الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«الكرنتينة» يحكي ما جرى لدجلة والمرأة المعذبة

«الكرنتينة» يحكي ما جرى لدجلة والمرأة المعذبة
20 أكتوبر 2010 00:24
“البدء من الماء/ النهاية في الماء” ودجلة بغداد، ذلك النهر الساحر صار مزبلة ومكباً للنفايات، أما الماء الرقراق الذي يفيض عذوبة فقد خبأ حكايات لن تنتهي الذاكرة الجمعية أو الفردية من أن ترويها حتى أزمان بعيدة آتية. دجلة وجع الصورة والشاهد على الانهيار والاحتلال، دجلة النهر الباكي، المبلل بدموعه، دجلة حافظ أسرار العشاق وأنغام ناظم الغزالي وعفيفة إسكندر في أغانيهما العذبة ويوسف عمر في مقاماته الأسطورية. دجلة موطن الألم وفجيعة الباكين وشموع خضر الياس، دجلة عربة الآلهة، وهي تخترق قلبه صوب باب الشمس، دجلة موطن الوجع منذ ألف عام حين دخلها هولاكو. في نهر دجلة يختلط الطين بالماء، حيث ماؤه الأحمر؛ لذا تحس بطعم الطين على شفتيك حين تشرب ماءه وهو ينزلق وجداً في ريقك كالزنجبيل. حكايات الشعراء العراقيين مع دجلة كثيرة، وبكائياتهم أمامه لا تعد ولا تحصى، وسعيد من يجاور هذا النهر الذي كان يتأمله هارون الرشيد وست الزبيدة كل صباح ومساء. من ماء دجلة تتحرك كاميرا المصور أسامة رشيد لتحكي قصة هذا النهر بأقل من دقيقتين، كيف أصبح وكيف حال الدهر عليه فجعله مزبلة.. علب سجائر طافية، أخشاب متكسرة، ملابس قديمة مجهولة غارقة، قناني ماء منقلبة على رأسها. وتنتقل الكاميرا فجأة إلى بيت قديم عند ضفة هذا النهر دجلة فتدخل إلى غرفة بها شاب يافع ينهض من سريره. وفي انتقالة ثلاثية للكاميرا، تشهد الفتى الصغير مهند وسط الشارع ماسحاً للأحذية وتجتمع كل هذه اللقطات والعوالم بين الفرضة والشعيرة لرشاشة دبابة أميركية تتجول في شوارع بغداد “اصطلاح عسكري يعني أن الجسد المراد قتله يجب أن يكون عند فوهة البندقية التي يوضع وسطها في مرتكز الشعيرة وفرضتها ليضمن القاتل، موت ذاك الجسد البعيد القريب من عينه وهو الجالس على دبابته يحصي أنفاس الناس في بيوتهم”. المشهد البانورامي كل ذلك يجري في فيلم “كرنتينة” للمخرج العراقي عدي رشيد في 88 دقيقة ومن تمثيل أسعد عبدالمجيد وعلاء نجم وحاتم عودة وحيدر منعثر وساجد علي وروان عبدالله وسامي عبدالحميد وازادوهي صموئيل وعواطف نعيم وعواطف السلمان. هذا المشهد البانورامي كان حاضراً بقوة، إلا أنه مشهد مشتت لا ترتبط العناصر فيه برؤية بنيوية واضحة، أي أن السبب والمسبب غير متجانسين، ولكن حين يشرع الفيلم في سرد حكاية ما سيحصل نرى أن هناك قضية وهي: أسرة صغيرة مهاجرة تتكون من الأب “صالح” والزوجة “كريمة” والابنة “مريم” والابن الطفل “مهند” يسكن معهم في الطابق العلوي من بيت قديم يقع عند نهر دجلة قاتل لا اسم له “س”، ويعود هذا البيت إلى شخص مجهول أيضاً يرد ذكره في الفيلم باسم “الأستاذ”. كريمة الزوجة الثانية لصالح ومريم ليست ابنة كريمة والرجل صالح يمارس طقوساً دينية والقاتل في الطابق العلوي يمارس طقوس القتل المجاني، بينما نجد هناك علاقة حب وجنس بين الزوجة كريمة والقاتل المأجور. والجميع يديرهم “طالب” الشخصية التي تعتبر حلقة وصل بين المجهول الذي اسمه “الأستاذ” والعائلة والقاتل، وهو صاحب الأوامر التي على القاتل أن ينفذها. تجريد وواقعية وشفرات دلالية كثيرة واختلاط في الرموز وما هو شخصي يتعالق مع ما هو عام وما هو إنساني يتداخل مع الوحشي في الكون العراقي وثمة صراع/ تجانس، حب/ قتل، وحمام أبيض/ وداعة ومسدس أسود/ قتل، وغضب/ احتراق، وابوة/ زنا بالمحارم، وخيانة/ رضا.. كل هذه التناقضات نجدها في فيلم “كرنتينة”.. وقد نتساءل: هل هذا دليل عافية الفيلم، أم أنه دليل انفلات الخيط الرابط بين مفاصل ما جرى في الفيلم؟ حسناً.. لنقرأ ما جرى بدقة.. المقدمات تقود إلى النتاج، الزوجة يتنازعها شخصان، رجل متدين يسلك سلوكاً وحشياً بانتهاك المحرم ورجل قاتل يتلذذ بإطلاق الرصاصة في رأس القتيل خاصة أصدقاءه. الليل غاب عن الفيلم والعالم الخارجي بكل صراعاته وتنافراته وجنونه غاب عن الفيلم، ظل الحدث يدور في حلقة الشخوص وكأن المخرج أراد أن يقدم حكاية بكل مفاصلها ضمن زمن محدد، ومكان محدد، لم يخرج به إلى بغداد كلها إلا مع حركة الدبابة “الأميركية” التي ترصد العالم بين الفرضة والشعيرة. المعادل الموضوعي عندما يحرق صالح الأب النفايات نجد غضباً على وجه مريم الابنة التي انتهكت كمحرم، هنا يتولد المعادل الموضوعي حينما يستعاض بالنار بدلاً عن الغضب والحوار، وهذا يسجل لعدي رشيد حقاً. “مريم” أصابها الخرس، حيث لم تتحدث لـ4 أيام متوالية، ويذهب القاتل مع “طالب” ليدبرا خطة لقتل أستاذ جامعي، إلا أن القاتل يختصر الزمن فيدخل عليه عند محل البقالة ويرديه قتيلاً، وينقل طالب طريقة القتل إلى “الأستاذ” الشخصية المجهولة الذي لم يرض عن هذا الاستعجال. الأب “صالح” يتوسل الله الغفران ويردد أنها ساعة الشيطان.. فهل تلبس صالح الشيطان نفسه هذا ما تكشفه الخالة فضيلة “عواطف نعيم” التي تمارس السحر عندما يجلبها صالح لتخلص ابنته من الشيطان الذي تلبسها لتكشف لها “كريمة” أن الشيطان هو صالح نفسه. الشيطان لا يوجد في جسد “مريم” فقد تلبس جسد “صالح” وجسد “كريمة” الزانية التي تمارس الحب مع القاتل في الطابق العلوي وقد تلبس الشيطان جسد القاتل أيضاً وكاد أن يتلبس جسد “مهند”. هناك مجتمعان في الفيلم أولهما مجتمع الكرنتينة، وهو مجتمع فاسد وآخر هو مجتمع المدينة الذي يضم بائعة القيمر “الممثلة عواطف السلمان” التي يجلس قربها مهند ليصبغ الأحذية والعم أبو ربيع الذي يبيع الشاي عند باب الجامعة “الممثل سامي عبدالحميد” والدكتور علي وزوجته الدكتورة هناء الأستاذان الجامعيان اللذان يمران يومياً على أبو ربيع ليشربا شايه منذ أن كانا طالبين في هذه الجامعة التي يدرسان فيها الآن، وأب القاتل الرجل العاجز وأم القاتل “الممثلة زهرة الربيعي” والمصور زياد وأمه “الممثلة ازادوهي صموئيل”.. مجتمع المدينة المسالم يقابله مجتمع الكرنتينة المنحل.. وكل ذلك نبصره من عين القاتل المأجور الذي تتابعه الكاميرا لكونه سقط متاع المدينة. هنا نجد أن القتل لم يكن منظماً بل بدا ينحو منحى شخصياً أساسه الانتقام “مقتل الأستاذ الجامعي ومقتل الدكتور علي ومقتل أم المصور زياد” على يده المأجورة وجميع حالات القتل لديه بدت بدوافع شخصية فكل هؤلاء كانوا زملاء وأصدقاء القاتل عندما كان طالباً في الجامعة، في الوقت الذي كانت الدكتورة هناء حبيبته التي افتضها بقوة نوازعه الوحشية بعيداً عن زمن الموت والدمار والاحتلال، وكأن بنية الشخصية الهمجية هذه جاءت مهيأة من زمن ماضٍ هل أراد الفيلم كل هذا؟ الجثث والتفجيرات حسناً.. يتعرف “مهند” و”مريم” إلى ما يجري بين كريمة والقاتل من علاقة جنسية غير شرعية ويأتي صوت عفيفة إسكندر عذباً ويتألم مهند، وهو يجلس على السلم الخشبي، وتهب خلفه عاصفة من المحرم.. الجثث والتفجيرات. يذهب القاتل إلى أبو ربيع بائع الشاي ليذكره بحبيبته هناء وصديقيه “علي وزياد”، ويعود إلى بيت أسرته، ويخرج كل الصور القديمة ليحرقها وكأنه يحرق كل تاريخه الشخصي. ثمة انتهاك مزدوج يحصل في النص: الأب/ الابنة القاتل/ الزوجة وقبلها هناء ويحرق القاتل كتاب مهند المدرسي كي يخلق منه قائلاً ويذهب مهند ليصبغ الأحذية عند جدار مدرسته ويجره هذا الموقف إلى أن يصبح قاتلاً غير أن “كريمة” التي تفصح عن مكنوناتها ترفض الطرفين الزوج المتدين/ المنتهك حراماً والقاتل/ المنتهك تاريخاً. الحلم يأتي جميع المقتولين إلى حلم القاتل في لحظة استذكار، يأتي جميع الرافضين من مجتمع المدينة المسالم في لحظة استذكار حقيقية في حلم القاتل، والحرائق تأتي كلها، الأب يأتي، علي، أم زياد الكسيحة، الأستاذ الجامعي، أما الزوجة “كريمة” فتتحول في حلمه إلى “عاهرة”، بينما يضيع مهند في شوارع بغداد بين أوراق كتبه المدرسية الممزقة. اللقاء يلتقي القاتل أخيراً مع السيد “يكشف عن اسمه أحمد” (الممثل حكيم جاسم) الذي يبلغه بأن ما يحصل لن يرضى عنه الجماعة، حيث يقوله “إحنا ناس منظمين.. لا نقبل بسلوكك الشخصي وبخروجك عن أوامرنا”، هنا يتولد الخرق الذي لا يقبل به الأستاذ، ولا أعرف كيف تولدت هذه الفكرة، وهي فكرة غير منطقية ولا تجانس الواقع.. أما اللقاء بينهما فكان بارداً لا يرقى إلى مستوى الصراع. كريمة تسأل مريم أن تتكلم وتعلن عن الرجل الذي اعتدى على شرفها، ويحتج القاتل على الأستاذ ويقرر الأخير قتله على يد “طالب” الذي يرميه في “دجلة”، وصالح لا ينسى طقوس تعبده، وهو الخاسر الآخر بهجرة عائلته “كريمة، ومريم، ومهند” ومغادرتهم الكرنتينة. ثمة رموز واضحة لا لبس فيها تتحدد في 3 شفرات، وهي صالح وعالمه الديني والقاتل وعالمه الوحشي وكريمة ومريم ومهند الذين اختيروا أن يمثلوا شريحة من الشعب الذي انتهكت حرمته والذي يرفض هذين الطرفين فيختار طريقه بالخروج من الكرنتينية. حملت جميع الشخوص أسماء إلا القاتل فقد ظل بلا اسم، حيث حيده المؤلف وجعله خارج التاريخ، كما لم يتمتع صالح بخصال اسمه، حيث صار رجلاً زانياً بالمحارم. من قبل كتب فؤاد التكرلي في الزنى بالمحارم روايته “الرجع البعيد” وكانت أجواؤها في عالم شبيه بعالم النزل، كما كتب “الوجه الآخر” الذي قرأ فيه شخصيات النزل السيد هاشم الأعمى وحليمة ومحمد جعفر وزوجته العمياء، حيث يلتقي محمد جعفر بحليمة في اقصاء للعمى.. أجواء ليست جديدة على السينما والرواية العراقية، لكن جديدها أنها جاءت في زمن مختلف. اهتم عدي رشيد بالحكاية فحاول أن يقدمها بكل مفاصلها، وكان يريد بإخلاص أن يوصل رموز نصه إلى المتلقي وأن يعيد للواقع سماته وخصائصه الوحشية في هذا الزمن، حيث الأحداث لا إنسانية ولا طبيعية وكل شيء ينهار في مجتمع كان متماسكاً حتى صدمه الحرب التي ابتدأت من الداخل، كما يراها عدي رشيد لكن فؤاد التكرلي سبق أن شخصها منذ عام 1948 عندما بدأت الحروب الداخلية متجانسة مع احتلال بغداد في الزمن الغابر. استطاع عدي رشيد أن يقدم أنوثة شابة منتهكة من فكر متخلف وطفولة بريئة منتهكة من قاتل مأزوم وأنوثة بحاجة إلى اطمئنان يتنازعها زوج متوحش وعشيق دموي. كتب سيناريو الفيلم وأخرجه عدي رشيد نفسه وربما كان همه إخراجياً في الدرجة الأولى، حيث راهن عدي رشيد على أن هذا العالم لم نتعرف إليه بعد، إنه عالم تخلقه الأزمات الكبرى، حاول أن يمسك فيه القضية عبر شخوص هؤلاء الأبطال المرمزين ولم يقترب من تلك الدبابة التي كانت تتجول في شوارع بغداد بحثاً عن هدف لترديه قتيلاً. مخرج وروائي وُلد عدي رشيد في بغداد ونشط في المشهد السينمائي العراقي منذ شبابه، كتب وأنتج وأخرج أول أفلامه الطويلة بعنوان “غير صالح للعرض” الذي كان أول فيلم يصنع في العراق بعد الاجتياح الأميركي، فاز الفيلم بجوائز عديدة من بينها جائزة أفضل فيلم في مهرجان سنغافورة السينمائي الدولي عام 2005، عدي رشيد كاتب روائي أيضاً وأحد مؤسسي مركز الفيلم العراقي المستقل.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©