الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ماذا فعلت الثورات بأبنائها؟

ماذا فعلت الثورات بأبنائها؟
6 أغسطس 2014 21:55
شهدت القرون السابقة للقرن العشرين ظهور العديد من اليوتوبيات. لعلّ أشهرها تلك التي ابتكرها البريطاني توماس مور في القرن السادس عشر، وتلك التي ولّدها ما سمّي بـ»عصر الأنوار»، والثورة الفرنسيّة التي اطاحت بالنظام الملكي في عام 1789. ويبدو القرن العشرون بعد رحيله كما لو أنه هَشّم من خلال العواصف السياسية الهوجاء، والأحداث المأساوية، والحروب المدمّرة التي طبعته، كلّ الآمال والأحلام لدى الشعوب والأفراد على حدّ السّواء. فالشيوعيّة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي بدت لأهل السياسة والفكر كما لو أنها قادرة على محو الفروق الطبقية، وإرساء العدالة الاجتماعيّة، وبناء مجتمع سليم من الأمراض والأزمات، تحوّلت عند تطبيقها الى كوابيس مرعبة. وكانت النتيجة أنظمة مستبدّة، ومعسكرات ومحتشدات رهيبة، ومجازر فظيعة، وتزويرا للتاريخ، وانتهاكات بالجملة لحرية الأفراد والجماعات. لنتذكر ستالين وما فعله بالمعارضين لنظامه في سيبيريا. ولنتذكر أيضا ماو تسي تونغ وثورته الثقافيّة التي كان ضحاياها يعدّون بالملايين. ولا يفوتنا ان نشير الى كيم ايل سونغ الذي ترك شعبا يتسوّل لقمة الأرز، والى بول بوت زعيم «الخمير الحمر» الذين قتلوا مليونين من أبناء شعبهم، معيدين بلادهم قرونا الى الوراء. كلّ هذا تمّ باسم «الثورة»! ولعل دستويفسكي كان أوّل من لمّح الى أن الاشتراكية التي فتن بها في سنوات شبابه، وبسبب الدفاع عنها كاد أن يعدم من قبل النظام القيصري، ليست فقط صعبة التحقيق، وإنما قد تؤدّي أيضا الى كوارث ومآس على مستويات متعدّدة. وفي روايته الشهيرة «الممسوسون»، يصوّر الثوريين الحالمين بـ»مجتمع عادل»، خال من الفروق الطبقيّة كما لو أنهم مجموعة من القتلة المحترفين، عديمي الضمير. فهم يطلقون كلاما جميلا في الجلسات غير أنهم لا يتردّدون في قتل أحد رفاقهم بدم بارد، وإلقاء جثته في مستنقع بعد أن يكتشفوا انه يرغب في الانفصال عنهم، مشككا في أفكارهم وفي نزاهتهم. وخلال القرن العشرين ظهرت العديد من الروايات المضادّة للشيوعية. وفي كتابه: «هيليوبوليس» يقول الكاتب الألماني ارنست يونغر بأن منظري اليوتوبيات يقدّمون النور الى الجماهير، ثم يأتي المطبقون للنظريّات، وبأفعالهم يحّولون النور الى ظلام، والأحلام الى هشيم. وفي روايته الشهيرة: «1984»، وأيضا في روايته الأخرى «مزرعة الحيوانات»، ينتقد الكاتب البريطاني جورج أورويل الأنظمة الشيوعية المتسلطة. ومن خلال شخصيّة: «البيغ بروذر»، انتقد الشيوعيين المتسلطين والمستبدين. وقبل ذلك، وتحديدا عام 1931، كان البريطاني الآخر الدوس هكسلي قد انتقد اليوتوبيات التي تروّجها العلوم الحديثة. وقد فعل ذلك من خلال روايته: «أروع العوالم». وهو يرى أن العلم الذي تصور الكثيرون أنه قادر على توفير السعادة للبشرية، والتخفيف من أوجاعها، ومن محنها، تحول عند الأنظة الاستبداية الى وسيلة لقهر الشعوب، ومراقبتها. وعن الكتب التي عارضت اليوتوبيات التي عرفها القرن العشرون، وعرّت زيفها وأكاذيبها، يقول الناقد الفرنسي ايريك فاي: «كل هذه الكتب تبدو كما لو انها تعكس ذلك الانحراف التراجيدي للطبقة الحاكمة التي يطلق أفلاطون على عناصرها اسم «الحراس». فهي تبرز ثورات مجدية وغير مجدية. مجسّدة صورة بروموثيوس الذي يقاوم العنف والبربريّة. ورغم هذه الوجه الانساني، فإنه بإمكاننا أن نقول بأن هذه الكتب أعادت الحياة الى جحيم دانتي أو فيرجيل حتى لو أن الذّنب والجرم يظّلان في قلب هذا الكون الحديث. إن جحيم القرن العشرين لم يعد تحت الأرض. إنه مسكون بالأحياء، ويمتدّ على وجه الأرض. وهو عكس «الجنّة الضّائعة». وهو «جحيم أرضي» ابتطره الإنسان. وخلال القرن العشرين، شهد العالم العربي موت العديد من اليوتوبيات. فالاستقلالات الوطنيّة التي كانت الشعوب العربية تأمل ان تحقّق لها الكرامة والعزة والعدالة الاجتماعية، تمّت مصادرتها من قبل انظمة فاسدة ومستبدة حوّلت العالم العربي الى سجن رهيب. وأما حلم «الوحدة العربيّة» فقد تبخّر من دون أن ينجز ولو القليل منه. بل بات أداة لزرع الكراهية والتباغض بين الشعوب العربيّة مهدرا طاقاتها في حروب قذرة. ولأن الحاضر كما المستقبل أصبحا مقفرين من أيّ أمل أو حلم جميل، فإن جزءا كبيرا من العرب ارتدوا الى ماضيهم البعيد باحثين فيه عن ما يمكنهم من الخلاص من محنهم وأوجاعهم. والآن ظهرت يوتوبيا جديدة. يوتوبيا الجهاد المقدس المبشر لأصحابه والراغبين فيه بالجنة. وتحت تأثير هذه اليوتوبيا تقوم جماعات أصولية بتكفير الناس، وقتلهم وذبحهم، وترويعهم، وسلب أملاكهم، وطردهم من بيوتهم وأوطانهم. وبذلك تحول ما سمّي بـ»الربيع العربي» الى جحيم أرضي لا يدري أحد متى وكيف ستكون نهايته!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©