الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحلام مستحيلة

أحلام مستحيلة
21 أكتوبر 2010 21:42
تأكدت الآن أن الحياة لا تعطي الإنسان كل شيء ولا تدوم على حال، وانقلبت حياتي كلها رأساً على عقب، كأنها حملتني فوق صاروخ إلى أعلى حتى اقتربت بي من القمر ثم ألقت بي إلى أسفل، وسقطت على رأسي فاقد الوعي والاتزان، عاجزاً عن التفكير. البداية أنني ارتبطت بفتاة لا أعرفها، رشحتها الأسرة بعد أن أثنى عليها الجميع، فأنا شاب ملتزم ولا أُقيم علاقات مع النساء، واهتمامي بمستقبلي جعلني لا ألتفت إلى ما يفعله كثير من الشباب، حتى تمكنت من بناء حياتي وعش الزوجية، واعتمدت على قدراتي الخاصة في ترويض زوجتي وتعويدها على طباعي وما أحب وما اكره، وبالتفاهم يمكن أن تسير سفينة الحياة الزوجية، ولا أخفي في الوقت نفسه أنى كنت خائفاً من التجربة والحياة الجديدتين، وتتركز المخاوف في احتمال التباعد بيننا في الطباع والخوف من الفشل. بدأت في فترة الخطبة التعرف إليها، وجدت فيها كل ما أتمناه في فتاة أحلامي وشريكة عمري، مستجيبة، مطيعة، هادئة وديعة، ترضى بالقليل، لا مطالب لها، كلها حياء وتفاؤل، مقبلة على الدنيا بابتسامة الرضا، لكن هذا كله وإن كان يغمرني بالسعادة، فإنه لم يبدد مخاوفي، والأمر ببساطة أن كل شاب وفتاة في فترة الخطبة يخفي كل منهما عيوبه ويتجمل ويظهر كل محاسنه ومميزاته وربما يبالغ فيها، فلم أتخذ من هذه البوادر قواعد مسلماً بها، وإنما مجرد فاتحة خير أتفاءل بها، في انتظار ما يجيء، فقد عايشت الكثير من المشكلات من حولي، حيث لا تطفو العيوب ولا تظهر على السطح إلا بعد الزواج ومع العشرة اليومية وأحداث الحياة. المفاجأة الأكبر كانت بعد الزواج بالنسبة لي، فقد اكتشفت أنني أمام كنز ثمين من الإنسانية لا وجود له في هذه الأيام، كل ما ظهر لي من مميزات زوجتي لا يمثل عشر معشار ما تتميز به، كدت من فرط السعادة أن ألامس النجوم فرحاً، نعم المرأة والزوجة هي، سكن ومودة، ستر ورحمة، لا أبالغ إذا قلت إنني لم أصادف ولم أسمع عن مثلها من قبل، حتى أنني لا أصدق شكاوى الرجال من زوجاتهم، بل أتهمهم بالمبالغة والافتراء، أو أعتقد أنهم يبتدعون تلك الشكايات، وهي من نسج خيالهم ولا وجود لها في الواقع، وأحبت أسرتي زوجتي كثيراً وبادلتهم حباً أكبر. لم تقف السعادة عند هذا الحد إنما أسدلت أجنحتها علينا أكثر ورزقنا الله سبحانه وتعالى بطفلين جميلين مثل أمهمها، ورغم أننا لسنا في رغد من العيش، فقد كنا نشعر كأننا من الأثرياء أو أفضل منهم، لا نقف أمام توافه الأمور، ولا تهزنا الأحداث العابرة، يكبر الصغار بين أيدينا، زهوراً تتفتح تملأ الدنيا عبقاً وعطراً. وعلى حين غرة، تسربت الآلام والمتاعب إلى بيتنا عندما شعرت زوجتي ببعض أعراض المرض، لكنها كانت تتحامل على نفسها حتى لا تكلفني أي أعباء مالية، إلا أنها عندما اشتد عليها الألم عجزت عن المقاومة، وبدأت طريق المستشفيات والأشعة والتحاليل، وكانت الطامة الكبرى، زوجتي مصابة بالمرض اللعين، لكنها على مدى سبع سنين كانت مثالاً للتحمل كأنها جبل أشم لا تهزه الريح، ومع هذه المعاناة والآلام لم تغب ابتسامتها لحظة، ولم تستسلم أبداً، والحقيقة أنني كنت أتألم أكثر منها؛ لأنني أشعر بما تعانيه، وأعيشه دقيقة بدقيقة، لكن ليس بيدي شيء أفعله لها إلا الدعاء. جاءت لحظة النهاية، وانتقلت رفيقة حياتي إلى جوار ربها، ودعت فيها حسن العشرة والإخلاص، والنموذج الفريد الذي لا يتكرر، تركت لي الأحزان ومسؤولية الصغيرين فأصبحت أباً وأماً في الوقت نفسه، لكن المشكلة أنني لا أجيد مهام الأمومة حتى ولو فعلت أكثر مما في وسعي، فالأمر ليس مجرد مجهود أو إعداد طعام وشراب، كنت أعتقد أن الأمر بسيط، ولكن اكتشفت أنه أكبر من ذلك بكثير، أكبر من إمكاناتي وطبيعتي، ومهما فعلت من جهود، ومهما ضحيت فإنني لن أستطيع تلبية احتياجاتهما. أصبحنا في حاجة إلى من تعولنا، نريد امرأة تتولى هذه المهمة الصعبة، ترضى بظروفنا، لكنني كأنني كنت أبحث عن المستحيل، فقد رفضت كل العوانس والمطلقات والأرامل الاقتران بي، عشرات النسوة أبين أن يتحملن هذه المسؤولية، وكأن لسان حالهن يردد ولماذا أربي أبناء غيري؟ إنني لست خادمة كي أقبل هذه الزيجة الخاسرة، بل إن منهن من قالتها صراحة، ورغم ذلك لم أوجه اللوم لأي منهن؛ لأنني أرى ما يرين، ومن حق كل فتاة وامرأة أن تستقل بحياتها. أخيراً، عثرت على ضالتي المفقودة، فتاة هاربة من الفقر، رضيت وقبلت المهمة، لكن اكتشفت سريعاً الفوارق الشاسعة بينها وبين زوجتي الراحلة، في البداية كنت أعقد مقارنة بينهما في كل التصرفات، والنتيجة في كل مرة أن هذه تخسر، فيصيبني الاكتئاب وتحاملت على نفسي وتغاضيت عن كل سلبياتها من أجل الصغيرين، وليت الأمر وقف عند ذلك، بل إنها كانت مهملة في شؤونهما واحتياجات البيت، ومع ذلك كنت أغض الطرف وأكمل ما تهمل فيه حتى لو كان غسل الملابس والأطباق؛ لأنني لا أريد أن أعاود البحث عن امرأة أخرى بعد المعاناة في رحلة البحث الأولى. وزادت حدة العواصف والقلاقل مع كثرة الشكاوى المتبادلة منها ومن الولدين، فلا أكاد أضع قدماي داخل البيت إلا واجد أمامي قائمة متجددة أو مكررة من الأحداث والخلاف والرفض ويكاد كل طرف يفترس الآخر، وأنا بين شقي الرحى غير قادر على التوفيق بينهما، فشلت في وأد نيران الفتنة التي خيمت علينا، ولم يرتض أي من الطرفين ما أقدمه من اعتذارات كأنني أنا المذنب في حقه، حمي الوطيس واشتعلت الحرب وفشلت في إخمادها، حتى فوجئت بزوجتي تجمع أغراضها وتترك البيت غاضبة، عادت إلى بيت أبيها، اعتقدت في البداية أنه نوع من الدلال وتوجهت لمصالحتها وإعادتها، إلا أنني صدمت بشروطها المستحيلة، فقد رفضت العودة إلا في بيت مستقل وحدها، وعليّ أن أتصرف وأجد حلاً للولدين بعيداً عن البيت. لم تترك لي خياراً، ولم تدع لي مخرجاً، فهذا هو الجنون بعينه وإذ من المحال أن ألبي مطلبها، لن أختارها وأضحي بهما، وهما فلذة كبدي، وكيف أتركهما للضياع؟ ولماذا؟ ولم يكن أمامي إلا تطليقها لأعود مرة أخرى إلى رحلة البحث عن امرأة ذات مواصفات خاصة، أو البحث عن المستحيل. أعترف بأنني لم أستطع أن أضع أي امرأة في قلبي مكان زوجتي الأولى، لكن في الوقت نفسه لم أقصر في أي حق، ورغم مرور سنوات عدة على رحيل المرأة التي تربعت على عرش قلبي فإنه لم يدق ولم يتحرك واحدة غيرها، وتعلمون أن هذا ليس بيدي ولا باختياري ولم يكن البحث عن زوجة إلا لمصلحة الصغيرين، ولو كان الأمر يخصني وحدي ما فكرت فيه أبداً إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وأعدت البحث عن زوجة، كانت المهمة أكثر صعوبة من ذي قبل؛ لأن التجربة الثانية ألقت بظلالها على الوضع الراهن، وأصبحت كل واحدة تضع نفسها مكان سابقتها، وتفترض الفشل مقدماً، حتى نصحني أحد المقربين بأن أخوض تجربة الإعلان في الصحف، بحثاً عن زوجة مناسبة تقبلني بهذه الظروف، ورغم عدم اقتناعي بجدية الفكرة فقد فعلتها، وكانت النتائج أكثر من مؤسفة، التقيت نماذج كثيرة متنوعة من النساء والفتيات، لكن لم تقبل واحدة منهن هذه الزيجة. ربما يسألني سائل ولماذا لم تستعن بخادمة؟ والإجابة ببساطة أنه لا يمكن أن آمنها على الصغيرين وهما مقبلان على مرحلة المراهقة التي تحتاج إلى رعاية خاصة وتربية وتوجيه، فأجدني الآن في طريق مسدود، غير قادر على استكماله ولا حتى الرجوع منه، لا أبحث عن السعادة المفقودة التي كانت في الأيام الخوالي؛ لأنني مؤمن بأنني أخذت نصيبي منها وربما أكثر مما أستحق، إنما أبحث عن زوجة ليس إلا. للمرة الثانية وجدتها، امرأة في ظروفي نفسها تماماً، توفي عنها زوجها وترك لها ولدين، لكنهما أصغر سناً من ولديّ، وبالطبع لم يكن لأي منا شروط معلنة، فأنا كما قلت لا أريد إلا امرأة تحصنني وتعول أسرتي، وأفهم تلميحاً لا تصريحاً من حالها أنها تريد رجلاً يعاونها في تربية ابنيها، وحتى إن كان ذلك سيكلفني بعض الأعباء المادية، فإنني قبلت ووجدت أنها فرصة مواتية، ويجب أن اغتنمها؛ لأنها قد لا تتكرر خاصة بعد المعاناة السابقة في البحث عن زوجة. ودون أي مظاهر للعرس أو الاحتفال، إلا العقد والإشهار تم الزواج وانتقلت العروس الأرملة إلى بيتي وأنا أمني نفسي بالاستقرار وأحلم بوداع المعاناة، لكن ما نيل المطالب بالتمني، فلم يمض أكثر من أسبوع واحد حتى وجدت عندي نوعاً جديداً من المشكلات حسب المرحلة الجديدة، تمثل بوضوح في تفضيل زوجتي لولديها على ولديّ في كل شيء، بل وتطالبني بأن يكون إنفاقي على الجميع سواء رغم أن لولديها أموالاً ورثاها من أبيهما ودون أن تصرح فهمت أنها تريد أن تدخرها لهما وتستغلني في تحمل نفقاتهما، وحاولت معها تكراراً ومراراً أن تعدل بين الأبناء، لكنها لا ترفض بشكل مباشر وإنما تسوق الحجج الواهية، ومنها أن ولديها صغيران وبحاجة إلى الرعاية والاهتمام أكثر من ولديّ. تحملت تلك الأوضاع المقلوبة، خوفاً من العودة مرة أخرى إلى نقطة الصفر، بعدما عانيت كثيراً في البحث عن زوجة حتى عثرت على هذه بعد جهد جهيد، لست على استعداد لفقدها وتكرار التجربة؛ لأنني أرى أن البحث عمن تناسبني أصبح من المستحيلات كأن النساء عملة نادرة، وأيضاً ما كان الأمر بيدي، فقد بدأت المشكلة السابقة تطل برأسها علينا، الشكاوى المتبادلة بين زوجتي وابنيّ من ناحية وبينهما وبين ابنيها من ناحية أخرى، وتكررت الأحداث بالصورة نفسها كأنها نسخة متطابقة حتى في أحدات النهاية والطلاق. لقد كنت أرملاً مرة، ثم أصبحت مطلقاً مرتين، رغم ما أعانيه وحدي في تربية وتلبية احتياجات أسرتي إلا أنني لا أجد نقطة ضوء في نهاية النفق المظلم، لن أعود مرة أخرى للبحث عن المستحيل.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©