الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تبديد وحشة المكان

تبديد وحشة المكان
19 يناير 2011 20:05
لا تحتاج الشاعرة الاماراتية المُرهفة خُلود المُعلا الى توطئة أو تقديم خصوصاً وأن رصيدها الشعري قد بلغ أربع مجموعات شعرية حققت بواسطتها حضوراً طيباً في الامارات تحديداً وفي العالم العربي بصورة عامة. كما أسهمت ترجمات بعض قصائدها الى أربع لغات أوروبية وهي الانكليزية والألمانية والإسبانية والايطالية ومشاركتها في بعض المهرجانات الشعرية العالمية بذيوعها النسبي وتقديم جانب من تجربتها الشعرية الى القارئ الأوروبي الذي يتوق فعلاً الى التعرِّف من كثب الى الشعرية العربية. لابد من الاشارة الى أن هذه الدراسة النقدية تقتصر على مجموعتها الشعرية الرابعة الموسومة “ربَّما هنا” والتي لمسنا فيها تطوراً ملحوظاً عن مجموعاتها الثلاث السابقات وهي (هاءُ الغائب، وحدكَ، وهنا ضيَّعتُ الزمن). وقد شمِل هذا التطوِّر المعنى والمبنى في آنٍ معاً. كما أصبحت اللغة أكثر دلالةً وتكثيفاً من ذي قبل. تعرية الذات ربما يكون الأدب في جانب من جوانبه هو نوع من التعرية الذاتية التي تكشف طوّية الانسان، وتهتك أسراره إذا كانت هناك أسرار تستحق الهتك عبر آلية البوح الأدبي سواء أكان شعرياً أم نثرياً. وخلود المعلا، مناط هذه الدراسة، هي شاعرة تكتب قصيدة النثر بامتياز. وهذا النوع الأدبي الحر يناسب تماماً الحرية التي تتوق اليها المُعلا وتسعى الى تحقيقها بواسطة النص الشعري الذي تكتبه. لا شك في أن العنوان “رُبَّما هنا” ينطوي على احتمالية مكانية قد تكون هنا في (دبي) أو ربما (هناك) في مكان آخر، في “رَيدِنجْ” أو لندن، تمثيلاً لا حصراً، لأن الشاعرة قد خصّت هذه المدن ببعض قصائدها الحميمة التي أخرجتها من الفضاء المحلي الى الفضاء العالمي الذي يتصف بآفاقٍ ومشاهدَ مغايرة لما هو مألوف وسائد في نصوصها الشعرية. لُعبة التمهيد إن أول ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة الشعرية هو التمهيد الذي اقتطفتهُ من قصيدة (وهكذا افترقنا)، ووضعته في مُستهَّل هذا الديوان لتشير الى ثيمة رئيسة من ثيماتها المفضلّة التي تتكرر في نصوصها الشعرية. فقصائد هذا الديوان بمجملها توحي بأن الشاعرة وحيدة ومعزولة، وليست منعزلة بإرادتها، وإنما هناك قوة أكبر منها تفرض عليها هذا النوع من العزلة الموجِعة التي تؤسس لمناخ موحش وكئيب يأسر الشاعرة ويصفّدها بأغلال ثقيلة تحّد من حركتها، وتُثبط من محاولاتها المستميتة في الارتقاء والتسامي الصوفيين. تقول المُعلا في المستهَّل التمهيدي: “مازلتُ أستندُ الى محبَّتِهم/ والطريقُ التي تأخذُنا إلى بعضِنا/ كم صارت بعيدة!”. لا شك في أن الشاعرة الذكية قد انتقت أبياتاً لا تُحيل الى أشخاص محددين أو أمكنة معروفة، لأن معنى النص أو فكرته الأساسية سوف تظل عائمة، ويكتنفها ذلك النوع من الغموض المُحبَّب الذي يحرِّض القارئ على استغوار النص ومحاولة فكِّ رموزه وشيفراته أو إسقاط أقنعته في الأقل، غير أن هذا القناع يسقط دفعة واحدة حينما يصل القارئ الى القصيدة ما قبل الأخيرة من الديوان وهي (وهكذا افترقنا)، (وكنت أتمنى حقيقةً أن تكون هذه القصيدة هي خاتمة الديوان!)، ولكنها أردفتها بقصيدة (طقوس) فأفسدت علينا لعبة التمهيد والخاتمة حينما أربكت هندسة التلقّي وخلخلت توقعات القارئ التي لم تأتِ في محلها. فهذه القصيدة تتحدث حصراً عن فكرة (فراق الأصدقاء) أو (فراق الأحبّة) وكلا الكلمتين الأصدقاء أو الأحبة هما كلمتان أثيرتان لدى الشاعرة خُلود المُعلا، وتحتلان مساحة خاصة من قلبها ومشاعرها الداخلية العميقة. لقد بعُدت المسافة بينها وبين الأصدقاء الحميمين الذين لم يغادروا فلَك ذاكرتها، ولكن مهما اشتط المزار فهم قريبون منها لأنهم يسكنون في أعماقها، وهي من قبل ومن بعد، وفية لفكرة الصداقة على الرغم من قساوة الزمن الذي يتلاشى فيه الأصدقاء مُجبرين لا مُخيَّرين في أغلب الأحيان. ثنائية الأمكنة تتكرر ثنائية الـ (هنا) والـ (هناك) في أول نص شعري يحمل عنوان (لا يسمعُني أحد). ولو أردنا أن نحدد المكان الذي تقف فيه الشاعرة بوصفها خالقة للنص الشعري وساردة له في آنٍ واحد، فإنها حتماً ستكون في مكانٍ موحشٍ في الأقل. ولكي تبدد هذه الوحشة عليها أن تستجير بالصوت الفيروزي وتسرّبه الى الجدران الضيقة! لا ندري إن كانت هذه الجدران ضيقة حقيقة أم مجازاً؟ فضِيق الجدران أو ضِيق غرف البيت ذاته قد يكون متأتياً من القمع الأسري أو القهر الاجتماعي بأشكاله المتعددة والمعروفة في عالمنا العربي. وإذا كان بيتها ضيقاً الى هذا الحدّ الذي يقطِّع الأنفاس فمن الطبيعي أنه (لا يشبه بقية البيوت). أما نوافذ هذا البيت الغريب فإنها تُطِّل (على أرض تكتظُّ بالتائهين)، وهؤلاء التائهون ستصفهم لاحقاً بالمحزونين ولكن من دون أن تحدد هويتهم. هل هي دعوة لتحرير مخيّلة المتلقي الى هذه الدرجة التي تتيح له المشاركة في كتابة النص وإبداعه بوصفه قارئاً عضوياً لا يمكن إهماله بأي حال من الأحوال؟ لا شك في أن امكانية الطيران المجازي متاحة لهذه الشاعرة الجريئة التي تحاول أن تصل الى هدفها المرسوم سلفاً على الرغم من وجود الكثير من العوامل المثبِطة منها عزلتها التامة، فكأنها تصرخ في واد، إذ لا يسمعها أحد البتة وكأنَّ هذا البيت الذي تقيم فيه ناءٍ وبعيد جداً. ثم تبثُّ سلسلة من الشكاوى اللاحقة التي تعزز عزلتها وانكسارها. فبلادها التي يُفترّض أن توفر لها أشياء كثيرة لم تُعطِها سوى نقطة ضئيلة من هامشها. هل نفهم من هذا التوصيف أن هامش بلادها كبير جداً، لكنها تشح حتى على أبنائها المبدعين الذين يعيدون صياغة الحياة في كل لحظة ابداعية خلاقة؟ يزداد الأمر تعقيداً حينما نكتشف أن جدران البيوت شاهقة جداً، والأدهى من ذلك أنها فقدت سلالمها! فكيف يتسنى لها، ما لم تطِر طيراناً حقيقياً، أن تصل الى أولئك التائهين أو المحرومين الذين تحول دون الوصول إليهم طرق الصعود الضيقة التي تفضي بها الى الهاوية بدلاً من أن تأخذها الى القِمة المُرتَقبة. وحينما يتعذّر على الشاعرة الوصول الى القمة المُرتجاة فإنها تتكئ على روحها علّها تصعد هي الأخرى الى الجنة ولو لمرة واحدة! تمتلك الشاعرة في هذا النص شرف المحاولة في الأقل لكي تلبّي نداء المحرومين على الرغم من الفضاء الخانق الذي أشرنا إليه سلفاً. وحينما يعجز الجسد عن تحقيق رغباتها فإنها تستجير بالروح لكي تصل الى ما تصبو إليه عبر آلية الحلم لتثبت للآخرين أنها انسانة فاعلة وأن الخمول لم يعرف سبيلاً الى جسدها وروحها في آنٍ معاً. السؤال الفلسفي ثمة أسئلة شائكة وقريبة جداً من الفضاء الفلسفي تبثّها الشاعرة خلود المُعلا في قصيدة (لابُدَّ أن)، وفي قصائد أُخَرْ أيضاً لكي تتيّقن من حضورها الفيزيقي الذي يأخذ دائماً صفة هلامية قارّة وغير متعينة. فلكي تستدلَّ على حضورها الجسدي لابد أن تحدّق في المرايا، كما تنصح ثني روحها أن يفعل الشيء ذاته. وهذا اللا يقين الفلسفي هو الذي يمنح قصائدها جواً غريباً لم آلفه عند قريناتها من الشواعر العربيات في الأقل. كما يتكرر تعاطيها لفكرة الانعتاق أو التحرر المطلق سواء أكان ذهنياً أم جسدياً أم روحياً. ولأنها تريد أن تتماهى مع هذا التحرّر وتتخلص نهائياً من كل القيود التي تصفِّدها كروح شفّافة أولاً، وعقل حرون لا يستجيب إلا الى رغبة القلب الصادقة. ثمة احتجاج ملحوظ في هذا النص يمكن تلمّسه في البيت الأخير حيث تخرج من ذاتها لتحرّض بلغة الجمع وتقول من دون مواربة (لا بُدَّ أن نصرخ صرختنا الأولى)، هذه الصرخة العجيبة التي تعلن خشية أي قادم جديد مما تخبئه الأيام القادمة. لا تخلو قصيدة (هكذا أحيا أسطورتي) من نبرة السؤال الفلسفي العميق الذي أشرنا إليه قبل قليل. فهي تستدلّ على قلب الفنان التشكيلي بواسطة اللون الواحد الذي يتكرر بحدّة في أعماله الفنية. أي أن اللمسة الخصوصية هي التي تقودها الى كُنْه الفنان وتفتح لها مغاليق الأشياء العويصة. ولذلك فهي تحب الأشياء التي تبتدع أسماءَها، أو بمعنى آخر أنها تحب أن تنغمر في أشيائها الخاصة لكي تُضفي عليها شيئاً من روحها القلقة المعذّبة المُحاطة بالعدم، هذا العدم الذي يحاصرها من كل حدب وصوب، لكنها تنتصر عليه بالصدق والأصدقاء والمحبّين. إن ذات الشاعرة خُلود المُعلا واسعة ورحبة وهي تلوذ بها كلما عاودتها الغربة الروحية، وأثقل عليها فعل الاغتراب. يبدو أن الشاعرة خلود المُعلا قد سئمت من حياتها المملة الرتيبة التي أشرنا اليها سلفاً. فثمة جدران شاهقة، وغرف ضيقة، ومناظر متشابهة مكرورة تبعث على الوجوم أو تحفِّز على الاحساس بالفراغ، الأمر الذي دفعها لأن تثور ثورة عارمة على هذا السكون المطبق الذي يلف حياتها. لذلك قررت ألا تغلق نوافذها بعد الآن، وأن (ترفع أسدال كعبتها)، أي تتجاوز الظرف المكاني المقدّس الذي أُقحِمت فيه. فلا أستار ولا سدول بعد اليوم، لأنها عقدت العزم على أن تمضي للأمام (غيرَ آبهة بالنفوس القاحلة). إن هذا الاصرار العجيب الذي أبدته الشاعرة خُلود المُعلا ناجم عن وعيها الحاد، وشجاعتها الذهنية التي أهلّتها لأن تخوض غمار هذه التجربة التي سوف تؤدي الى كشف ذاتها كإنسانة وشاعرة مبدعة على حد سواء. لذلك بدأت تفكر بصوت عال، وتقرأ صفحات روحها وذهنها على الملأ من دون خشية أو تردد، لأنها باتت مثل كتاب أزرق الصفحات. وأكثر من ذلك فإنها بدأت (تمرِّن حنجرَتها على الصراخ) لتوقِظ النائمين وكأنها تريد أن تقول لهم بثقة كبيرة بأنها بعد هذه الثورة الجذرية ستكون (أفضل مما مضى ومما سيمضي). الرتابة واللاجدوى تعاني الشاعرة خُلود المُعلا من أزمة وجودية عميقة تقف وراءها أسباب كثيرة من بينها الرتابة والملل والفراغ والاحساس باللاجدوى وما إلى ذلك من عوامل نفسية واجتماعية وذهنية. ففي قصيدة (البيت كما عهدناه) كل شيء رتيب، وعلى سابق عهده، فالوقت هو الوقت، والبيت هو البيت كما عهدناه، لا أثر للتغيير على الرغم من توالي الفصول المتشابهة التي تُفاقم من الحالة النفسية لشخصية الشاعرة المأزومة. لا تقف حدود الأزمة الوجودية عند الأسباب التي أشرنا اليها سلفاً لأن هناك ما هو أدهى وأمرّ من ذلك وهو الاحساس بعبث الحياة ولا جدواها. إن الذي يلفت الانتباه في قصيدة (لا جدوى) هو ظهور الأنا التي كانت تتوارى وراء مهيمنات وجودية واحساسات شتى فيما سبق من قصائد. غير أن الذات في هذا النص قد انتبهت أول مرة، الى المظهر الخارجي، بخلاف العديد من الشاعرات العربيات اللواتي يراهنَّ أنوثة الجسد ومغرياته المعروفة. فبعد أن تحسست قلبها وشعرت به ينبض، وأنه لا يزال على قيد التوثب والمرح (نهضت مسرعة نحو نفسها) وتزينّت لملاقاة الحبيب الذي أطلّ صريحاً هذه المرة حيث قالت: (ألبسُ قميصاً رقراقاً لم يرَه حبيبي). ولا شك في أن صفة الرقراق كافية لكي تحيل القارئ الى مناخ الثراء الذي تعيشه الشاعرة، ولكنها محنة هذه الشاعرة أنها لا تنشد الثراء المادي ولا تتوق له، ربما لأنه مُتاح لها، وإنما تروم تحقيق ذاتها على الوجه الذي يرضي طموحها ونزقها الوجودي الى حدّ ما. كنت أتوقع أن تكون الشاعرة التي تحررت من محارتها في هذا النص، وتباهت في صعودها وتحليقها في شاهق السماء، أن تكون راضية وسعيدة بما أنجزته، غير أن الضربة المباغتة تأتي من حيث لا يحتسب القارئ ليكتشف سبباً جديداً لأزمتها المتأصلة حينما تسمع أصداء تردد إن (لا جدوى) فهي كأنما تعوم في (العدم السرمدي) الذي يلّف الكينونة برمتها. شاعرة استثنائية ثمة شعراء متواضعون في طبعهم وغير أدعياء ولا يميلون الى المبالغة وتهويل الأشياء، ولكنهم يكتبون بالمقابل نصوصاً جيدة أو ربما ممتازة تخالف ما يدعّون من بساطة أو نبّو عن الاستثناء والتميّز، تماماً مثلما تفعل الشاعرة المبدعة خُلود المُعلا. ففي قصيدتها الجميلة (شاعرة غير استثنائية) ثمة تواضع ملحوظ لأن هذا النص الشعري لا يوحي أبداً (بالسذاجة) ولا ينتمي الى نمط النصوص السائدة والمألوفة التي تموت إثر نشرها مباشرة، وإنما هو نص جذّاب وعميق، ولكنه قائم على عنصر المفارقة. وما إن يلج القارئ الى تضاعيف هذا النص حتى يكتشف أنه ازاء انموذج استثنائي حقاً. قد تكون الشاعرة وحيدة ومنزوية في صدفتها الخاصة، وقد (تمتهن الصمت) و (لا تجيد الكلام) كما ورد في متن القصيدة، ولكنها قادرة على أن تكتب نصاً مذهلاً يأخذ بتلابيب القارئ ويجذبه الى مداراتها الآسرة. الاغتراب الروحي أشرنا غير مرّة الى عزلة الشاعرة خلود المُعلا واحساسها الممِّض بالوحدة، هذا الاحساس المُفجع الذي قد يفضي الى الغربة الفيزيقية والاغتراب الروحي. ففي قصيدة (خّطُّ العودة) نكتشف من دون لأي أن الشاعرة أرِقة وقلقة كعادتها، ولكنها تداري هذا الأرق بما (لا تراه من وميض روحها)، هذا الوميض الذي يمدّها بنسغ الحياة، ويقوِّض بالنتيجة حياتها الرتيبة المستتبة. تتوافر هذه القصيدة على صورة شعرية نادرة تقترب من المَثل والحكمة الجميلة المعبِّرة التي تدور على الألسن حيث تقول: (أتعدَّدُ في المرايا كي لا أكون وحدي)، ويا لها من حيلة سينمائية جميلة تتجلى فيها الصورة البَصَرية على أكمل وجه. فلطالما أنها مُحاصَرة ووحيدة ونائية فلابد لها من أن تبتدع حلاً خاصاً بها، ولا أعتقد أن هناك معالجة فنية ذكية أجمل من لعبة التعدّد في المرايا التي تُجهِز على مفهوم الوحدة وتستأصله من جذوره. الهمُّ الكوني تشي معظم قصائد هذا الديوان بأن همَّ الشاعرة خُلود المُعلا هو همُّ وجودي أو كوني على الأصح. فنادراً ما تفكر في الأشياء الصغيرة والعابرة في حياتها. ففي الوقت الذي تفكر فيه بالوجوه التي غادَرَتْها وهذا أمر طبيعي تأخذنا في لحظة خاطفة تعوِّل عليها غالباً لتخبرنا بأنها (تفكِّر فيما وراء الوجود)، أي أنها لم تنهمك بإشكالية الوجود المعقّدة حسب، وإنما تذهب بإرادتها الى التفكير بما وراء الوجود الذي لم تستوعبه لكي تلج الى غابة السؤال الفلسفي المحيِّر. تذكِّرنا الشاعرة خلود المُعلا بين أوانٍ وآخر بأن الجزء الأكبر من حياتها يكاد يكون نهباً للقلق والأرَق الناجمَيْن عن الكوابيس أو الأطياف الليلية، فلا غرابة إن لم تستطع أن تنام ملءّ جفونها أو (ملءَ وحدتها) كما أشارت في البيت الأخير من قصيدة (قلق الذاكرة)، أو أرق الجسد، هذا الأرق الذي سيتفاقم في نص لاحق ليصبح (محيطاً من أرق). قد يفسِّر بعض النقاد أن هذا النزوع هو نوع المبالغة أو ربما الغلّو في تصوير الحالة النفسية التي تمّر بها الشاعرة، ولكن ما أن يمضي القارئ قليلاً في نص (محيط من أرق) حتى يكتشف أن الشاعرة هاهنا هي ليست أكثر من سجينة (تُحصي شُقوق الجدار الذي تستند إليه)، وأن هذه العادة لا يفعلها في حقيقة الأمر إلا السجناء الذين أمضوا سنواتٍ طوالا في السجون والمعتقلات بحيث يصبح فعل عدّ الشقوق طقساً ليلياً يمارسه السجين المغلوب على أمره. النص الذهني ثمة قصائد موغلة في ذهنيتها تتناسب مع الثيمات الفلسفية التي تتعاطى معها الشاعرة بحرية كبيرة، فلا غرابة أن تكون أغلب قصائدها من الطراز الثقيل الذي يستوقف القارئ. فلقد سبق أن أشرنا الى أن خُلود المُعلا لا تتكئ مطلقاً على لغة الجسد، ولا تستجير بالأنوثة كمعطىً إغرائي، وأنها تعزز لغتها الشعرية ذات التراكيب والأبنية الشعرية الجميلة حتى من دون الاستعانة بأدوات التشبيه أو التوصيفات المتسمة بالإيقاعات الخارجية المبهرجة أو ذات الرنين العالي التي لا تخدم بالنتيجة البنية الداخلية العميقة للنص الشعري الذي تكتبه بسلالة لغوية واضحة لا تخلو من طلاوة الكلمة وحلاوة الصورة الشعرية الجديدة غالباً وغير المطروقة. اللحظة التنويرية لابد من التنويه أيضاً الى فرادة الأفكار أو الموضوعات الشعرية التي تعالجها خُلود المُعلا. فغالباً ما تكون زاوية النظر التي تتطلع من خلالها الشاعرة مختلفة. فإذا كان معظم النسوة يخشينَ فعل الزمان وما يخلّفه من آثار واضحة على المعالم الخارجية لأي كائن بشري، فإن خُلود المعلا هي الأنثى الوحيدة التي لا تنهزم أمام فعل السنين أبداً. إذاً، ثمة إصرار أو موقف مسبق، وعناد مرير يندر أن تجده عند شاعرة أخرى. وانا أرد هذا العناد الى إصرارها العجيب على مواصلة الحياة بطريقتها الخاصة. فهي التي سوف ترسم سيرتها بنفسها، وتخلق ربيعاً جديداً لم يألفه الآخرون. تكتب خُلود المُعلا أنماطاً وأشكالاً شعرية مختلفة. فثمة نصوص طويلة، وأخرى متوسطة الطول، وثالثة قصيرة جداً تقارب في طولها الومضة أو اللحظة التنويرية الخاطفة. ومثلما نجحت في كتابة النصوص الطويلة ومتوسطة الطول فإنها نجحت أيضاً في كتابة النصوص القصيرة جداً. ويبدو أن خبرة خُلود في كتابة القصيدة مختلفة الأشكال هي التي مهدّت لها كتابة هذا النمط الذي يوحي لقارئه بأنها تستقطر الفكرة أو الصورة الشعرية التي يتمحور حولها النص الشعري القصير جداً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©