الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«بين يديك».. أحلام فرنسية مثيرة

«بين يديك».. أحلام فرنسية مثيرة
20 أكتوبر 2010 20:00
الفيلم الفرنسي “بين يديك” للمخرجة لولا دوايون ومدته 80 دقيقة من نوعية الأفلام المتقشفة، ذات الميزانيات القليلة، لكنه في الواقع، عمل سينمائي آسر وممتع، لما يتمتع به من عناصر الإثارة والتشويق والحوار المقتصد، وجماليات الصورة، ويمكن اعتباره واحداً من أفلام الترقب، التي تنقل للمشاهد كادرا سينمائيا يصور سلوك شخصياته بصدق شديد والتزام في الفكر والمعنى والظاهرة الإنسانية، وقد رصد سيناريو الفيلم الذي هو عبارة عن ديالوج طويل الحالة النفسية لبطلي الفيلم كريستين سكوت بدور “آنا كوبر” طبيبة الجراحة النسائية والتوليد وتوماس مرماي الزوج الشاب الذي فقد زوجته فأصيب بحالة من الإحباط والنقمة. وقد شاهدنا الفيلم على مسرح أبوظبي بكاسر الأمواج ضمن مسابقة “آفاق جديدة” في مهرجان أبوظبي السينمائي في دورته الرابعة، وهي مبادرة طيبة يطلقها المهرجان هذا العام، وتتضمن أعمالا روائية طويلة ووثائقية لمخرجين من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن معظم أحداث الفيلم تدور في غرفة صغيرة مظلمة تم احتجاز البطلة فيها، مع توزيعات مشهدية ما بين قسم الشرطة، والمستشفى التي تعمل بها بطلة الفيلم، إلا أنه ينجح وبامتياز في جذب تركيز المشاهد طوال فترة العرض، من خلال التصوير الدقيق للعلاقة الشائكة بينهما، التي نعرف منذ أول لقطة من الفيلم أن بطلته تعيش “أزمة نفسية” بعد أن تم احتجازها بالقوة لعدة أيام. من خلال الحدث الاسترجاعي (الفلاش باك) نكتشف أن الطبيبة كانت قد أجرت عملية ولادة قيصرية لزوجة الشاب، أدت الى حدوث آثار جانبية أودت بحياتها، فقرر الانتقام منها. تتوالى أحداث الفيلم لنكتشف في السياق عن الوحدة القاتلة التي تعيشها الطبية، وعن ذلك الفراغ العاطفي القاتل بعد طلاقها وممارستها حياتها في عزلة خانقة، مما يجعل منها شخصية محطمة رغم نجاحها في عملها، بمقابل ذلك نرى البطل المحطم وهو يدور في صراع نفسي، بسبب عدم مقدرته على حب ابنته الصغيرة “جولييت” التي أودعها عند والدته لتقوم بتربيتها بعد أن فقد مقومات الأبوة منساقا الى الشرب وفقدان السيطرة، لأنه لم يتمكن من التكيف مع الحياة والناس بعد رحيل زوجته، لكنهما حينما يتكاشفان، يقتربان من بعضهما عاطفيا، الى أن تنتهي قصتهما بقيام الشرطة باعتقاله في منزلها بعد أن أبلغت عنه. في هذا النوع من العلاقات العاطفية والإنسانية المتشابكة يكشف الفيلم عن عزلة الإنسان المعاصر، وعدم مقدرته على التكيف، من خلال تلك المشاهد الداخلية التي تم تصويرها بعناية فائقة على مستوى الحوار والتمثيل والإضاءة، والإطار السيكولوجي التي تمت احاطة الشخصيات بها. ويتناول هذا الفيلم المثير ذو الأجواء الكابوسية الخانقة العلاقة السلسة والغريبة والمنطوية على خيانة بين الضحية والجلاد، عندما تقع الطبيبة في الأسر على يدي الشاب الذي يحملها مسؤولية وفاة زوجته، وفي عزلتهما في إحدى الغرف المظلمة في شقته تسكنهما تراجيديا الماضي وتخيم على حاضرهما المتوتر عندما ينمو الانجذاب بينهما، فهما يواجهان معا حالة ملتبسة وتناقضا بين العنف والعاطفة أو بين الكرامة والعاطفة. وهذه (ثيمة) أثيرة للسينما الأوروبية، حيث يرزح المجتمع تحت وطأة غياب الترابط الأسري. ومن المهم الإشارة هنا الى مقدرة مخرجة الفيلم ونجاحها في تحقيق مشاهد سينمائية متكاملة ضمن إطار الصورة الضيقة أو المغلقة، معتمدة على اللقطات القريبة، وما تبرزه من تفاصيل تعكس حالة الشخصية المتوترة، التي نجح السيناريو في تأسيسها عبر لمحات رومانسية رقيقة، مغلفة بقسوة واحباط يدفع بطلي الفيلم الى حد الاشتباك والعراك بالأيدي. إنها صورة غير تقليدية وغير منفتحة على الشارع، بقدر ما هي منفتحة على دواخل الشخصيات. وربما يكون ذلك أهم ما في شغل مخرجة الفيلم انها انتزعت الصورة من واقع الشخصية وليس من مكونات صناعة الفيلم. لقد بدت معظم تصرفات الأبطال واقعية تماما، حينما نرى الطبيبة في مكان احتجازها وهي تقوم بتناول الطعام أو تغيير ملابسها، أو حتى حينما تقوم بقضاء حاجتها، وكذلك بطل الفيلم وهو يقدم لها الطعام والدواء، وهو يحبها ويكرهها في آن واحد، الى أن يقوم بإطلاق سراحها ومن ثم مراقبتها من بعيد. كل هذه المشاهد وما يتداخل بها من مشاعر وتفاصيل، صنع منها المونتاج الدقيق واللاهث، فيلما تشويقيا، يجعلك تتعاطف مع الشخصيات وبخاصة بطل الفيلم في تكوينه، ووحدته، وقلقه، وحياته المحطمة، حتى اللحظات الأخيرة من الفيلم حينما يجري اعتقاله، تتلاقى نظراتهما في أسى مرير، كيف يتغير الإنسان؟ كيف يغدر؟ كيف تحوله الحياة المعاصرة الى وحش؟ لا يمكن لنا وصف هذا الفيلم بأنه من الأفلام القوية في المهرجان، ولكننا يمكننا القول انه واحد من الأفلام الإنسانية التي تركز على العاطفة والنفس البشرية، بكل تناقضاتها وأحلامها، وكيف تضيع هذه الأحلام وتتكسر على صخرة الفراغ العاطفي، فكل منا يبحث عن عالم جديد، ولكنه لا يجده في إطار الحضارة وتكنولوجيا العصر التي جعلت من الأنانية شعارا للإنسان الاستهلاكي، وهذا ما نتابعه في أحد حوارات الطبيبة حينما تقول: “نعم أحب أن أكون أنانية الى حد ما في حياتي”، وأيضا حينما نراها تتحدث ببرود عن الأخطاء الطبية التي تلحق بالمرضى نتيجة العمليات الجراحية وتقول: “آلاف الناس تصيبهم العدوى المكتسبة في المستشفيات، ماذا نفعل لهم”. من المهم الإشارة هنا الى أن هذا الفيلم حظي بإقبال جماهيري كبير غالبيته من أبناء الجالية الفرنسية المقيمة في الإمارات، لكن الأهم من ذلك هو اهتمام الجمهور العربي بهذه النوعية من أعمال السينما الجديدة التي تنتمي الى فنون السينما المستقلة التي تعمل بميزانيات صغيرة، لكنها تهتم بالدرجة الأولى بجودة الفيلم من حيث الموسيقى والإضاءة وخلفيات المشاهد ونقاء الصورة، فقد كان الحوار المقتصد من الإشارات اللافتة في صناعة هذا العمل. ونشير الى أن ترجمة الفيلم الى العربية قد ساعد كثيرا في إضافة أعداد كبيرة من الجمهور العربي الذي يكتشف في عروض المهرجان طعما جديدا للسينما الفرنسية، التي تستلهم في تقديري بعضا من أجواء سينما السبعينات الفرنسية التي كانت تستهويها مثل هذه النماذج من الأفلام التي تهتم بالعواطف الداخلية للإنسان وتحليل سلوك الشخصية، بعيدا عن العنف واستخدام القوة المفرطة أو الآكشن الذي أصبح يرتبط بظاهرة العنف في العالم، وبالتالي شكل فئة من المشاهدين الشباب الذين انصرفوا عن سينما الفن والهدف الى سينما الحركة وأحيانا سينما الكوميديا الهابطة. مخرجة الفيلم اشتغلت في الحقل السينمائي منذ تسعينيات القرن الماضي، واختير فيلمها القصير الأول “المشجعات” عام 2005 ضمن تظاهرة (نصف شهر المخرجين) في مهرجان كان السينمائي. أما فيلمها الطويل الأول “وأنت من تتابع” عام 2007 فعرض ضمن (فئة خاصة) في مهرجان كان السينمائي ايضا، ورشح لجائزة سيزار كأفضل فيلم روائي أول. أما فيلم “بين يديك” فهو فيلمها الروائي الثاني. وشهد لها النقاد في عروضه العالمية الخارجية بأنه واحد من الأفلام العالية الجودة والقيمة الفنية والفكرية. وفي عرضه لجمهور أبوظبي نجحت في أن تقدم لنا دراما عاطفية قلما نجدها في سينما اليوم، فهناك مساحة كبيرة للصورة التي تحل مكان الحوار، وهناك أيضا لغة سينمائية جديدة، تسعى لتحقيق ذلك التناغم الجميل بين الكاميرا والممثل وخلفية المشهد. وفي تقديري إن نجاح هذا الفيلم كان مرهونا بعاملين أساسيين هما: التمثيل الدافئ والبارع للممثلة كريستين سكوت، التي قدمت دورا صعبا ومركبا ويحتاج الى قوة الحركة ولياقة جسمانية كبيرة وأجادته رغم تقدمها في السن، ويحمل شحنات من ذلك النوع من التمثيل القائم على الشعور الداخلي. فاختيار الممثلين للأدوار الرئيسية كان ملائما، بحيث أننا كنا في حالة طبيعية من التشخيص، جعلت من الأمر منطقيا، حتى في لحظة العلاقات الخاصة التي قامت بين البطل والبطلة، وهما حبيبان، وهما أيضا عدوان، وعنصر التضاد هذا هو ما يخلق عنصر التشويق الذي يجعل من المتفرج متتبعا لما يحدث بكل الدقائق والتفاصيل الصغيرة، ومتداخلا في عملية الإيهام. أما العامل الثاني فهو الصياغة العامة وانسجامها الكامل مع عنوان الفيلم حيث كل شيء محبطا بدءا من الشخصيات وانتهاء بالأمكنة وما تعج به من صراعات، تجعل من نجاح الإنسان شيئا لا معنى له. ولعل أفضل ما في هذا الفيلم هو ان مشاعر الشخصيات مستوحاة وليست ظاهرة، فالعاطفة مساقة بكثير من الرقة وليست مفروضة، فكلاهما رغم أنهما محطمان كانا يسيران نحو بعضهما بعض دون أية كوابح.. هذه هي أبعاد النفس البشرية، وكيف تتحرك بالغريزة. وقد تعامل الفيلم مع الرقعة الواسعة من المشاعر التي تتبادلها الشخصيات أو تتعامل معها بروح واقعية. ويمكن القول هنا أننا كنا أمام واحد من أفلام سينما الواقع المغلفة بنفس تجريبي، يستمد نكهته من فن المسرح، فطبيعة المشاهد والحوار تصلح أيضا أن تكون مسرحية طويلة تلعب في خانة المشهدية البصرية بكل مكوناتها وبخاصة استخدام عنصر الصمت، حيث امتلأت مشاهد وحوارات الفيلم بمقاطع من الصمت المعبر عن الحالة، بالإضافة الى قيام الفيلم على شخصيات لا تزيد عن عدد أصابع اليد مما يتطلب جهدا فنيا مضاعفا لإنجاح الصورة. وربما يكون هذا الفيلم هو حظ الممثل الشاب توماس مرماي الذي بدا واثقا من أدائه، متمكنا من تصوير الحالة النفسية والشعورية للشخصية، كما بدا ثابتا أمام الممثلة العريقة كريستين سكوت التي أدت واحدا من أصعب أدوارها، فكونا معا ثنائيا تمثيليا مبهرا على كافة المستويات وبخاصة في مشاهد الصدام بينهما، كما في مشاهد الحب، فكان التمثيل بين جيلين مختلفين في المنهج ولكنهما متوافقين تماما في تصوير الأبعاد النفسية للشخصية. لقد كنا في الواقع أمام فيلم جيد الصنع، ومفعم بتلك الروح العالية النابعة من حدث فني صغير ظل ينمو بمهارة عالية حتى وصل الى ذروته، حتى صدمنا بنهايته وان كانت نهاية منطقية للإنسان المعاصر في غدره، وتخليه عن قيمه وأخلاقياته. كما أن ظهور أبطال الفيلم بدون أي مكياج أو إضافات أضفى طابع الواقعية على الأحداث.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©