (شمال شرق رأس الخيمة)، متمثلة بوضع الجثمان منثنياً مع أمتعة المتوفى الشخصية مثل الفخار والمجوهرات والأسلحة والأواني الحجرية وكانت معظم هذه الأدوات محلية الصنع، وقد أبانت البضائع المستوردة من مناطق بعيدة مثل بلاد ما وراء النهرين وإيران والبحرين ووادي السند عن حجم التجارة البحرية الكبير في الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتم العثور على حالة فريدة وهي دفن امرأة مع كلبها الأليف. طبقات من الحجارة المصقولة والمربعة الناعمة، مقطعة من الجير الأبيض، حجارة لامعة وبالغة النعومة أعطت المقبرة شكل برج أبيض كبير، ذي بلاطات مُثبتة بعناية كأساس لبناء الجدار الخارجي الدائري للمقبرة، السطح المستوي مغلق بالبلاط ومزوّد بمزاريب حجرية لتجميع وتصريف مياه الأمطار. بناء هندسي احترافي منتظم، وديكورات مثلت طقوس الدفن وتراتيل الموت، كرّست عبر مرور السنوات فكرة تقديس الفناء، واعتباره رحلة انتقال من دار إلى دار، وعززت مستوى الأناقة الروحية التي حظيت بها الشعوب القديمة لهذه المنطقة. ماكنا ندري ما تحمله مقبرة أم النّار من مكانة أثرية، كان همنا فقط أنها مقبرة تنضح بالفخار في سهل شمل، وكأن الفخار لبشر ذوي أجساد فخارية، دُفنوا في عالمها السفلي. هكذا كنا نتخيّل أجساد الموتى، أولم يخلق الله الإنسان من صلصال كالفخار، وكان قبل حادثة النفخ الإلهي قد مرّ عليه حين من الدهر كان فيه فخاراً. ها هو يعود جامداً متصلباً تحت الأرض بعدما غادرته الروح، تفتك به حرارة القبر، فينفجر من ثقل الموت، متناثراً على السطح، تحت وطأة أقدام الحياة. أفران وادي حقيل كانت ولازالت رؤية شظايا فخار الإنسان القديم حول المقبرة أمرا بديهيا اعتياديا. حين يأتي المطر وتسيل الجبال بالأودية، تبرز على السهوب أطلال وبيوت الفخار الكثيرة والمحاجر، وكأن في السفح هناك متحف قد تم تدميره على يد الطبيعة، فانجرفت من أبوابه الكنوز والفخاريات والخزفيات وصحون الموتى والقدور والبرم والتنانير والجرار. انجرفت يد الخزفي الأول من بقعة مجهولة في السماء، تحرث الأرض وتهيج ما طمرته الحجارة والرمال، وتؤكد الحقيقة الدامغة، والهوية الناصعة للإماراتي القديم ومدى براعة يد خزّافي جلفار القدماء، حين اتخذوا من الفن والنحت والحفر ونخل الطين صنعة ومنهجاً ومهنة متوارثة منذ ما يقارب 6 آلاف إلى 7 آلاف سنة قبل الميلاد، حسب معثورات البعثة الألمانية، والتي أكدت على أن تلك الفخاريات والأفران تعد من أقدم الآثار في منطقة الخليج العربي. وأن أفران شمل ووادي حقيل في إمارة رأس الخيمة هي الأفران الرئيسية الأولى لصناعة الفخار في الإمارات عبر التاريخ. هنالك العديد من مواقع أفران الفخار في جلفار، إلا أن منطقة شمل اعتبرت من أشهر المواقع لإنتاج الفخار، وقد دام استعمال هذه الأفران حتى بداية السبعينات، عندما انتقل السكان من موقع الأفران إلى المنازل الشعبية التي بنتها لهم دولة الاتحاد، إضافة إلى اتجاه الأبناء للعمل في الدوائر الحكومية. ثم عثر على أوان فخارية في مدافن (غليلة) يعود تاريخها إلى العصر الحديدي (500-900 ق.م). يدوّن عالم الآثار جون هانسمان في تقريره عن فخاريات جلفار رحلة بحثه الأثري التي تمت في مواقع تنانير الفخار قرب قرية (برامة) الواقعة على بعد ستة كيلومترات شمال شرق المطاف، حيث اكتشف هناك بقايا مكسرة من الفخار والخزف والمطلية بالطلاء الأحمر الداكن فوق قميص تحتي أصفر شاحب، تشبه تلك التي تم العثور وحين اندفعت جرافة عامل يسعى لتسوية الأرض في منطقة (خت)، انكشفت الأرض عن قطع كبيرة لفخاريات وقطع مكسرة لأوان زجاجية جُلبت من الصين والعراق وميناء سيراف بفارس، وفق حركة تجارية نشطت قبل الإسلام ما بين جلفار القديمة والموانئ العظيمة الرئيسية للعالم الخارجي. فخار جلفار وأزمنة التطور بدأت بزخارف ذات خطوط منحنية أو متموجة، مثل أواني السلطانيات التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الرابع عشر، وبعضها مخزّف بسماكة وذات حواف مقلوبة ومسطحة، والسطح الداخلي للحواف زخرف بشريطين أفقيين من خطوط منحنية رسمت بالطلاء الأحمر الداكن فوق قميص تحتي أصفر شاحب وتحت الحافة من الداخل أشرطة مشابهة من الزخرفة، وهناك خطان متموجان رسما عمودياً من بداية الشريط السفلي ومتوازيان على السطح الخارجي للسلطانية. ثم انتقلت هذه الزخرفة من الخزفيات المحلية إلى خطوط مستقيمة تحل محل الخطوط المتموجة التقليدية مثل أواني القرن الخامس عشر. ويعتقد جون هانسمان أن هذا التطور حدث نتيجة نقل الخزافين في جلفار لزخارف الخط المستقيم من الأواني القادمة من بلاد فارس. ثم حدثت تعديلات في شكل وزخرفة السلطانيات الخزفية، وذلك في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، ويرجع ذلك إلى توسع حركة التجارة في الخليج مع قدوم البرتغاليين وسفن التجارة الأوروبية. فلقد أصبحت الجرار صغيرة عن ذي قبل، ولها مقابض، تحمل بها وتستعمل في تعليق الآنية. ثم ظهرت تطورات أخرى على فكرة التعريشة من خلال زخرفة سلطانية ترجع إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، عُثر عليها في المطاف. إذ يتألف التصميم من سلسلة إطارات مستطيلة الشكل، ملئت بالتناوب بصفوف من خطوط عمودية ومتوازية. وبها ألواح من الخطوط الأفقية المتوازية، وقد زخرف السطح الداخلي تحت الحافة مباشرة بخطوط أفقية. وفي المطاف أيضاً عُثر على جرار ضخمة ذات شكل بصلي، وحواف مستوية مضلعة أو مدعمة. ويبدو الحجم مائلاً إلى اللون البني والأحمر، وهو ذو بنية معتدلة أو قاسية، وقميص أصفر شاحب تحتي على هذه النماذج، أما الزخرفة فعبارة عن خطوط عمودية تركت بينها فراغات أسفل السطح الخارجي، وملئت الفراغات بسلسلة خطوط أفقية متوازية. أما سطح الحافة فقد زخرف بسلسلة خطوط قصيرة متوازية تمتد من الداخل حتى الطرف الخارجي. ويعتقد أن هذا الطراز من اللقى، قد ظهر في نهاية القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر الميلادي. في القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر تمكن خزافو جلفار من إنتاج أباريق بمنظر جذاب، مثل الشرابات الدائرية والكرزات المعلقة من سيقانها. عثر في (برج بوشاق) بمدينة رأس الخيمة على إبريق سكب ذي طراز متطور، ثم صنعت أباريق ذات ميزاب عثر منها في المطاف، وهي تعود إلى القرن السابع عشر. وفي فترة متأخرة أخذ الخزافون يرسمون نماذج زخرفية بالطلاء الأحمر على خزفيات الطبخ المتأخرة، بخلاف قدور الطبخ الجلفارية المبكرة غير المزخرفة. وقد عثر على قدر طبخ محلي في حصن ضاية في شمال شرق موقع جلفار، ويذكر هانسمان في تقريره أن هناك بعض المصنوعات القليلة التي عثر عليها جاءت من جنوب غرب الهند مثل مهرشترا وكيرالا. أما نماذج المثلث والمربع التي اعتمدها الخزافون في جلفار خلال القرن التاسع عشر، فقد نُقِلت عن أوان جلبها البحارة من هناك. استمرت صناعة الفخار في جلفار حتى أوائل القرن العشرين، ثم اختفت هذه المهنة التقليدية تماماً من المنطقة، واختفت المحارق المحفورة في الأرض مثلما اختفت بيوت الفخار التي كان يستعملها صانعو الفخار للتخزين والسكن، إلى أن قام أمير شمل السيد (أحمد بالهون) رحمه الله بإحياء صناعة أجداده، وذلك عندما فتح أول مصنع للفخار، في تاريخ 1987م، وبلغ عدد العاملين في المصنع أربعة أشخاص فقط. وكانت طاقته الإنتاجية تصل إلى 50 أو 60 أيناء يصنع يومياً. في حين أن مدة الصناعة كانت قديماً تستنزف صبراً أكبر وتستغرق ثماني ساعات، وعادة ما تكون بعد الظهر، وتستمر إلى قُبيل الغروب. أما البناء والحرق فقد كان يستغرق 18 يوماً أو 15 يوماً، أو يوماً واحداً حسب أحجام المصنوعات. يمارس العمل في المصنع القديم شخصان، أحدهما يأتي بالطين ويدقه وينخله، والثاني يتولى صنع الأواني. وبلغ عدد الأفران التي كانت تستعمل حتى توقفت هذه المهنة بوادي حقيل نحو خمسة عشر فرناً، كما توجد أفران أخرى قديمة ومندثرة في منطقة البرامة. تبنى الأفران من صخور الجبل، ويتراوح عمق الفرن بين 5-6 أقدام. أما ورش الفخار اليوم باتت تعتمد على عمال آسيويين، وتنتشر معظمها حول مسافي وثوبان والسيجي، كما أن الطين الذي يشكل منه الجرار مستورد في معظمه من إيران والهند، أما تصاميم الزخرفة والتزيين فمن المؤسف أنها باتت غير محلية، وأغلبها يخلو من لمسة الإبداع وروح الصانع، مزخرف على عجالة، بغية التسليع وتحريك البيع. وهكذا، ودونما أن نشعر، اندثر الفن الأصيل للفخار، وغابت أصابع الطين بعد غياب خزّافي جلفار، وانطفاء روح الصانع الأول. اختفت ثم أحياها «بالهون» استمرت صناعة الفخار في جلفار حتى أوائل القرن العشرين ثم اختفت هذه المهنة التقليدية تماماً من المنطقة، واختفت المحارق المحفورة في الأرض مثلما اختفت بيوت الفخار التي كان يستعملها صانعو الفخار للتخزين والسكن، إلى أن قام أمير شمل السيد أحمد بالهون «رحمه الله» بإحياء صناعة أجداده، وذلك عندما فتح أول مصنع للفخار، في تاريخ 1987م، وبلغ عدد العاملين في المصنع أربعة أشخاص فقط. وكانت طاقته الإنتاجية تصل إلى 50 أو 60 إناء تصنع يومياً. في حين أن مدة الصناعة كانت قديماً تستنزف صبراً أكبر وتستغرق ثماني ساعات، وعادة ما تكون بعد الظهر، وتستمر إلى قُبيل الغروب. أما البناء والحرق فقد كان يستغرق 18 يوماً أو 15 يوماً، أو يوماً واحداً حسب أحجام المصنوعات. يمارس العمل في المصنع القديم شخصان، أحدهما يأتي بالطين ويدقه وينخله، والثاني يتولى صنع الأواني. أبناء جلفار.. دماؤهم فخر وأعلام يتساءلون كثيراً عن السرّ الذي ميز أبناء جلفار على مدى تعاقب الأزمنة، لقد خرجوا من الكهوف والمقابر والمحار، طرقوا أبواب الظلام والسيول من دون خوف، تبعوا آثار الموتى، وحين خرج لهم الوباء والجراد والشّقر الحمر، اصطفوا كقوارب نجاة، وهاجموه بوابل من الصلاة والصبر والمراثي والصدور العارية، نازلوا الموت حتى الرّمق الأخير، وحتى سقوط آخر الرّماة على تلك الصخور التي طُبعَت عليها دماؤهم، وكانت دماؤهم فخراً لطلاء فُخّارنا وأعلام الوطن. أطفال جلفار.. ولدوا من عظام وفخّار كبرت أصابع أطفال جلفار مع دعك الطين، وتماسكت أقدامهم العريضة كلما اشتد الدهس المرح على العجين، كان ذلك التقافز من أجمل مراحل الشغب واللعب الطفولي، هروباً من صرامة الأعمال الجبلية الأخرى، ولد الطفل الجلفاري القديم في الجبال بين سواقي الماء وأفران الفخّار، وُلد من العظام، وُلِد هارباً هروباً اختيارياً إلى البحر والقلاع والأودية، يجمع الأصداف ويشكّل قلائد الضوء، أو يحفر الطين بأظافره ويكوّن وجهه الخاص. ولد ابن جلفار من الفخار، في العاصفة ما بين جبل التشكيل وأحجار الموانئ، ولد وعيناه مفتوحتان على البحار البعيدة والأوردة النافرة في السماء، واتسعت مخيلته باتساع اللهفة والاكتشاف والأحلام. شهادة ألمانية تقول معثورات البعثة الألمانية إن أفران شمل ووادي حقيل في إمارة رأس الخيمة هي الأفران الرئيسية الأولى لصناعة الفخار في الإمارات عبر التاريخ. دفن معقَّد عند امتلاء الأماكن المعدة للدفن كان يتم حرق الجثمان خارج القبر ثم إعادة دفنه في وقت لاحق في الجزء العلوي من القبر، وتعمل البلاطات الحجرية كأرفف يتم فيها حفظ رفات الجثث المحترقة من أجل ترك فراغ لدفن جديد على مستوى سطح الأرض، وبفضل طقوس الدفن المعقدة هذه أمكن استخدام القبر لأكثر من 100 عام، وهو ما يفسر العدد الكبير من حالات الدفن، 430 حالة دفن سنوياً. جنّة التحولات ظلام مألوف يسقط هناك على السفح والوديان، يستدير عند منعطف السهل، ظلام غيوم تتقاطر مشحونة بالسيول وجنّة التحولات والخصوبة، يتصاعد الماء من بخار المقابر القديمة ومناجم النحاس والطين، وتسيل العروق المائية والينابيع الصغيرة من برج امرأة نبيلة، من سلالة ملوك اليمن، كانت تصعد هناك لتستريح من مهمة التحكم بالعابرين في المضيق. ......................................... مصادر ومراجع: 1- تقرير البعثة الألمانية للتنقيب عن الآثار في منطقة شمل وضاية، دائرة الآثار والمتاحف برأس الخيمة. 2- تقرير أثري جون هانسمان، جلفار ميناء عربي بين القرنين 14-18، دائرة الآثار والمتاحف برأس الخيمة. 3- جلفار عبر التاريخ/‏‏‏ د. عبد الله الطابور/‏‏‏ 2003/‏‏‏ صناعة الفخار ص: 419 إلى 430 .
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©