الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«روداج» حكاية عاشقين يفرقهما الخوف من السلطة

«روداج» حكاية عاشقين يفرقهما الخوف من السلطة
21 أكتوبر 2010 15:53
سلمان كاصد (أبوظبي) ـ نفاجأ في كثير من الأحيان أن فيلماً ما يحمل في شريطه مجمل أفكار المؤلف والمخرج، قناعاته، رؤاه، أيديولوجيته، مواقفه من الحياة، تصوره للحب والصراع والموت والحياة برمتها. ومن الغرابة حقاً أن نجد من يصنف أعماله بأنها تجريدية ويزيد عليها بأنها تجريبية وكل ذلك حتى يفتح الباب على كل ما يريد قوله، فتتعدد الرؤى لديه وهو يمارس طقوس الإخفاء عليها، فيضمنها فيلمه الذي يزخر بكل أصناف الأشكال والطروحات التي تخطر على باله حين ينشئ المؤلف نصه والمخرج فيلمه. أعتقد أن هذا التجريب يحتوي من المزالق الأشياء الكثيرة، فما بالنا لو افترضنا أن هناك حالة من التجريد الذهني يراد لها أن تتحول إلى نص مرئي. هنا تكمن المشكلة ولكن هذا الأمر لا يخلو من جمالية حين نضع المتلقي في دائرة المعنى، التأويل، وفك شفرات الحكاية التي خرجت من الذهن وأصبحت نصاً سينمائياً. الواقع والرواية يقول المؤلف والمخرج السوري نضال الدبس قبل عرض فيلمه “روداج” ضمن مهرجان أبوظبي السينمائي أمس الأول في قاعة مسرح أبوظبي في كاسر الأمواج إنه أنشأ نصاً من الخيال، ابتدع حكاية مجردة تحتوي بعداً فلسفياً فكتب سيناريو فيلمه قبل 15 عاماً ولكنه تفاجأ حقاً أن هذا النص قد تحقق في الواقع بحكاية واقعية سمعها في دمشق مطابقة لحكايته إذ من المنطق أن يسبق الواقع فعل الخيال التجريدي بينما هنا سبق الخيال الواقع ولكن أريد أن أذكره بالناقد الروسي بوريس بوروسوف في كتابه “الواقعية اليوم وأبداً” حين يقول “الواقع ككل أغنى من الرواية ولكن الرواية أغنى من هذا الجزء من الواقع الذي تتناوله”. وهذا يشير إلى أن هناك مطابقة ومخالفة بين الرواية والواقع واتساعاً ومجانسة فتارة يسبق الواقع الرواية وتارة تسبق الرواية الواقع وهذا الأخير ما حصل لسيناريو فيلم “روداج” لنضال الدبس. حسناً.. يحفل الفيلم بالتجريد كله وبالاحتمالات كلها وبالصراع والوهم والحقيقة والمتخيل والحسي وبالعزلة والألفة وبالحب والكره وبالخوف والشجاعة.. الخوف هاجس الفيلم، هاجس القضية التي تتأسس عليها الحكاية، وجميع ما طرح من أفكار أخرى ما هي إلا تنويع على هذا الخوف الذي يهيمن ويتلبس حبيبين هما جهاد (الممثل مهند فطيش) ونوال (الممثلة قمر خلف). جهاد ميكانيكي السيارات يحب نوال العاملة في محل لبيع الملابس، يحلمان بحياة وادعة وبأماني ليست ضالة، حبهما يرقى فيه المرح إلى حد الهوس بالآخر واقتناص اللحظات المعزولة لكي يشم أحدهما رائحة الآخر. في المدينة يضيع هذا الحبيبان من ملاحقة شقيق نوال القاتل الذي لا يعرف هذه اللغة سوى لغة الموت. ويتلبس جهاد ونوال خوف دائم حتى في لحظة فرحهما توقعاً لمفاجأة تحدث. ثلاثة أماكن يلعب المكان دوراً أساسياً في الفيلم (المدينة، مقلع صخور، الصحراء). ثلاثة أماكن يدور فيها الفيلم، يخاف جهاد ونوال من المدينة فيهربان إلى الصحراء وبدل أن يقع المحضور في المدينة كما كانا يتوقعان يقع هذا الأمر في المكان / الصحراء اللامتوقع.. كل شيء جائز في عالم التجريد. في المدينة يخلق “الدبس” تناصات بين معنى الخوف وسيارة الإسعاف وهروب العاشقين، والميكانيكي البارع لا يستطيع قيادة السيارة بسلام، وحين يتواعد الحبيبان للذهاب في رحلة ترويض (روداج) إلى الصحراء يقيم (الدبس) عملية تناصية جميلة بين (زيت المحرك) / والشامبو المسكوب على جسد جهاد في لحظة استعداد للانطلاق بحبيبته. قد أسرف حقاً في التأويل وأشير إلى أن اختيار لون السيارة “الحمراء” لم يكن صدفة بل هو دلالة - غير واعية - على دموية ما ستؤول إليه الأحداث كما أستطيع أن أقول أن تخطيطات نوال على رمل الصحراء لبيتهما المتوقع كان افتراضاً هشاً لأنه بيت رمل من المتوقع انهياره “ ارصاد” في أي لحظة وهذا ما حدث فعلاً، فالتجريد يبدأ من هنا.. عند فرح نوال الطاغي في السيارة التي يقودها جهاد يصاحب انطلاق السيارة الجنونية نسرٌ محلق في الأعالي. وثمة موسيقى لأغنية من أغاني أم كلثوم تطير بهما عالياً فثمة تماثل بين السماء/ النسر والأرض/ جهاد وتنقلب سيارتهما فيهبط النسر إلى الأرض حيث يرصد (الدبس) عقارب الصحراء، حيواتها، الشفق المحمر. البدو المتناثرين وكأننا نبصر الواقع لا الأفكار التجريدية التي بثها رموزاً وانتهت حال انقلاب السيارة. الراوي هنا كلي العلم، هو “نضال الدبس” المؤلف والمخرج، وينقذ البدو جهاد ويعيدون له صحته بعد غيبوبة استمرت 4 أيام فيعود مع أحد البدو إلى مكان الحادث فلم يجد نوال. وعلى مقربة من مكان الحادث كان هناك رجل يدعى العم محمود “الممثل سلوم حداد”، مستوحد، مستوحش تلفه عزلة المكان ووحشة كونية وذاتية. يظهر العم محمود ساخطاً على البدوي وجهاد ويطردهما من مملكته ويحكي البدوي قصة هذا الرجل العسكري السابق الهارب من المدينة. لحظتها يحدث أن تدهس نعجة البدوي فتصبح الآلام متماثلة، آلام البدوي تساوي آلام جهاد، وموت النعجة يساوي موت نوال. ويرجع جهاد إلى المدينة حيث صديقه حسن ويسمع منه خبر البحث عنه ونوال من قبل الشرطة وشقيقها. يعيش جهاد في مقلع للصخور على مشارف المدينة والصحراء. يبدأ صراع بين الخوف والشجاعة، لم يعثر جهاد على نوال فيرجع إلى العم محمود الذي يقبله كي ينضم إلى مملكة العزلة. حقيقة الواقعة يتولد تماثل محسوب ذهنياً أو لنقل تجريدياً لا على مستوى حقيقة الواقعة بل على مستوى افتراض المؤلف أن ثمة تشابهاً بين جهاد والعم محمود وضياع نوال مقابل ضياع زوجة العم محمود. يلعب النص على فكرة بسيطة هي الفقدان/ الاكتساب، يفقد جهاد والعم محمود حبيبتيهما الا انهما يكسبان بعضهما وتتواشج الصلات الإنسانية بينهما. يطالب جهاد من العم محمود بمعرفة ماذا حصل لنوال بدلالة سيارته الحمراء قرب المنزل المعزول.. هنا تتولد كل احتمالات أو افتراضات الفيلم.. كيف؟ يطرح العم محمود 6 احتمالات يشير بها إلى جهاد وهي: أولاً: موت نوال، وثانياً: رجوعها إلى أهلها، وثالثاً: مقتلها من شقيقها، ورابعاً: عدم رجوعها بل اختفاؤها، وخامساً: لجوؤها إلى صديقتها ذات السمعة السيئة، وسادساً: دفنها أسوة بشواهد القبور قرب منزل العم محمود. ومع كل هذه الاحتمالات الذهنية نجد أمرين أولهما عدم صوابية هذه الاحتمالات كلها وثانيهما التصور الذي افترضه المؤلف بوجود نوال مع زوجة العم محمود المتوفاة وكأنهما موجودتان في ذهنه أو خياله. يفقد العم محمود زوجته قبل 20 عاماً في حادث سيارة وينعزل في الصحراء مع آلامه ويكاد ينسى كل شيء ثم يأتي جهاد ليذكره عبر نوال بزوجته وكأن هناك نسقين يعملان في النص هما نسق القصة الكبرى والأخرى الصغرى أي (التضمين) وهو زرق قصة صغرى في قصة كبرى بغرض إضاءة النص. يتحكم الخوف في النص حتى يصبح عنصراً مهيمناً.. وبين الخوف والشجاعة قصتان هما قصة العم محمود وقصة جهاد.. أما النسر فهو عنصر الخوف المسيطر في الأعالي، إنه السلطة التي تنقض على أي شخص يخترق المألوف ويتجرأ على اختراق ما تمتلكه.. اختراق جهاد للسلطة حين امتزج حباً بنوال شقيقة عنصر سلطوي مخيف. افتراضية الحكاية القصة افتراضية، كما قلنا، تجريدية تقترب من الواقع ثم تبتعد عنه سريعاً.. يحاذر نضال الدبس من أن يفسر الواقع ويدينه فتراه يفتعل افتراضات ومجردات كثيرة لا يريد أن تمسك لقطة من كاميرته بأيدي الرقيب. يطالب جهاد بالحقيقة مراراً.. ولا حقيقة هناك؟ وفي ختام الفيلم يفترض النص أن الموت/ بطلاً لا يوازي الحياة/ جباناً، وكلا الشخصيتين تحاولان أن تتصيدا النسر المحلق في الأعلى حتى أنهما يمتزجان معاً حين يدعي جهاد أنه ابن العم محمود. يستغل “الدبس” أجواء الظلمة/ الضوء بتوظيف دلالي عن أزمة القصة ويعرض جوانب استلابية عندما يؤتى بالعمال محمولين على “كيلة” الشفل، يفترض أيضاً أن في كل إنسان هناك حيوان مفترس، يصغر أو يكبر وتتعدد شواهد القبور. يستغل “الدبس” مؤلفاً طريقة سردية وهي أن يسرد ما حدث مرّة أكثر من مرة، وتتضح الحقيقة أن شقيق نوال هو السلطة، ولكن أغرب ما في القصة هو: أن العم محمود يطالب جهاد بأن يكون شجاعاً وهو الشخصية المهزومة، المأزومة الخائفة من الموت المنزوية بعيداً عن عالم الصراع المديني. في تقنية الفيلم تكرارات كثيرة، صور مكررة وفراغات هندسية لم تملأ حتى أن المقاطع التصويرية بل الأحداث تعاد أكثر من مرة ولكن بلا دلالة سوى حالة صعود جهاد إلى السطح التي استمرأها بعد أن فرضها العم محمود عليه. مثلما استمرأ جهاد شرب الخمرة بعد أن كان يتقزز منها. فكرة التحدي ونتساءل: كيف تولدت فكرة التحدي عندما أخذ العم محمود بيد جهاد وقد تخليا عن الصحراء وعادا إلى المدينة ليواجها خوفهما من السلطة. اعتقد أن المبرر لم يأت من سياق النص بل كان مفاجئاً. لعب المؤلف والمخرج على ثنائية النسيان/ التذكر، فقد طالب العم محمود من جهاد أن ينسى وكان هو الذي يتذكر.. الشخصيتان مأزومتان من الآخر، العم محمود من الرجل الذي كان أسرع منه فأثار اعجاب زوجته وجهاد من شقيق زوجته الآخر الذي يمسك السلطة. وبنهاية افتراضية يطرق الشخصان (العم محمود وجهاد) بابا ليريا خلفه زوجة الأول وحبيبة الثاني نوال وقد ابتسمتا لهما.. أنه فيلم تفاؤلي بالرغم من كل مأساويته، وحشيته، أزماته الشخصية، وكأن المقدمات لا تقود إلى نتائج متطابقة.. قد يعاني الفيلم من بطء ورتابة، وعدم نضج المأزومية في المشاهد، وعدم وضوح حالة الصراع وتنميتها بسبب تجريديته العالية ورموزه الكثيرة ودلالات شفراته الواسعة ومع كل ذلك يبدو أن الفيلم أكثر إبلاغاً للمغزى وأرحب في تشكيل الحكاية وأكثر تحدياً للخوف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©