الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أيُهما ينقُذ الآخر الدولة أم المجتمع الأهلي في العراق الجديد؟

21 أغسطس 2006 01:21
د· رسول محمد رسول: في حياتي، كنتُ قد سمعت بمصطلح (المجتمع المدني) لأول مرة عام 1975 عندما كنت في زيارة إلى مدينة الكوفة التاريخية جنوب بغداد، وذلك عندما كانت مجموعة من المستشرقين الفرنسيين في زيارة إلى المدينة· كان عمري يومها ست عشرة سنة، كنت أنظرُ إلى أفراد المجموعة بحبٍّ عارم لأنهم جاءوا إلى مدينتي التي ولدتُ فيها، فسألني المترجم، وكان تونسياً: أين نجد وجوه المجتمع المدني من الكوفيين؟ قلتُ له: أنا أعرف كلمة (وجوه)، ولكني لا أعرف كلمة (المجتمع المدني)! فضحك التونسي، وقلت له: يمكن أن تسأل أبي ذاك الذي يجلس هناك في المقهى· وبالفعل ذهب التونسي مع زملائه الفرنسيين إلى المقهى، وكانوا في ضيافة أبي، ودار الحديث مفصلاً عن الكوفة ومجتمعها الأهلي والمدني، وتعرفت إلى ما يعنيه مصطلح المجتمع الأهلي· أسوق تلك الواقعة القديمة في ظل ما أراه اليوم من تداول واسع لمصطلح (المجتمع المدني) في العراق الجديد عبر وسائل الإعلام العراقية بل ولدى شرائح من النخب السياسية والمجتمعية العراقية بعد أن كانت تلك المفردة مغيَّبة في الأدبيات السياسية والمجتمعية العراقية وفي وسائل الإعلام بعراق صدام حسين، وهي إن ظهرت فإنما تُحقن بدلالات ما تريد قوله الأيديولوجية البعثية ومنظورات النزعة الصدّامية التي كانت تتحكَّم فيها· وفي عام 1987 كتب غسّان سلامة، يوم كان النظام الصدّامي على رأس السلطة، قائلاً عن المجتمع المدني في العراق في عصر الجمهوريات: (في ظل نظام كالنظام العراقي القائم منذ 1958 نلاحظ أن إقصاء المحكومين عن الحكم عمومي؛ فالأكراد مقصيون، وفئات واسعة من السُّنة كذلك، ناهيك عن الشيعة، والمسألة الأساسية قد تكون في سيطرة مجموعة ضيقة تربطها عصبية محلية أو طائفية أو قبلية على جهاز الدولة، وإقصاء المجتمع المدني عنه)· الرؤية البعثية ما يمكن استنتاجه من كلام الدكتور سلامة هذا أن المجتمع المدني العراقي كان مقصياً في عصر الجمهوريات أوعصر الحكومات الوطنية· وما يُلاحظ أيضاً أن الدولة الوطنية العراقية وظفت المجتمع من خلال الأحزاب والعمل الحزبي الذي يضمُّ بالضرورة شرائح من المجتمع المدني، بيد أن الأمر اختلف بعض الشيء منذ عام 1968 عندما تسلّم البعث السلطة وانفتح على هذه الأحزاب في بدايات السبعينات وأنقضَّ عليها نهاية ذاك العقد فأنفرد بالسلطة، ونظر إلى المجتمع الأهلي أو المدني العراقي من منظور واحد؛ فالمجتمع المدني الحقيقي هو الذي ينخرط في حزب البعث وما عداه يُطلب منه تقديم الولاء، ومن دون ذلك فإنه خارج على السلطة ومتمرِّد عليها! وهكذا ظل الحزب هو البوابة الرئيسة لكي يأمن المجتمع المدني من الإقصاء الدموي والتهميش المجتمعي· إلا أنه حتى هذا المنظور كان يتم خرقه في أحيان غالبة، ذلك أن البعث في ردائه الصدّامي كان يكرس إقصاء المجتمع الأهلي والمدني لبواعث فوق حزبية، كالطائفية والمناطقية، فحزب البعث كغطاء سياسي ومرجعية أيديولوجية كان يكرس التهميش الطائفي والمناطقي والعرقي وهو تهميش مركوز في صميم الرؤية البعثية / الصدّامية، فمثلما ذبح صدّام البعثيين الشيعة خلال انتفاضة عام 1991 كذلك ارتكب الفعل نفسه مع البعثيين السُّنة في أكثر من مناسبة خلال العقود الثلاثة الماضية· ناهيك عن إبادة أكثر من 200 ألف كردي في مجازر عدَّة شهدتها الساحة الكردستانية العراقية في خلال العقود ذاتها· وبعد التغيير الجذري في العراق ما زالت الأحزاب تمثل فاعلية كبيرة في المجتمع، فهي اليوم تقود السلطة في العراق مجتمعة سوى من قاطع العملية السياسية أو لم يحظ بالورقة الانتخابية التي تؤهله للمشاركة الفعلية في قيادة الدولة، والذي جرى اليوم هو الانتقال في تداول السلطة من الحزب الواحد المنفرد والمتسيد إلى مشاركة أكثر عدد من الأحزاب السياسية في السلطة· ما يعني أن المجتمع المدني الذي يتشكَّل من الأحزاب والجمعيات والمؤسسات غير الحكومية والعشائر له فرص في تداول السلطة من خلال الأحزاب· إلا أن هذا التحول الكبير ما زال يواجه تحديات عدة بسبب العنف الدموي الذي مرت صوره على العراقيين بنحو مقيت· وعلى الرغم من كل الخطط الأمنية العراقية والأميركية التي جرت بالعراق خلال أكثر من ثلاث سنوات مرت، ما زال العنف يطال الجسد العراقي ليزهق أرواح أبنائه في كل يوم· تعويل المالكي لهذا لجأت الحكومة إلى تشكيلات المجتمع( الأهلية والمدنية والعشائرية والمناطقية) من أجل استنفار دورها لتحقيق شيء من الأمن بالبلاد بالتعاون مع الدولة بل والتعاون مع القوات متعددة الجنسيات بعد أن أدركت الولايات المتحدة أن للمجتمع المدني دوره الكبير الذي يمكن اللجوء إليه للظفر بالأمن في البلاد وكم سمعنا عن مباحثات واتفاقات أجراها زلماي خليل زاد السفير الأمريكي ببغداد، وعدد من قادة الجيش الأمريكي مع العشائر ووجهاء المناطق والمحافظات العراقية من أجل دعمهم، بل وعقد اتفاقات مالية لهذا الغرض كما حدث في مسألة التزام عدد من أبناء العشائر بحماية خطوط إمداد النفط في المناطق البعيدة عن مراكز المدن والمحافظات، وكما حدث أيضاً بشأن بعض الاتفاقات بين الجيش الأميركي وعدد من العشائر العراقية التي تقطن أطراف بغداد للتصدي إلى الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة والتي تخرق القانون والأعراف المجتمعية في بغداد والمحافظات القريبة من العاصمة، وكانت أحزاب وكتل سياسية مشاركة في الحكومة قد طالبت بتفعيل دور ما أسمته بـ (اللجان الشعبية) لحماية المناطق، وقد كانت هذه اللجان موجودة تلقائيا في المجتمع وتمارس دورها الشعبي في حفظ أمن المناطق التي تقطنها، لكن تلك الأطراف تطالب بمأسسة هذه اللجان، وتخصيص أموال لها لتعمل ضمن سياقات متفق عليها مع القوات متعددة الجنسيات ومع الجيش والقوى الأمنية العراقية الجديدة لتكون بمنأى عن استهدافها· لقد مثل كل ذلك صورا من مشاركة شرائح المجتمع المدني خارج إطار العمل الحزبي، وهو ما يعد تجربة جديدة على المجتمع العراقي بعد أكثر من ثلاثة عقود تم خلالها قمع حركة المجتمع المدني وتهميش دوره في الحياة العامة سوى في أطر ضيقة· وعندما أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن مبادرة المصالحة الوطنية كان قد عوَّل على المجتمع المدني والأهلي في العراق للخروج من أزمة العنف الخانقة التي تواجه حكومته منذ الإعلان عنها· ومنذ أن شرع في مهامه الرئاسية عمل على تفعيل دور المجتمع الأهلي والمدني في الحد من العنف، وقد أثمرت الجهود حتى الآن عن إمكانية عقد (المؤتمر العشائري الأول للمصالحة) في بغداد الذي سيحضره نحو 500 شخصية عشائرية من جميع أطياف المجتمع العراقي بما فيه رؤساء العشائر السنية التي تعيش خارج العراق بعد أن استكملت (الهيئة العليا للمصالحة الوطنية) التحضير لهذا المؤتمر، ووضعت مسودة ما سيتم الاتفاق عليه بين المؤتمرين، ونشطت في الاتصال بالمئات من وجوه العشائر العراقية ذات الصلة بتوفير الأمن في المجتمع من خلال سلطتها وعلاقاتها العشائرية· إن هذا المؤتمر، والجهود التي كانت وراء عقده، وحجم الاستجابة الفاعلة التي أبدتها العشائر العراقية للمشاركة فيه، تعدُّ اليوم مؤشراً على عودة المجتمع الأهلي إلى ممارسة دوره في المجتمع العام ضمن الخيمة الحزبية والخيمة المجتمعية وبالتالي خيمة الدولة، ما يعني أن هناك تنافساً منتجاً وفاعلاً بين العشيرة ومؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية وشبه الحكومية فضلاً عن الدولة من أجل تقويض التحديات التي تواجه العراق الجديد وأهمها تحديات فقدان الأمن في البلاد، وهذا يعني وجود عملية إنقاذ مشتركة ومتبادلة بين الدولة والمجتمع الأهلي أو المدني بعد أن تم الانفتاح على المجتمع الأهلي وانفتاح الأخير على الدولة لإزالة كل العوائق التي تحول من دون المشاركة المتبادلة بين الطرفين·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©