الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الثورة الناعمة... والسرد بأصابع من حرير

الثورة الناعمة... والسرد بأصابع من حرير
20 أكتوبر 2010 19:47
لا شيء مثل السينما يجعل الروح تبرق والقلب يسقط في الفتنة... الساحرة الخبيثة يمكنها أن تذهب بك إلى حقول لم تزرها روحك من قبل...أن تشعل فيك الحنين أو تصادرك لحسابها إلى أجل غير مسمى. والصورة لا تبدو صميمية ولا تحيا كما يحدث في الفن السابع. بإمكان هذه اللعينة أن تشدك من يديك طائعاً مختاراً لتجلس في حضرتها عاجزاً عن أن تنبس ببنت شفة أو تأتي بحركة... حتى الموسيقى تختلف عليك حين تأتي مترافقة مع مشهد جميل... إنه السحر الذي يدخلك في الرهبة، ويضعك على حواف المتعة، يهبك جناحان ويرسلك إلى السماء لكي تطير أو ... تحلق. في السينما كما في الحياة لا تكفي النوايا الطيبة لتصنع فيلماً. ويبدو أن السينمائيات أدركن هذه الحقيقة جيداً فاجتهدن واشتغلن وقررن أن يكنسن النوايا الطيبة وغير الطيبة، وأن يتكئن فقط على حصاد كاميراتهن لا حصاد ألسنتهن التي لا تسمن ولا تغني من جوع إذا جدَّ الجد... ويبدو أن ثمارهن كانت ناضجة في الغالب وسلالهنَّ جاءت ملأى. فقد قدمن في مهرجان أبوظبي السينمائي لغاية الآن على الأقل أفلاماً جيدة، مشغولة بعناية وشفافية وحس عالٍ ببلاغة الصورة وتمكن من الأدوات الإخراجية وفنيات الفيلم الأخرى. لقد حضرن بقوة في مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الرابعة، ولم يكن هذا الحضور سوى ترجمة لحضورهنَّ في الحياة، لا أكثر ولا أقل. هكذا يمكن تلخيص الإسهام النسوي في الفعل السينمائي، وهو إسهام لافت على كل حال، تدلك عليه مهارات النساء البصرية والتقنية، وهن يرتبن المشهد على هوى التوق أو ينسجن الصورة على سجادة الكلام أو يهندسنَ البوح والألم أو يشجبن الحروب والعنف والكراهية أو يبنين مملكة النساء أو يتحدثن عن نساء بلا ظلال لكي يصنعن لهن ظلالاً تليق بهن، بعيداً عن نون النسوة وصداعها الأزلي مع ثيمة الجسد. حكايا النساء لا تكاد تغيب عن أي فيلم من أفلام المهرجان بوصفهنَّ جزءاً من الحياة، لكن هذه المقاربة لا تتحدث عن الصورة التي ظهرت بها النساء في أفلام المهرجان، بل تقتصر فقط على قراءة حضور النساء في صناعة الفيلم، أي تجارب النساء في عالم الإخراج واهتماماتهن وتفاصيلهنَّ التي غالباً ما تضفي على سحر السينما سحراً خاصاً. صنع بأيديهن حين ذهبت لحضور الأفلام التي صنعت بأيدي النساء، كنت أظن أنني سأقع على ثيمات أنثوية أو نسوية أو ما شابه مما يجري الحديث عنه حين يطرح موضوع “سينما المرأة” على طاولة النقاش أو الحوار، لكنني وجدت شيئاً مختلفاً. كل شيء في حياتنا كان محط اهتمام من النساء المخرجات وتحت مرمى كاميراتهن: الفقر، الكوارث، الحروب، الحب، العائلة، المرأة، السياسة، الحرية، الإرهاب وغير ذلك. بالطبع، لم تغب المرأة وأنوثتها ولا حسها النقدي تجاه موقف الثقافات والمجتمعات “الجنسوي” منها غياباً كاملاً، لكنه لم يأت فجاً ولا مباشراً ولا خطابياً بل تسلل بهدوء ليغلل المشاهد بغلالة رقيقة وليكون خيطاً من خيوط الفيلم، لوناً من ألوانه الكابية أو البراقة، فاعلاً وجوهرياً ومؤثراً وعميقاً ومشاغباً، لكنه أشبه بالضرب بيد ترتدي قفازاً من حرير، تصفع من دون أن تحدث صوتاً أو جلبة... حضور هادئ يهزك بلطف لكي تفتح عينيك على ما يجري حولك/ الخارجي في الحياة أو حولك/ الداخلي أو ما يتدخلن فيك من تناقضات وربما من... “اللامسؤولية” أو “اللاكتراث”. ثمة أسئلة صعبة كثيرة طرحتها النساء، أسئلة كونية شاسعة، كما هو قلب المرأة تماماً... أسئلة “شاقولية” تحفر عميقاً في الذات الإنسانية وتكشف الصدأ عن الروح البشري الغارق في عالم ينهار أو يبدو على وشك الانهيار. وثمة أسئلة تؤسس لفعل ينبغي أن يأتي، فعل سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي أو بيئي أو حتى شخصي يحرك سكون الواقع الذي غالباً ما يكون منقوداً ومحلاً للهجاء من المخرجة، وبقسوة تنم عن حزن عميق وخسارات هائلة. وعبر الأسئلة المطروحة يجري صوغ صور جديدة /مقترحة/ موعودة للذاكرة والطفولة والعلاقات الإنسانية والهموم الاجتماعية والصحة والحب والحياة. صياغة لا تقف عند حدود الطرح الفكري، بل تتعداه إلى الأسلوب الفني ونمطية الصورة السينمائية ذاتها. الحياة ضد الموت شبح الحرب وحضورها الكارثي في حيوات الناس والبشرية، كان المحرك الأساسي أو الثيمة المعلنة في عدد من الأفلام منها: فيلم ديبورا سكرانتون “أرض من زجاج”، وفيلم “القسم” للأميركية لورا بويتراس... وفيلم “في عالم أفضل” للدنماركية سوزان بيير، وفيلم “مملكة النساء” للبنانية دانا أبو رحمة، وفيلم “دموع غزة” للنرويجية فيبكة لوكبرغ، التي لم تستطع أن ترى ما يجري في غزة وتصمت كما فعل كثيرون، بل قررت أن تصنع فيلمها لتقول للعالم إن ما يحدث هناك جنون كامل. تقول في معرض تعليقها على الفيلم إن المرء “يعجز عن سرد ما جرى، وإن الصورة رغم أهميتها لا تقول كل شيء؛ لأن ما حدث أكبر من كل قول ومن كل صورة”... لكنها لا تملك سوى كاميرتها وشجاعتها التي أخذتها إلى غزة حين كانت كل وسائل الإعلام ممنوعة من الدخول. صورت فيلمها تحت القصف الإسرائيلي لقطاع غزة من ديسمبر 2008 حتى يناير 2009، وهي تحمل دمها على كفها، كانت معرضة للموت تماماً مثل كل الغزيين، لكنها رأت أن الأمر يستحق. لم يكن بإمكان من شاهدوا الفيلم أن لا تبكيهم دموع غزة أو تحرقهم النيران التي تنصب عليها، ليس فقط لأن الفيلم يعرض مشاهد معذبة وموجعة تحفر في اللحم، كما السكين وتفري القلب والروح، بل لأن فيبكة أمسكت بتلابيب الصورة بكل حذق وبراعة وجعلت منها وثيقة بصرية شديدة الثراء ومكتنزة بالأبعاد الإنسانية التي بلورتها ثلاث قصص لأطفال على عتبة الصبا يحكون عن أحلامهم ومشاهداتهم ومعايشتهم للقصف ووحشيته. وأيضاً لأنها تمكنت من تجسيد بشاعة الحرب وإدانتها والتنبيه إلى ما تورثه من أحقاد يصعب نسيانها أو تجاوزها. وفي فيلمها لا توثق فيبكة أحداثاً فقط بل تعلن صرخة ضد الحرب ودعوة للضمير كي لا يترك شعباً أعزل تحت نيران العنف والقتل الذي ينتهك كل القيم الإنسانية، بل ويستهين بالحياة نفسها. وعلى خلفية الحرب وتداعياتها على النساء، تنجز دانا أبو رحمة في فيلمها “مملكة النساء: عين الحلوة” شهادة بصرية وفكرية عن الصلابة الاستثنائية التي يمكن أن تظهرها المرأة في الحرب. عن الحب اللامتناهي للحياة في مقابل الموت. عن الصمود والبناء في مقابل الاندثار والتدمير. ولا تنسى أن تنحاز بشكل واضح لجماليات العمل السينمائي سواء في زوايا التقاط الصورة أو في طريقة تحريك الكاميرا لتحدث الإيقاع البطيء أو السريع المناسب لحالة السرد، علاوة على حرصها على إضفاء أبعاد شاعرية على حكي بطلاتها باستخدام تقنية تحريك الصور “انيميشن” متغلبة بذلك على شح المادة الأرشيفية المتعلقة بالاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت في عام 1982، وهي الفترة التي يرصدها الفيلم، والتي اعتقل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي كل رجال المخيم ولم يترك سوى النساء والأطفال، فما كان من النساء إلا أن أعدن بناء البيوت المهدمة وزرعن الأشجار وبنين المدارس و... أعدن الحياة إلى العمل. قيمة هذا الفيلم لا تكمن فقط في قدرته على اقتناص حكاية منسية وغائبة لبث روح الحياة فيها، أو تسجيل لحظات الضوء الهائل التي تجتاح النساء في أوقات الأزمات فيضيء جمالهن الداخلي كل ما حولهن. إنها القدرة السحرية، تلك القدرة الهائلة على صنع الحياة التي اعتادت النسوة على صناعتها في أرحامهن، سرعان ما تخرج بكل صلابتها وعنفوانها لتأخذ الحياة بكل قوة، وتخلق من الدمار والخراب في أحلك الظروف حياة كاملة أو مملكة كاملة. بهدوء وبمرح وبإنسانية تحتمل كل التفاصيل الصغيرة، نستمع لنساء سبق أن عرفن الاعتقال أيضاً، وهن يروين القصة، وفي الفيلم متسع للحب والحلم والضحك أيضاً... لم لا؟ أليست تلك هي روح الحياة. وفي فيلمها “في عالم أفضل”، لا تبني سوزان بيير “عالماً أفضل” عبر تخييل العلاقات الاجتماعية والعائلية فقط، بل تصنع صورة بصرية شديدة الإيحاء ملأى بدلالاتها وحمولاتها الفنية. وحين تشاهد الفيلم تجتاحك رغبة حقيقية في أن تعيش “في عالم أفضل” بحق، عالم محلوم به، مستدعى، مرغوب، رغم الحواجز الكثيرة التي تشعل المرارة في الروح والتي لم تمنع المخرجة من تشييد فيلم جميل، يتحرك بحرية ويتجول بهدوء في عوالم صغيرة هي في الوقت ذاته عوالمنا الكبيرة التي تنتج الحروب والعنف والوحشية. إنه فيلم مشغول بعناية، قادر على أن يأسرك ويأخذك إلى ذاتك في رحلة عميقة الغور، بعيدة المرامي. أما في فيلم “أرض من زجاج” الذي يتناول جريمة الإبادة الجماعية في رواندا، فقد بدت الأرض بالفعل من زجاج سرعان ما تهشمت أخلاقياته وفاح عفنه، حيث الأجواء الملوثة برائحة التطهير العرقي والإبادة التي شهدتها البلاد في عام 1994. وها هي المخرجة التي لطالما تعرضت في أفلامها للحروب والنزاعات وصورت بشاعاتها وهي تترى في العراق تأتينا بفيلم جديد ولاذع عن رواندا. فيلم يشبه الملح حين يوضع على جرح، جرح البشرية التي تعاني ضائقة إنسانية وتراجعاً في منسوبها الأخلاقي وجفافاً في الضمير. تضعنا المخرجة أمام همٍّ كهذا وتتركنا نواجه إنسانيتنا الخربة، المعطوبة، التي سمحت لمثل هذا أن يحدث وظلت تتشدق بالتحضر والحرية وغيرها من الكليشيهات إياها. تحكي ديبورا سكرانتون عبر روايتها لقصة جان بيار ساغاهوتو حكاية الحرب كلها. فالرجل الذي نجا من الإبادة وظل لمدة 15 عاماً مسكوناً بجريمة قتل والده التي ظلت بلا حل طاف في الريف الرواندي باحثاً عن أدلة، ليجد نفسه في نهاية المطاف أمام القاتل وأمام خيار صعب في الوقت نفسه: هل ينتقم أو يغفر؟ الخراب.. صور متعددة رغم كونها الثيمة الأكثر بروزاً في أفلام النساء، إلا أن الحرب تراجعت عن أفلام أخرى، لتفسح المجال لثيمة أخرى لا تقل عنها سوداوية أو مأسوية هي ثيمة الخراب... خراب متعدد الصور والأشكال وطرق المعالجة، فهو خراب اجتماعي مرة، وخراب شخصي مرة أخرى، وخراب كوني مرة ثالثة وخراب نفسي مرة رابعة وهكذا... لكن الخراب يمكنه أن يكون جميلاً أيضاً، كما في فيلم “أرض خراب”. لا أدري لماذا أطلقت لوسي ووكر على فيلمها اسم: “أرض خراب” رغم أنه يحفر في أرض “عمار” وثرة بالإبداع وبكل ما يجعل الروح الإنسانية قوية وقادرة على مواجهة الإحباطات المختلفة، ورغم أن مقولته الأساسية تتمحور في الدعوة إلى اكتشاف قوة الداخل ومكامن الإبداع الثاوية فيه. فالفيلم وعبر رصده لتجربة الفنان البرازيلي العالمي فيك مونيز، الذي اشتهر بأعماله التجهيزية التي يستخدم فيها مواد غير تقليدية بما فيها القمامة وفضلات الطعام ليخلق أعمالاً ذات رسائل مجتمعية، يؤكد أن الجمال يمكن أن يولد في أي مكان بما في ذلك حاويات النفايات، كما يمكنه أن يكون وسيلة مثلى واستثنائية لإيقاظ الشعور باحترام الذات وقدراتها ليس عند الفنان فقط، بل عند الناس العاديين، الذين يقومون بجمع النفايات له ليعيد تشكيلها في عمل فني. إنها حكاية الهامشيين الذين يعيشون تحولات نفسية وفكرية تعيد تأثيث عالمهم الداخلي والخارجي على حد سواء، بحيث يصبح إحساسهم بوجودهم في الحياة أعمق وذي جدوى. ربما يكون التفسير المنطقي الوحيد لكي يحمل الفيلم هذا الاسم كامن في الأعمال التي ينتجها الفنان، والتي توجه في الغالب رسالة تأنيب شديدة اللهجة لعالم يرضى بأن يكون الفقر موجوداً والإنسان مهملاً ومتروكاً ومنسياً إلى هذا الحد. ولا تذهب كولين سيرو بعيداً عن الخراب، لكنها تؤشر إلى خراب من نوع آخر. خراب أصاب طعامنا وعافيتنا البدنية والفكرية أيضاً. ففي فيلمها “حلول محلية لفوضى عالمية” تحكي عن حل سحري يعالج الخراب الغذائي الذي يرزح العالم تحت وطأته. إنها تقترح الطعام العضوي حلاً لمعضلة يعانيها البشر وفي طريقها تدين ممارساتنا اللاعقلانية والمدمرة لأجسادنا وبيئاتنا وكرتنا الأرضية التي ترزح تحت نير ظلم بشري لم يسبق أن عاشت مثله. ميزة الفيلم لا تكمن في موضوعته الفكرية، بل في الطريقة التي عولجت بها مسألة الغذاء الذي نتناوله، فهي تصوغه رؤيوياً من منظور سياسي وتقاربه باعتباره شراً لا ينبغي السكوت عليه. وفي قراءتها السينمائية، تقدم قراءتها الفكرية لمعضلة ترى أنها حصاد نوع من العنف الذي نرتكبه ضد أنفسنا، كيف؟ تقول إن الصدام بين الزراعة العريضة والصناعة منذ الحرب العالمية الثانية أنشأ نظاماً زراعياً ترعاه أدوات الحرب ومناهجها حتى أصبح هذا الملمح الرئيس من إنسانيتنا فعلاً عنيفاً نرتكبه ضد بعضنا. ولهذا، تعرض لنا تجارب عالمية مختلفة تطبق وسائل مختلفة لإنتاج الغذاء بصورة طبيعية لنرى كم أننا بتنا بعيدين عن المنظور الصحي حيال ما نغذي به أجسادنا وعقولنا. ثمة إلماحات وإشارات إلى أن الطريقة التي ننتج بها طعامنا أحد أسباب وجود الجوع في هذا العالم. تقول إحدى بطلات سيرو: “حين يدار إنتاج الطعام وكأنه بضاعة، فإن الناس سيتضورون جوعاً وستمشي السيارات على المواد الغذائية”... كلام يستحق فيلماً و... وقفة متبصرة. أما فيلم “زفير” للتركية بيلما باش فهو اسم على مسمى، إنه فيلم يجعلك تطلق زفيراً طويلاً بعد مشاهدته لكي تتخلص من كم غير قليل من التوتر والترقب الذي يجتاحك وأنت تتابع حكاية خراب نفسي وروحي تعيشه بطلته المراهقة، الذاهلة عما يحيط بها من جمال طبيعي تفننت الكاميرا في رصد سحره وبهائه الريفي، الغافلة عما حولها لا همَّ لها سوى مراقبة الطريق الذي سيحمل لها والدتها لتملأ الفراغ الذي تركه غياب والدها في حياتها. تأتي الوالدة بالفعل، لكنها لا تحدث فرقاً إيجابياً في حياة الصبية، بل تزيدها قلقاً وتوتراً، وتضيف المزيد من اللاتوازن إلى عالمها اللامتوازن. في منطقة بالغة الخطورة، تمارس المخرجة اشتغالها الفني، تسبر أغوار الفتاة لتقدم لنا مقاربة سيكولوجية محكومة بوعي فارق، وهي تسبر أغوار وجعها الداخلي ودماراتها وخساراتها وهي تكبر بلا وجود لتوجيه الأب أو الأم. ولهنَّ شؤون أخرى في محاولتهن لإبداع أشرطة مختلفة، ذهبت بعض المخرجات إلى موضوعات غير مطروقة وأفكار جديدة تعبر عن الابتكار على صعيد اختيار الفكرة، كما فعلت دينا حمزة في فيلمها “داخل/ خارج الغرفة”، ومها مأمون في شريطها “سياحة داخلية 2”. استعانت مها بمشاهد من عشرين فيلماً مصرياً اختارتها بعناية، وحشدت فيها عدداً كبيراً من نجوم السينما لا يمكن أن يجتمعوا في فيلم لبعد الشقة الزمنية بينهم، لكن المشترك في المشاهد هو ظهور الأهرامات التي أرادت من خلالها أن تطل على ذاكرة المدينة والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية التي شهدتها القاهرة. وفي جرأة فنية، عرضت الفيلم من دون أي تعليق صوتي واكتفت بالصمت الذي يحيلك إلى تأويلات شتى. لعلها بلاغة الصمت التي تتقن الإفصاح عن غربة الأهرامات التي ترى المخرجة أن اهتمامها بها جاء “عندما شعرت بغرابتهم وسط السياق الحضاري لمدينة القاهرة”. أما دينا حمزة صاحبة “داخل/ خارج الغرفة”، فتدخلنا إلى غرفة الإعدام لا لتعلن أي حكم أو موقف تجاه هذه العقوبة التي غالباً ما تثير إشكالية بين رافضيها والمؤيدين لها، ولكن لتقدم لنا معالجة أخرى، في مكان آخر مختلف. تفتح باباً على شخصية الرجل الذي ينفذ حكم الإعدام من خلال قصة عم حسين أو “عشماوي”، كما يسمى في مصر. تغوص المخرجة في عالم هذه الشخصية التي تبدو قاسية داخل غرفة الإعدام التي يحكي فيها عشماوي التفاصيل كافة المتعلقة بتنفيذ حكم الإعدام، لتخرج منها صورة أخرى مخبوءة عنا أو مجهولة لنا تتجلى ملامحها خارج غرفة الإعدام، فالرجل “عشماوي” عبر السرد الفيلمي يبدو شخصياً عادياً مثل كل البشر: زوج وأب وشخص نزيه يكافح لكي يربي عائلته، وعاشقاً حالت الفوارق الطبقية بينه وبين تحقيق حلمه في الزواج ممن أحبها. كأن المخرجة تدعونا إلى عدم الاكتفاء بما نحمله من أفكار مألوفة أو نمطية عن الناس. كأنها تدعونا إلى التحديق جيداً في الذين يعيشون حولنا ومعنا. فعم حسين (63 سنة) داخل غرفة تنفيذ الإعدام ليس سوى موظف يقوم بواجبه، يؤدي مهمة مناطة به لا غير... أما كيف ننظر نحن إلى هذه الوظيفة، إلى هذا العمل، فهذا ليس شأنه بل شأننا نحن. بالنسبة إليه هو لا يرى في عمله سوى مهنة توفر له دخلاً إضافياً، والألف حالة من حالات الإعدام الموجودة في رصيده لا تسبب له أي شعور بوخز الضمير. لقد اعتاد على الأمر، هكذا يفلسف البسطاء أشياءهم: يضعونها تحت بند الألفة أو التعود بما في ذلك التعود على الموت ومصادقته. ربما لا يطمح الفيلم إلى أكثر من هذا، أعني إبراز التناقض الذي تبلغه الحياة أحياناً حين يكون موت أحدهم سبباً لحياة آخر... المشكلة ليست في “عشماوي”، بل في الحياة التي تحتاج إلى... “عشماوي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©