الأحد 5 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرمى

مرمى
19 يناير 2011 20:11
المرمى وجهي.. أم وجهي الكرة التي يتقاذفونها بعبث، تلهث بين أقدامهم دون أن يأبه للهاثها أحد، نعم أنا الكرة، كرة من لحم ودم تركلها أقدامهم الصغيرة بلا إدراك.. لو يعلمون.. لو يشعرون.. منذ أربع سنوات، خمس.. لا أذكر أي أيام بائسة رمت بي عند هذا المربع/ النافذة، أي حياة سلختني بيسرٍ منها وألقت بي في علبة مغلقة يسمّيها هو بيت دون أن يلحق بها الضمير (نا)! وتركني لأيام تتسلقني برتابة، وساعات تحفر الشحوب في ذاكرتي يوماً بعد يوم.. هدف!!.. هدف!!.. وتتصادم أصواتهم الندية، تضيء مسمعي واضحةً رغم عويل الريح، تصعد وتصطدم بوجهي ثم سرعان ما تطويها الريح والغبار وتتلاشى، نبرات معترضة ونبرات أخرى تعلو كزقزقة العصافير فرحاً بالهدف، وأنا أتلاشى ما بين النبرات غباراً وحزناً لا موطن له. تخنقني الغصص وأنا أتأمل استدارة الكرة الصغيرة بين أقدامهم، وإذا بها تنقضّ عليّ بوحشيّة، لفّ رأسي وقتها دوارٌ ثقيل، سرعان ما تحول إلى شعور بالغثيان، ارتجفت على إثره أطرافي فسقط فنجان القهوة عند قدمي وانكسر، سحبت نفسي من الموقف المحرج بسرعة وأنا أتلو كافة الاعتذارات للضيوف الأقربين.. تركت رأسي تحت صنبور المياه يغسل غيرتي منها وبكيت، لكن حوارهم الثقيل ظلّ يصلني واضحاً قاتلاً: ـ في أي شهر؟ ـ الثامن... سؤالهم كان حبلاً يلتفّ على خصري، عصرني حتى تقيأت، وتوهمت حينها وجود ممرضات بثيابٍ سوداء حولي... وآلامي تتصاعد كصرخة نداء.. أطلب الرحمة.. الشفقة.. أو قليل منها: ـ متى الولادة إن شاء الله؟ ـ قريباً.. قريباً جداً.. تمازجت الأصوات، أومضت في عيونهم الفرح لكنها أحرقتني.. ـ لم تخبرينا.. ولد أم بنت؟ ـ لن أفصح.. ستكون مفاجأة. ترتطم الكرة بوجهي، وقبلها عيناه طالما ارتطمتا ببطني الضامرة، أحشائي تموء مستغيثة، وصياح الطفل الوليد مزّق ما بقي من ثباتي: ـ مبروك.. ولد. هدف!!.. هدف!!.. هدف!! أصواتهم تثقب ذاكرتي، وجسدي يئن وأنا أراهم يبتعدون بالكرة، وإيقاع الريح النشاز يخترق ـ حاداً ـ أذني.. يدخل هو، ما عدت أستوقف نظراته فقد صرت قطعة أثاث اعتاد وجودها.. هذه المرة سقط نظره على النافذة المشرعة فهم بإغلاقها، ولكنه سرعان ما تراجع عندما رأى أنها لا تطلّ سوى على مساحة ترابية غبراء، ومرمى صدئ بشباك مهترئة، وألا شيء يستحق إغلاق النافذة. تراجع وشكرت الله أنه لم ينتبه إلى وجود آثار طرية لأقدام صغيرة كانت قبل قليل هناك. رمى غترته جانباً على الكرسي بلا اهتمام وهو يقول: ـ استعدي غداً سنذهب لزيارة أختي.. وخذي معك هدية للمولود الجديد. تجاهلت نصله السام وأومأت دون أن ألتفت صوبه، كان نظري ما زال معلّقاً بالمرمى.. كان هذه المرة يتأرجح بين يدي الريح التي عوت مسعورة، واشتعلت غباراً يتطاير من كل مكان، المرمى يهتز مستنجداً لا أعلم أبعينيّ أم بآثار أقدام الصغار التي تطايرت ـ هي الأخرى ـ في الهواء. * قاصة إماراتية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©