الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدمان وخراب بيوت

إدمان وخراب بيوت
21 يوليو 2011 19:30
نورا محمد (القاهرة) - رفض زوجي وإخوته أن يعيشوا في جلباب أبيهم ولم يواصلوا عمله في مهنة تجارة الماشية والجزارة، رغم أنها كانت تلبي متطلبات أسرتهم التي كبرت ونمت وزاد عدد أفرادها، كما أنهم كانوا في رغد إذ أن حماي كان يفتتح الذبيحة بانتقاء أفضل القطع منها ويرسلها إلى زوجته لتعد لهم الطعام حتى يكون جاهزاً فور الانتهاء من عملهم علاوة على أنه كان يستأثر بالأكباد والكلى والقلوب، غير أن أبنائه تمردوا على ذلك لأن المهنة لم تعد كافية لتحقيق تقدم في حياتهم بعد أن تزوج ثلاثة أولاد منهم، ثم أضفت أنا إليهم زوجة لأخيهم الأوسط، وبعد أربع سنوات تزوج الأبناء الثلاثة الصغار والفتاة الوحيدة، أصبحنا عائلة يضمنا البيت الكبير لكننا نفتقد الخصوصية إلا في غرفة كل منا الخاصة. زوجات الأبناء أعلنّ التمرد الخفي على هذه الحياة المغلقة الخالية من الحرية كما أنها أصبحت صعبة مع هذا العدد الكبير ونحن نعد كميات من الطعام كأننا في مطعم، ومع ذلك لم يكن هناك أي ارتياح حتى نقلت الزوجات ذلك الإحساس لأزواجهن، غير أن قبضة حماي القوية كانت تحول دون السماح لأي منهم أن يجرؤ على البوح بما تقوله زوجته أو يدور بذهنه، خاصة وأن الرجل رغم أنه بلغ الستين فإنه ما زال يعمل أكثر من أولاده وهم في عنفوان الشباب إذ يستيقظ مبكراً ربما عند الفجر كل يوم ويهتم بالماشية التي لديه فيطعمها ويسقيها بنفسه وتعاونه زوجته أو يتوجه إلى السوق لمزاولة تجارته أو الاستعداد للذبح وفي كل الأحوال يصحبه بعض بنيه. لكن تعرض الرجل لانكسار كبير عندما رحلت زوجته فجأة بعد أزمة قلبية، فقصم رحيلها ظهره وحزن عليها حزناً كبيراً، وكان له كل الحق وأن كان أبناؤه وزوجاتهم استطاعوا أن يحتووه ويحيطوا به ويدللوه مثل الطفل الذي فقد أمه حتى تخلص من تلك الأزمة غير أنه لم تعد له نفس الرغبة والحماس في العمل وأوكل معظم أعماله لأبنائه الذين لم يكونوا على شاكلته وترك لهم اختيار ما يعن لهم وما يريدون. كان اختيار الأبناء غريباً لم يكن متوقعاً، ولم يخطر على بال أحد ولم يكن مخططاً له، فقد هاجروا جميعاً إلى المدينة واستأجروا بيتاً كبيراً مثل الذي كنا نقيم فيه ولم تختلف الحال كثيراً فلم يكن لكل واحد وزوجته إلا غرفة حتى من كان له أولاد، وحولوا نشاطهم إلى التجارة في أشياء مختلفة سواء كانوا يفهمون في هذا العمل أم لا، ولذلك لم تكن أرباحهم كبيرة بالقدر الذي تدره التجارة، واختارني حماي لأكون الراعية له لأنني أمت له بصلة قرابة، فكنت أغسل له ملابسه واهتم به مثل أبي تماماً، ولم أقصر نحوه يوماً حتى أنني تحملت بعض تجاوزاته وسبابه لي من قبيل أنه والد زوجي ومن قبيل القرابة وكبر السن والتمس له الأعذار بعد وفاة زوجته، لكن ذلك جعل أبناءه الآخرين يتمادون ويتجرأون ويحاولون تقليده ويحاولون أن يسبوني، لكنني لم أتقبل ذلك ورفضته بشده لأنه أدى في نفس الوقت إلى إحساس زوجاتهم بالتعالي عليَّ، وللحقيقة وضع حماي النقاط فوق الحروف من البداية ورفض كل تصرفاتهم هذه وجعلهم يتراجعون إلى حدودهم، فكان ذلك بمثابة نصر لي على الجميع. كان من الطبيعي أن يبدأ كل واحد بالاهتمام بأسرته الصغيرة واحتياجاتها بعد أن أصبح لكل منهم أبناء، لكن الحقيقة أننا جميعاً لم نتغير في التفافنا حول الرجل والاهتمام به ولم يخرج من هذه الدائرة أبداً، وقد كانت سعادته لا توصف وهو يجلس بين أولاده وزوجاتهم وأحفاده وهم يلعبون حوله، لا يفرقنا إلا النوم أو الانشغال بالأعمال المنزلية للنساء والأعمال الخارجية للرجال. جاءت فرصة عمل بالخارج للشقيق الأكبر لزوجي، وعاد بعد عام ليعلن ضمنا أن المال الذي جمعه لن يشاركه فيه أحد ويكفي أن زوجته وأولاده هم الذين يتحملون آثار غربته وحرمانه منهم ولم يلمه أحد على ذلك فهذا لا يخرج عن الإنصاف، ومن هنا كانت البداية الفعلية لانفصال كل واحد بأسرته تماماً وان ظلّت الإقامة معاً في نفس البيت، واتفق النسوة على نظام رائع في سبل المعيشة بعد أن أصبح لكل منا ميزانيته الخاصة ببيته، في المساء نقرر أن نطهو جميعاً صنفاً واحداً من الطعام حتى لا تكون هناك فروق بين أولادنا ونظل أسرة واحدة وقد نتج عن ذلك ارتياح كبير جنبنا الكثير من المشاكل والخلافات. سفر شقيق زوجي جعلني في وضع حرج إذ أن زوجي ليس من النوع الطموح ودائماً ينظر تحت قدميه ولا يحسب حساباً للأيام واحتياجات أطفالنا الثلاثة الذين رزقنا بهم ولا يهتم إلا باللحظة أما المستقبل فلا يهم، بينما أنا على عكس ذلك تماماً مع التسليم أن كل شيء بيد الله لكن يجب أن نأخذ بالأسباب، ولا أحب أن يكون هناك فارق في مستوى المعيشة بين أبنائي وأبناء شقيق زوجي حتى لا يشعروا بالنقص، وحملت على عاتقي هذه المهمة الصعبة مع سلبية زوجي، لكنه كان يستجيب لتوجيهاتي خاصة وهو يرى أنها في الصالح العام فدفعته إلى العمل دفعاً واستطعت أن أقوم بإعلان ربط الأحزمة على البطون، والسبب أنني أعلم أن شقيق زوجي سيعود ومعه الثلاجة والغسالة إلى جانب الملابس الفاخرة وخلافه من الهدايا، وعلى مدار خمس سنوات كنت أصارع من أجل تحقيق المساواة، خاصة بعدما تمكنت من توسيع تجارة زوجي في الملابس والمفروشات، واستطعت أن أساير التغيرات المالية في المنافسة التي شملت بعد ذلك كل أفراد العائلة، الرجال والنساء يعملون ليل نهار حتى لا يتمكن أي من الآخرين التفوق عليه وحتى لا يتخلف عن الركب. ربما كان لهذا السباق مزاياه ونتائجه الطيبة واستطاع كل منا أن يشتري مسكناً مستقلاً ويحصل على حريته بعد كل هذه السنين، وكنا حريصين في نفس الوقت على أن نظل متجاورين متقاربين فأقمنا في نفس المنطقة لا تفصلنا إلا خطوات وأمتار معدودة، فتواصلت لقاءاتنا ولم تنقطع واستمرت كما كانت في السابق، واستطعت خلال هذه الفترة أن أدخر مبلغاً مالياً معتبراً قد يفوق ما جمعه شقيق زوجي من خلال رحلته خارج البلاد، وظهرت علينا آثار النعمة، خاصة أبنائي في مظهرهم وملبسهم، وفي أسلوب معيشتنا ومستوانا ومع أنني فككت الأحزمة فإنني ما زلت أدخر الكثير مما نربحه من تجارتنا. أقام أشقاء زوجي شركة بينهم لصناعة وتجارة المواد البلاستيكية، وتعمدوا أن يستبعدونا من هذه الشراكة عن عمد لأننا لسنا في حاجة للمال وأننا مكتفون بتجارتنا الرائجة وفي نفس الوقت لا يريدون لنا أن نتوسَّع في أعمالنا، ولم يكن ذلك معلنا بالطبع، ولكن استطعنا أن نعرفه من التسريبات والنميمة النسائية، ولم يحرك ذلك عندنا ساكنا ولم نغضب أو نتخذ موقفاً منهم لأننا لن نوافق على العمل في أشياء لا نفهمها وأحوالنا مستقرة، وبشكل أو بآخر تسبب هذا الموقف في أحداث شرخ في علاقتنا وأدى إلى تراكمات فيما بعد. لاحظنا مع مرور الأيام وبعد نجاح المصنع الذي أقاموه أنهم يعيشون في بذخ وترف وإسراف واشتروا سيارات وانتقلوا إلى مساكن جديدة في منطقة أكثر رقياً، ونحن لم نكن بعيدين عن هذا المستوى بكثير ولا ننظر إلى ما في أيديهم، فالأرزاق مقسمة، ولكل نصيبه المقدر، إلا أن الأمر المفاجئ أننا خلال أشهر معدودة رأينا أحوالهم تنقلب وتنحدر إلى الهاوية بسرعة فائقة ولا نعرف السبب، غير أنهم بدأوا يتوددون لزوجي ويقربونه منهم وعلى حد تعبيرهم يعتبرونه كبيرهم رغم أن هناك ثلاثة منهم يكبرونه، كل هذا يدور من وراء ظهري وأنا مغيبة لا أعرف عنه شيئاً، راحوا يعتذرون له عن الخطأ الذي ارتكبوه في حقه عندما لم يشركوه معهم، وأقاموا له الولائم وكثر اهتمامهم به على غير العادة في السنوات الأخيرة، من جانبي لا يعنيني إلا أن تكون علاقة زوجي بإخوته وأقاربه قوية وجيدة، بل أن ذلك يسعدني، ومن جانب آخر أخذت على نفسي عهداً منذ تزوجته ألا أتدخل من قريب أو بعيد في علاقته بعائلته. ولفت انتباهي أن العائلة كلها تعيش معاناة ومشكلة غير معلنة واضح أنهم يحاولون إخفاء شيء ما لكنه لا يعنيني أن لم يخبروني، فهذا شأنهم وليس من حقي أن أتدخل فيه، وخاصة أنني لا أعرف حقيقة الأمر، بل ربما استشعرت أنهم يحاولون إبعادي عن ذلك وأيضاً التعامل مع زوجي بمعزل عني والتفريق بيننا في أمور كثيرة حتى ما يخص بيتنا وأسرتنا وبطبيعتي لا أميل إلى سوء الظن لذا لم أذهب أبعد مما أسمع وأرى وأعرف ولا أحلق بعيداً عن الواقع. استشعرت تغيرات متتالية في زوجي أيضاً يبدو أن حال الجماعة قد طالته وفشلت في معرفة التغيرات الكثيرة التي طرأت عليه، ولأول مرة في حياتنا أراه يحاور ويهرب ويناور، هنا بدأت أحس بالخطر المحدق بي وأنا أمام مجهول آت أو هو قريب مني، وأصبحت على نار الآن أود أن أعرف ماذا يحاك في الخفاء لكنني لا أجد جواباً عند أحد، ولا أعرف حتى نوع هذا الخطر حتى احتاط منه وأتمكن من مواجهته، إلى أن وقعت الطامة الكبرى التي اكتشفتها بمحض الصدفة عندما توجهت إلى المكان الذي أخفي فيه المبلغ الذي ادخرناه بالجهد والعرق فلم أجد منه شيئاً، اعتقدت أنني ربما أكون أخطأت ونقلته، ولكن بعد البحث كانت النتيجة صفراً حتى جاء زوجي وأخبرته بما حدث فأبدى انزعاجه الشديد متوقعاً أن الأموال قد سرقت ودعا أن يعوضنا الله عنها. لا أتقبل أن يكون وراء اختفاء المال السرقة بحال من الأحوال، فلا يدخل بيتنا أي غريب وأبنائي ما زالوا صغاراً، إلى أن وجدت الحقيقة المرة أن زوجي وأنا نائمة يحاول الخروج بالتلفاز متسللاً وعندما استيقظت أسقط في يده ولم يعرف بماذا يرد وتلعثم وقد توقفت الكلمات في حلقه، وكاد يسقط مغشياً عليه ثم انهمر في البكاء وهو يعترف بكلمات كانت مثل الرصاص تخترق قلبي، أنه هو الذي سرق المال لأنه مدمن مثل إخوته الذين استطاعوا أن يجروه إلى هذا المستنقع الذي لا يستطيع الفكاك منه، وأنه حاول أن يسرق التلفاز لنفس السبب، دارت بي الدنيا وكدت أفقد الوعي بعد أن ارتفع ضغط الدم عندي ولم أجد ما أرد به عليه. ثم توالت المصائب إذ اكتشفت أن زوجي قد أضاع كل ما تبقى من تجارته ولم يعد منها شيء لا مال ولا بضاعة فقد أنفق كل ذلك، وجدتني في لحظة تحت الصفر ولا أجد أنا والصغار قوت يومنا وزوجي لم يعد قادراً على العمل بسبب بلائه، لم أجد أمامي إلا الدفع بالصغار إلى أعمال لا تناسب أعمارهم، ولكنني مجبرة مضطرة بعد أن أصبحنا أسرة تضم ثمانية أفراد أكبرهم في السابعة من عمره، ولم تكن حال أقارب زوجي تقل سوءا عن ذلك فقد أصابهم من قبل ما أصابه. بعد سنوات من المعاناة والمرارة تعافى زوجي من هذا الداء، واضطررت لأن أفرض سياجاً على علاقته بإخوته الذين ما زالوا في غيهم القديم، وبعد أن أصبح ذلك من الماضي، تطاردني الهواجس الآن من أن يتعامل أبنائي مع بعضهم في المستقبل بهذا المنطق المرعب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©