الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ماريو فارجاس يوسا.. الرجل الطاووس

ماريو فارجاس يوسا.. الرجل الطاووس
20 أكتوبر 2010 19:50
ما أن يفوز أحد بجائزة ما حتى تنهال عليه، إلا فيما ندر، الأوصاف الرائعة التي تؤكد أنه يستحق هذه الجائزة، بل إن البعض يرى في شخصه أنه أكبر من تلك الجائزة أو أنها جاءته متأخرة، وإن كان من حين لآخر تتعرض جائزة نوبل للآداب ومعها ما تسمى “جائزة نوبل للسلام” تحديدا لسيل من الاتهامات لمن يفوزون بها نظرا لما يحيط بها من مناخ سياسي أدى إلى فوز العديد من الكتُاب الذين يقلون قيمة عن غيرهم من زملائهم كُتاب تلك اللغة، أو أن يتجاهل الفائز هذا الفوز بل ويرفضه كما فعل برنارد شو، إلا أن فوز الكاتب الإسباني حاليا، والبيرواني سابقا ماريو فارجاس يوسا بهذه الجائزة فتح أمامه باب المديح وباب الاعتراض على فوزه بها على حد سواء، المديح معروف ولا يزيد أو يقلل من موهبته، ولكن باب الاعتراض على فوزه كان هذه المرة مستحقا، لأن مواقف الكاتب نفسه التي تدفع إلى الاعتراض معلنة ولا تقبل مجالا للشك، وعليها دلائل لا تتطلب التشكيك فيها أو حتى تقبل الرد عليها، لأنها دلائل ثابتة، ومعظمها مخطوط بخط يده، أو مسجلا بصوته. فما أن أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية، نبأ فوز الأديب الإسباني/ البيرواني ماريو فارجاس يوسا بجائزة نوبل للآداب، حتى انهالت عبارات المديح بالطبع على نبأ فوزه، ولكن في الوقت نفسه برزت على الفور أسباب اعتراض الكثيرين على هذا الفوز، فلا يزال ماثلا أمام الأذهان تحوله المفاجئ من اليسار الماركسي اللينيني إلى اليمين السياسي الأصولي الذي برز مع بدايات التسعينيات من القرن الماضي مطالبا بفتح الأسواق أمام الشركات متعددة الجنسيات على مصاريعها باعتبارها الطريق الوحيد نحو “التقدم” على الطريقة الأميركية، متناسيا المآسي التي تركتها ولا تزال قائمة تلك الشركات في دول أمريكا اللاتينية التي نشأ فيها يوسا نفسه، ولم يتوقف عند اعتناق هذه الأفكار بل انه تقدم بترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة في بلاده (سابقا) البيرو عام 1990 بدعم من تلك الشركات، ولم يتخل عن أفكاره تلك حتى بعد أن فشل في تلك الانتخابات وكأنه أراد عقاب الشعب الذي رفضه رئيسا بتخليه عن جنسيته وطلبه الجنسية الإسبانية ليتجول بجواز سفرها في العالم كله، وهو ما لم يكن يوفره له الجواز البيرواني. لا أحد يمكنه أن ينكر موهبة ماريو فارجاس يوسا كروائي مبدع أنجبته تلك الثقافة الثرية بإبداعها والتي قدمت العشرات بل المئات من المبدعين البارزين في مختلف مجالات الإبداع الأدبي والفني، والذي يعتبر الآن الأكثر انتشارا في العالم، وخاصة انتماء هذا الكاتب إلى جيل من الروائيين ممن أطلق عليهم النقاد اسم “جيل البوم” أو “الانفجار” الذي قدم الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الحائز على نوبل عام 1982، والمكسيكيين خوان رولفو وكارلوس فوينتيس، والأرجنتيني خوليو كورتاثار، وغيرهم، بعضهم أكثر شهرة وبعضه الآخر أقل شهرة، ولكنهم في الحقيقة قدموا إضافات مهمة إلى الإبداع العالمي، بتجاوزهم المستمر لنمط هذا الإبداع. كانت رواية “المدينة والكلاب” الرواية الأولى ليوسا، والتي بدأت بها شهرته، كما منح عنها جوائز عديدة منها جائزة “المكتبة القصيرة” عام 1962 وجائزة “النقد” عام 1963 وتُرجمت إلى أكثر من أربع عشرة لغة أجنبية، كما حظيت روايته الثانية “البيت الأخضر” بالنجاح نفسه، ثم توالت أعماله الروائية، ومن أهمها: “محادثة في الكاتدرائية”، و”بانتاليون والزائرات”، و”حرب نهاية العالم”، و”قصة مايتا”، و”امتداح الخالة”، و”دفاتر دون ريجوبيرتو”، و”من قتل بالومينو موليرو”، و”شيطنات الطفلة الخبيثة”. إضافة إلى كتب أخرى تدخل في إطار النقد والتنظير، وأكثرها شهرة في هذا المجال: “رسائل إلى روائي شاب” والذي يعده كثيرون من أهم كتب النقد الأدبي، وقد افترض في هذا الكتاب أن كاتبا شابا يريد النصيحة، يراسله ويرد عليه يوسا بشكل رسائل مليئة بالتشويق، والنصائح التي تدفع به ليصبح الشاب كاتبا ناجحا في المستقبل. من أبرز النصائح التي تضمنها هذا الكتاب والتي يقدمها يوسا لمحاوره الشاب: “إن من يدخل الأدب، بحماسة من يعتنق دينا، ويكون مستعدا لأن يكرس لهذا الميل، كل وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون في وضع يمكنه أن يصير كاتبا حقا، وأن يكتب عملا يعيش بعده”، كما أعطاه أمثلة حياتية غاية في التبسيط، لأجل أن يفحم قارئه، ويجعله مستوعبا الدرس البليغ، وهو أهم ما تمتلك الرواية من أسرار، ويحوى كشفا كبيرا على روايات بديعة من مختلف اللغات بلا استثناء. معظم المقولات التي كتبها بارجاس يوسا بقلمه في هذا الكتاب وغيرها من الممارسات الحياتية لافتة للنظر، وتكشف في الوقت نفسه مدى التناقض الذي يتمتع به هذا الكاتب والإزدواجية بين شخصيته المبدعة وحياته، وهو الشخص المحب للشهرة والعاشق لفلاشات الكاميرات، ويبحث دائما عن لفت الانتباه إلى وجوده لأجل أي شيء وبأي طريقة دون تفكير في ردود الأفعال على طريقته هذه، فقد كان يعيش على طريقة ما يمكن أن نسميه “الرجل الطاووس”. فقد بدأ حياته معتنقا “الماركسية اللينينية” وتطرف فيها إلى أقصى اليسار عندما كان لا يزال كاتبا شابا، لأنها كانت في ذلك الوقت العملة الرائجة بين مثقفي أميركا اللاتينية في وقت كانت تخوض في شعوبهم حربا شرسة ضد الهيمنة الأميركية بكافة تجلياتها المخابراتية والعسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية. ربما كانت روايته “وقت البطلِ” الصادرة عام 1968 تجسيدا لهذا التوجه، فقد حاول فيها كشف كيفية تجنيد الضباط في جيوش دول أميركا اللاتينية حديثة الاستقلال للعمل في المؤسسات الاستعمارية السرية، وللقيام بانقلابات عسكرية لصالح الولايات المتحدة، وكان يقرّ بأن الرؤساء هم أول من يخونون بلادهم بمساعدتهم على استشراء الفساد الإداري في المرافق الحكومية. وأكمل مسيرته في إطار اعتناقه للأيدلوجية الماركسية في روايته المثيرة للجدل أيضا “حديث في الكاتدرائية” الصادرة العام 1975، والتي فضح فيها بعض رجال الدين الذين تعلو مصالحهم فوق مصلحة الدين والمسيح الذي يدّعون أنهم يتحدثون باسمه. ثم ذهبت روايته “الفردوس” أبعد قليلاً في هذا الاتجاه وحملت بعض الباحثين والنقاد إلى إطلاق لقب “الباحث عن الفردوس” على ماريو فارجاس يوسا، لأنه كان يتحدث في هذه الرواية عن الحلم والأمل والحرية والإيمان، وقدّم من خلالها فلسفة الرحلة الأجمل للوصول إلى إنهاء رحلة تحقيق الذات حيث يكمن سرّ الفردوس وجوهر اليوتوبيا الحقيقية، كما يقول. لكن مع ظهور بوادر انهيار تلك اليوتوبيا اليسارية وسقوط الاتحاد السوفييتي، وسيطرة فلسفة ما سمي بعد ذلك باسم “العولمة” وما تبعها من الدعوة إلى الأسواق المفتوحة أمام رأس المال، أي الشركات الأميركية الكبرى والشركات متعددة الجنسية، تحول ماريو فارجاس يوسا ممارسا طريقته الاستعراضية في جذب الأنظار إليه، خاصة أن علاقته مع زملائه وأصدقائه من جيله من الكتاب والمثقفين من أبناء أميركا اللاتينية بدأت في الانهيار، خاصة بعد أن حصل جابرييل جارثيا ماركيز على جائزة نوبل للأدب عام 1982، ما فسره البعض على أن موقفه هذا نابع عن “الغيرة” المتجذرة في الشخصية الأميركية اللاتينية والتي اكتسبها عن المستعمر الإسباني. وانطلاقا من تطرفه في اعتناق أفكار اليمين تماهى مع الفكر اليميني الأصولي في الولايات المتحدة، حتى وصل إلى حد التطابق معه بوصول جورج دبليو بوش إلى رئاسة الولايات المتحدة وما نتج عنه من سياسة أميركية متطرفة. وبعد أحداث 11 سبتمبر وظهور التوجهات الأميركية الهجومية في العالم، كان ماريو بارجاس يوسا من أبرز المثقفين الداعمين لتلك السياسة من خلال مقالاته الدورية التي يعتبر فيها أن القوة العسكرية هي الطريق الوحيد الذي يجب التعامل به مع رافضي الخضوع للعولمة. وكان لافتا للنظر أنه عندما انطلقت المظاهرات في شوارع العواصم الأوروبية الرئيسية ضد خطط إعلان الحرب على العراق واحتلاله بحجج بدت واهية، وكانت أكبر تلك المظاهرات تجري في شوارع العاصمة الإسبانية مدريد، والتي قدر المراقبون عدد المشاركين فيها بأكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون، وقف ماريو فارجاس يوسا ليعلن دعمه للحرب على العراق، ودعم قرار رئيس الوزراء الإسباني اليميني في ذلك الوقت خوسيه ماريا أثنار بمشاركة الجيش الإسباني في تلك الحرب... وتمادى يوسا في موقفه المتناقض مع مواقف معظم مثقفي بلاده، في إسبانيا وأميركا اللاتينية الرافضين للهيمنة العسكرية الاستعمارية، وسافر إلى بغداد بعد سقوطها على طائرة عسكرية أميركية وبرفقة ابنته (مورجانا) المصورة الصحفية، وأعلن من هناك أنه لا يزال يؤيد احتلال العراق.. بل إن ماريو فارجاس يوسا أكد على موقفه هذا بنشر مجموعة من المقالات الصحفية وجمعها فيما بعد وأصدرها في كتاب بعنوان: “يوميات من العراق” يروي فيها تفاصيل تلك الرحلة الغريبة التي استمرت 12 يوماً، في الفترة من 25 يونيو وحتى السادس من يوليو 2003. الحقيقة إن مواقف ماريو فارجاس يوسا ليست في حاجة إلى الكثير من العناء للبحث عن جذورها في حياته وممارساته اليومية، بل يمكن أن نجد إرهاصاتها في كتاباته ومقولاته التي تؤكد على أن ممارسته للكتابة لتحقيق أمجاد شخصية حتى لو تطلب ذلك ممارسته لعادات تتناقض مع موقف المبدع المبدئي، فهو القائل: “إن الرواية مملكة الكذب والشعر ضمير العالم.. فالإنسان إله عندما يحلم وشحاذ عندما يفكر” وهو شعار مارسه يوسا طوال حياته حتى حصوله على جائزة نوبل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©