السبت 11 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حقيبة الموت

حقيبة الموت
21 يوليو 2011 19:30
أحمد محمد (القاهرة) - طالما أن الشاب أعزب ويقيم بمفرده بعيداً عن أسرته وعائلته فلن تجد من أبناء المنطقة من يتعامل أو يختلط به أو يتزاور معه، وهذا ما حدث مع “جمال” الذي حضر للإقامة في هذا الشارع الذي يغلب على بناياته العشوائية وعدم الانتظام فتراه يتسع ويضيق حسب أهواء الملاك. ثمانية أشهر مرّت منذ استأجر “جمال” شقة صغيرة في الطابق الأول يعيش فيها وحده رغم أن عمره يقترب من الأربعين، ولا أحد يعرف من أين أتي ولا إن كان متزوجاً أم لا أو إن كان له أبناء، وكان كل ذلك لا يهم أحداً، فالجميع يفضلون العزلة إلا عن أقاربهم المتناثرين الذين ينتشرون في المكان، وعندما جن الليل وكان الجميع منشغلين بالبحث عن الطفلة الصغيرة ابنة السنوات الست خرج “جمال” من بينهم يحمل حقيبة سفره التي اعتاد أن يحملها وغادر. النساء والأطفال والشباب والرجال في هرج ومرج يهرولون، وامرأة تضرب بيدها على صدرها، واضح أنها أم الطفلة ويكاد قلبها ينفطر عندما لم تجدها أمام المنزل، وقد كانت منذ لحظات تلهو مع قريناتها ولم تعتد الابتعاد من هنا مما يزيد قلق الأم التي كادت تسقط على الأرض وهي ترتعد وتنتظر كلمة تعيد إليها روحها، يجري الشبان إلى نهاية الشارع يسألون عن الصغيرة من يعرفها ومن لا يعرفها لكنهم لا يجدون جواباً، يحملون مكبرات الصوت ويجوبون المنطقة وهم يعلنون تغيب الصغيرة ويرجون من يعثر عليها أن يعيدها إلى أسرتها، والوقت يمر بلا فائدة. يخرج “جمال” وسط هذه الأجواء بحقيبته من دون أن يهتم بما يدور غير أنه من باب الفضول لا يجد إلا الحلاق، الشخص الوحيد الذي يتعامل معه عندما يتوجه إليه لتقصير شعره ويتجاذب معه أطراف الحديث الذي يمتد من الرياضة إلى السياسة إلى الاقتصاد أو أي موضوعات في حوار عشوائي حسب مقتضى الظروف، وكما يفعل الحلاقون دائماً بالكلام مع الزبائن بغض النظر إن كان هناك سابق معرفة أم لا واقترب “جمال” من الحلاق وسأله عما يحدث وسبب هذا الهرج والقلق، فأجابه بأن الطفلة “شهد” اختفت وأن أسرتها والجيران يبحثون عنها، فواصل سحب حقيبته واستمر في سيره وهو يدعو لهم بأن يعثروا عليها. حضر أقارب والد ووالدة “شهد” من كل الدرجات أعمام وعمات وأخوال وخالات وأصهار حتى ضاق بهم المكان وهم يتبادلون الاتصالات الهاتفية للسؤال عن الطفلة، وقارب الليل على الانتصاف ولم يكن هناك جديد، لذا لم يكن هناك خيار إلا إبلاغ الشرطة للمساعدة في البحث عنها بما لديهم من إمكانات ولعلّ أحداً يكون قد عثر عليها فيعيدها إلى أسرتها، ويتولى رجال الشرطة المهمة باتصالاتهم والدوريات الراكبة والأمكنة الثابتة بالطرق والمستشفيات وكل الأماكن التي يحتمل وجودها فيها لأي سبب وأي احتمال فكلها الآن واردة. مضت ساعات الليل وجاء الصباح ولم يذق أحد طعم النوم وكل لحظة تمر يزداد معها القلق وتقل فرص العثور عليها، لكن الأب يتلقى اتصالاً من الشرطة بأن يتوجه للتعرف على الأطفال الذين عثر عليهم خلال الأيام الماضية عساها أن تكون بينهم، لكن الأب يؤكد مسبقاً إن كان قد عثر على أي منهم قبل الليلة الماضية فإنها لن تكون بينهم ومع ذلك يذهب يسبقه الأمل في أن تكون أفكاره مخطئة، وعندما يصل ويتفقد الوجوه يرتد إليه بصره وهو خائب الرجاء، يترك هذا الجانب ويواصل البحث مع أقاربه بطريقته لأنه لا يحتمل أن يجلس ولا يعرف أين ذهبت فلذة كبده، التي لم يعد له سواها وسوى أخيها الأكبر بعد أن فقد ولده الثاني منذ ثلاث سنوات عندما سقط من البناية ولقي حتفه ويتمنى ألا تتكرر أحزانه وإلا يفقد هذه الطفلة المحببة إلى قلبه. يتذكر الأب كيف كانت تستيقظ كل صباح معه لتحضر له حذاءه وجوربه وتساعده في ارتداء ملابسه قبل أن يتوجه إلى عمله، وتقبله قبل أن تودعه حتى الباب وهي تطالبه بألا يتأخر وتكرر المشهد كل يوم ولا تنسى أن تطالبه أيضاً بالمصروف الذي يقدمه لها لأنه يعرف مسبقاً أنها تنتظره، وتتحجر الدموع في عينيه وهو يحاول أن يبدو متماسكاً ويغالط نفسه بينما هو على حافة الانهيار، فزوجته سقطت مغشيا عليها بعد أن مرّت هذه الساعات بلا جديد، ولم يعد في مقدور أحد أن يفعل أي شيء، لا شهية لطعام أو شراب والقلوب كلها تتسارع ضرباتها وترتعد الأطراف والحزن يخيم على الأماكن والوجوه، والوجوم هو سيد الموقف، النساء لا يجدن أي كلمات يحاولن بها التخفيف عن الأم، وساد الصمت القاتل إلا من صرخات من هنا أو هناك تخرج عفوية من شدة الألم والترقب والانتظار. يأتي استدعاء آخر للأب من الشرطة للتعرف على طفلة عثر عليها اليوم في الصباح وتكاد القلوب تنخلع وتخرج من الصدور عسى أن يكون الخبر خيراً ويحمل بشرى تنهي تلك المأساة فيسرع الرجل بسيارة أحد أقاربه إلى هناك وتلعب الهواجس والظنون برأسه ويخشى أن يعود بخفي حنين كما حدث من قبل، ومع ذلك لا يفقد الأمل، عندما يصل يهدئ الضابط من روعه ويصطحبه إلى مكان قريب من سرداب طويل، المكان غير مريح للنفس ويبعث على الخوف ويكاد ينبئ بأن النهاية مؤلمة. في غرفة غير عادية أيضاً لا وجود لأطفال يدخل الضابط ويطلب من الأب أن يتماسك، فكانت المقدمة صادمة له غير أنه لم يتعجل توقع الأسوأ وإن كانت البوادر والشواهد كلها تشير إلى ذلك، فتح الضابط ما يشبه الخزانة، فإذا بها جثة طفلة، لكنها غير واضحة المعالم، يقترب الأب ويحد النظر فإذا هي ابنته بملابسها، لكنها مذبوحة من رقبتها بشكل انتقامي بشع، يرتد إلى الخلف ويحاول أن يبعد عينيه لا يريد أن يصدق ما رأى، لكنها الحقيقة المرة فيخرج صرخة مدوية ويحمله من حوله ويساعدونه على الجلوس على أقرب مقعد قبل أن يسقط على الأرض. وفي ثوان معدودة وصل خبر مقتل “شهد” إلى الجميع الذين حضروا تسبقهم دموعهم وبكاؤهم وصرخات النساء، لكن السؤال من الذي فعل هذا؟ الغريب أن الجثة قد عثر عليها في بلد آخر في دورة مياه أحد القطارات داخل حقيبة، عندما وصل إلى محطته الأخيرة وبينما كان العمال يقومون بتنظيفه ليعاود رحلته وجدوا الحقيبة التي كانت ثقيلة وبفتحها فوجئوا بهذه الكارثة. بدأ رجال المباحث مهمة صعبة في البحث عن القاتل وما يزيد من تعقيد لغز الجريمة أن القتيلة طفلة لم تكن بينها وبين أحد خلافات أو منازعات بعد ولا حتى لأبيها أو أمها مشاكل مع أحد، وعلاقتهم بالجيران طيبة وهذا كله يجعل عملية البحث في طريق مسدود مسبقاً، لكن رب معلومة بسيطة يراها البعض تافهة يكون فيها الخيط الذي يوصل إلى كشف اللغز المحير، وكان أول هذا الخيط الأطفال الصغار الذين يشاركونها اللعب في الشارع عندما قالوا إن “جمال” اصطحبها لشقته ليحضر لها الحلوى، هنا يضرب الحلاق مقدمة رأسه بيده ويصرخ نعم هو الذي قتلها فهذه هي الحقيبة التي كان يحملها عندما غادر، إنه كان يضع فيها جثة البريئة وخرج بها أمام عيوننا دون أن ندرك أن الشيطان بهذا المكر والدهاء، وعلى الفور يتوجه رجال البوليس إلى شقة “جمال” الذي بالطبع لم يكن موجوداً بها، قاموا بكسر الباب وتأكد لهم أنه وراء الجريمة البشعة فتلك هي السكين التي ارتكب بها الجريمة وهذه الدماء قد تناثرت في غرفة النوم، وبعض الملابس الملوثة ملقاة في أحد الأركان. لا أحد يعرف أي معلومات عن المجرم إلا اسمه الأول، ولم يكن أمام رجال المباحث إلا البحث عن صاحب البناية للوصول من خلال عقد الإيجار إلى اسمه كاملاً، وبعدها تم التوصل إلى رقم هاتفه المحمول وبتتبعه تم التعرف على مكان تواجده والقبض عليه، وكانت المفاجأة التي زلزلت الجميع ما جاء في اعترافاته، بأنه حاول اغتصاب الطفلة فماتت من صدمة الموقف وأجهز عليها ليتخلص من الجثة حتى لا يفتضح أمره، لكن الآن الفضيحة أشد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©