الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في السحر الغسّاني...

في السحر الغسّاني...
19 يوليو 2012
لمثله يزجى المديح، وعن مثله يكتب الرثاء... لكن المقام لا يصلح لا لهذا ولا لذاك. فقد كتب الكثير منهما عن الأديب المناضل غسان كنفاني (1936 ـ 1972) الذي شكل في حياته وفي موته أمثولة للكاتب الثائر والمثقف العضوي، وظل رغم رحيله المبكر جرحاً في الخاصرة والممثل الشعبي الوحيد للجرح الفلسطيني الرعاف.. ظل رغم الغياب قادراً على البوح بمكنون الذات الفلسطينية وما يمور فيها وتمور به إنسانياً وسياسياً ونضالياً.. وفي استعادته المستمرة يبدو راهناً ومتجدداً وقابلاً لإعادة القول ومتجاوزاً في كل شيء.. هذه الكتابة لا تفعل سوى أن تنبه إلى أهمية دراسته من جديد، وإخراجه من ضيق التصنيف “أدب المقاومة” إلى سعة الأدب بإنسانيته وثرائه، واستشفاف ما أقدم عليه، بجرأة عالية، من تجريب فني خاصة على صعيد الرواية، ومن ريادة على مستوى القصة القصيرة.. فغسان ما زال غير معتنى به رغم كل ما قيل وكتب ويقال ويكتب عنه في كل مرة يستعيد فيها المثقفون ذكرى استشهاده. من الميلاد لا تبدأ سيرة الكتابة بل من الموت.. من تلك اللحظة الهائلة في الدَّوي بدأت حكاية غسان.. إنه الدوي الذي ما زال إلى الآن ينطوي على كل أشكال الأسئلة والإشكاليات البشرية. هو ذا غسان ما يزال طازجاً، يعرف كيف يتجدّد، وكيف يضيع، وكيف يعود، بزلّة قلم، إلى الغيبوبة. ثمة سحرية ما تكمن في هذه الشخصية التي تسير في دمائنا لا على الأرض.. لا أدري من أين تأتي بالضبط.. ربما من الطريقة المأساوية التي رحل بها.. ربما لأن دمه هو القرينة الجنائية الفصيحة التي تؤكد على أهمية وعمق الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف حين يكون مثقفاً حقيقياً، وحين يكون حضور الثقافة نفسها في المجتمع حقيقياً.. ربما لأن غسان بمثابة المثقف الذي جرح الغيبوبة أو أخرجها من كهفها المعتم، واستبدل قرقعة السيوف بقرقعة القلوب.. ربما لأنه كان متميزاً في صدقه ومواقفه وقدرته على قول أرواحنا بلا أدنى خوف وبكل ما فيها حتى من صدأ.. ففي النهاية لا أحد يمكنه المقارنة بين الشوك وشقائق النعمان. على أعتاب الوجود هو ذا هابيل يُقتل مرة أخرى.. هو ذا صندوق بندورا يخرج شياطينه على شواطئ المتوسط الفلسطيني.. هي ذي حكاية المخيم/ اللجوء تشهد على وحشية البشري. تأخذ الوعي من أردانه إلى عتبات الفعل الأولى. تضعه في مواجهة ذاته، تهزه، تغربل روحه على نار لا تهدأ، تقلبها على صفيح خزان رفض أبطاله أن يدقوا جدرانه، تركوه معلقاً في وجوهنا ليقول في كل مناسبة: دقوا جدران الخزان. خلافاً لما فعل أبطاله، دق غسان جدران الخزان الوجودي.. دقه بعنف، بقوة، بكل ما في روحه من طاقة مبدعة. بحث غسان في دلالات القتل، تعرجاته، مسبباته، مبرراته، أعذاره الواهية، بحث عارياً إلا من مصباح وعيه المشتعل. ذهب بصوته في ذلك الزمن، إلى ذلك الزمن القديم، الذي، من زمان، حمل عكازه وراح يدقّ على بوابات المعنى. في البحث المضني عما يقول الواقع صادف الخيال، لم لا.. كل الأشياء بحاجة إلى شيء من الخيال. لكن الخيال الذي فتحه غسان صار أخيلة، تتوالد وتتناسل قصصاً وروايات لم يكتب لها أن تقرأ نقدياً كما ينبغي. حجبتها فلسطينيته أو بشكل أكثر دقة حصرتها في تصنيف إبداعي ضيق يسمى “أدب المقاومة”. تماماً كما حدث مع مبدعين آخرين كل ذنبهم أنهم كتبوا الوطن في شكل فني متقدم، فتقدم النقاد في الوطنية والمقاومة ونسوا الإبداع وفنياته. كانت فلسطين بالنسبة لغسان هي الطريق إلى أمه وامرأته وحياته وموته. توحد بفلسطينه، استحوذت عليه تماماً فقرأه الناس في ظلها وظلالها. حتى في ذلك اللاوعي الجسدي يمكن أن تكون تشكلّت أو تراكمت صورة الفلسطيني الأول الذي أخذته الأرض ذات صيف واقترحت عليه أن يكون وأن ينوَجِدْ. ربما قالت له: “تعال لنصبح بشراً”. ولم يسأل في تلك اللحظة: لماذا؟ كان منذوراً لها، وكانت له منذورة، ولم يكن للسؤال جدوى. حطموا هياكلكم كان غسان يؤمن بأن أقدس مهمة للإنسان أن يكون إنساناً. ولذلك، لا بد أن يكون لديه ذلك الاحتياطي الماورائي الذي يمكنه من أن يدفع بعقله، أو بخياله، بعيداً، وبعيداً، ليحطم الخرافة وما فيها من هياكل دون أن يتحطم هيكله العظمي على أعتاب “الهيكل”... لكن فلسطين، تحديداً، ظلت اللغز الأخير الذي كان قلب غسان يرتطم به في كل مرة. لكل هذا كتب الرواية بدمه ووضع في آخر الدرب... نقطة دم. لقد اكتشف غسان من خلال تلك “اللوثة الثورية المقدسة” أن الإنسان ليس حيواناً ناطقاً، بل كائنا ناطقا.. ومن يومها أنطق كل شيء وأنْسنَ كل شيء بما في ذلك الشجرة والحقل والبارودة والأرض.. كلها صارت في كتابته تحكي وتتألم وترفض وتقبل وتجترح معجزاتها اليومية. في كتابته عن أم سعد أو أبو الخيزران تخرج اللغة من إهابها، تتفجر، ترتدي كل عبقريتها لتترك فينا ذلك الانطباع المبهر الذي أراده غسان: أن نتغير. هذا ما يحدث بالفعل؛ مع غسان لا تعود أنت كما أنت، تقرأه بالشغف، تشعر أن انقلاباً حدث في حواسك. العين تسمع والأذن تبصر. تراسل الحواس هذا لا ينجم فقط عن السحر الذي تغرقك فيه القصة أو الرواية إنما عن قدرتها العجيبة في أن تجعلك تشعر بأن فلسطين صارت قريبة... بل أقرب إليك من قلبك. قريبة إلى الحد الذي تشعر فيه، تماماً مثل غسان، أنه لم يعد بإمكانك البقاء لاجئاً ولو ليوم واحد. بالنسبة إلى المثقف الفلسطيني الذي عاش في الأرض المحتلة، تكون الكتابة عن غسان أكثر وعورة. فهذا الرجل لم يدخر وسعاً في أن ينزل منزلة عميقة في القلب والعقل وأن يشكل مزاج الذاكرة. إنه حاضر في الصبا ومدارج الوعي المبكر، وعلى واحدة مثلي، في الكتابة عن غسان، أن تحتمل سيلاً من الذكريات التي نمت على ضفاف القصص والرويات، لعل أكثرها سخونة تلك التي تتعلق بقراءته في العتمة، على ضوء شحيح، لا يدل أعداءه إلى قارئه، أو إخفائها تحت الثياب، أو وضعها بين غلافي كتاب الرياضيات؛ ورقة أو ورقتين للرياضيات ثم البقية لـ “ما تبقى لكم” أو “عائد إلى حيفا”.. ورقة أو ورقتين للمنطق الذي كان يومها يسير على قدميه ثم البقية لـ “برقوق نيسان” أو “القميص المسروق”... وهكذا، أمام كل كتاب دراسي سانحة ليتحول بقدرة عاشق إلى حضن يضم رواية “العاشق” أو “عن الرجال والبنادق”. الضحية تذهب إلى قاتلها ولدت الدولة العبرية على أنقاض فلسطين، صار المخيم مقابل المستوطنة، هنا المخيم الذي يراد له أن يكون وطناً افتراضياً. هناك المستوطنة المخترعة التي يراد لها أن تكون حقيقة، لعبة الوهم والحقيقة التي أصابته بصداع وطني دائم جعلته يرحل إلى تخوم الرواية من بابها الآخر. ربما ليكتشف بين أنقاض الرواية الواقعية عن ذهب الرواية الفنية. لقد تم طرد القطيع والرعاة أيضاً. سيق آلاف الكيلومترات تحت نيران المقدس المزعوم، وتحت دعاوى الوهم، إلى أرض أخرى، إلى وطن آخر، ظل غير قابل لأن يصبح وطناً. في نهاية المطاف، لا بد للحدث من لمسة تراجيدية لهذا ذهبت الضحية إلى قاتلها.. عادت إلى حيفا. تلك اللحظة الملتبسة ظل كل فلسطيني يحملها في جهازه العصبي. ما فعله غسان أنه ضغط بقوة على هذا العصب. ربما أراد أن يحرر الدم من الشريان، أن يخرج الدم الفاسد بالفصد.. وربما بحث عن ضوء تاريخي يضيء ذلك البُعد الميتافيزيقي إلى السيرة الفلسطينية التي ألهمته كل ما خطّ قلمه، أعني ألمه. ذات يوم، استعاد الشاهد والشهيد صورة ذلك الراعي الفلسطيني الذي دفع بقطيعه، منذ نحو أربعة آلاف عام، في اتجاه عكا. بنى السور وأقام في التاريخ، ولما مر الغزاة لم يصدقوا أنه هناك. لكن السور كان جاهزاً ليفْهِمَهم ما لم يفهموه. في داخل السور وفي خارجه، اكتشف الفلسطيني أن باستطاعته أن يعيد ترتيب الأشياء، واكتشف غسان أن الهجرة مُرّة إلى الحد الذي يكفي لقول المجهول، ذلك الطراز من المجهول الذي يمكنه أن يختصر البحر في رواية، ويهندس الموت في صهريج النار. اكتشف غسان العذاب الفلسطيني المختار بين البحر والصحراء... فرمى أبطاله إلى المجهول بنوعيه: الموضوعي لينفتحوا على فلسطين المأخوذة، والفني ليفتح الرواية الفلسطينية على آفاق موعودة. الكتابة بالنيران من أين ذلك الثراء في الذاكرة، وفي اللسان؟ ثمة لعبة مدهشة في سيرة الفلسطيني.. كأنها الاستعارة التمثيلية لمحنة الضحية. تلك التي استطاع غسان أن يجسدها بشكل بديع عبر مشاهد أو إيحاءات لإدخال أحاسيس أخرى في العمل الأدبي. أحياناً تكون الكتابة بالنيران، كثيرون يكتبون.. بالثلوج. كل الذين قرأوا رواية “أم سعد” ـ مثلاً - يذكرون تلك الكمية الوافرة من العذاب التي كانت تتكدس على القلوب في المخيم. في أدب غسان، تتبدى تلك النكهة اللاذعة، الفريدة، وربما الساخرة أحياناً من أولئك الذين يسقطون في ثقافة الرماد.. الذين يقلدون الغراب أو يركضون وراء السراب.. لم يدرس أحد حتى الآن طابع السخرية في أدب غسان رغم أهميته. في أدبه تتبدى أيضاً ثيمة الزمن بشكل مختلف. إنه عدو الفلسطيني، عدوه اللدود الذي يصب عليه سياط نفيه ونكرانه. الزمن في الرواية والقصة الغسانية سيف مصلت على رقبة الفلسطيني، وتأخر دقائق معناه الموت. وتجليات الزمن في قصة غسان هي بالفعل مبحث شيق يمكن للنقد أن يخرج منه بثراء كبير. الكتابة في عرف غسان لم تكن مسألة للتسلية أو لتطبيع الوقت، بل إنها جلسة مع الوعي. سعي للخروج من الحال الطللية البكائية التي دخلت فيها الناس بعد النكبة.. محاولة لترتيب فوضى الحواس.. ربما طموح للتغيير الذي ظل بالنسبة إلى غسان هدفاً مقدساً. كان غسان في كل ما كتبه أشبه بنحات، ينجز شخصياته بعظم بشري، بلحم ودم حقيقيين، وكثيراً ما أتقن الحراثة في الدم. لقد أدرك غسان أن الفلسطيني لكي يحفظ رأسه في مكانه، يفترض أن يكون على مستوى هائل من التوقد والإثارة، لكل واحد منا قصة، قابلة لتروى، لتتحول من لحظة حياتية إلى لحظة فنية وتستكمل في اليوم التالي، الاختبار دقيق ومأساوي وراعد. ماذا إذا سقطت لحظة الإثارة؟ وحتى لا يفقدها تلك اللحظة كان غسان يغرز أصابعه في جسد الحياة. يستخرج كل أشكال العواطف والسلوكيات الممكنة: الرغبة، الغربة، الخوف، الحنين، المتعة، الندم، الموت جداً و الحياة جداً.. كل هذا لأنه اكتشف أن بإمكانه استخدام قلبه بطريقة أخرى. كان يجترح كتابة تعيد تفعيل الإرادة وإحياء الخيال العربي، القابل، دوماً، للتجفيف بسبب الظروف الحضارية المأزومة.. بشكل أو بآخر، نحن نكتب، نتحدث، بحرارة عن غسان وأدبه، ببساطة لأن وقع أقدامه لا يزال طازجاً في خيالنا!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©