الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«أم سعد».. خزّان الثورة

«أم سعد».. خزّان الثورة
19 يوليو 2012
“تجيء بعد أن انتهت الحرب، ولم يبق غير الدروع المحطمة فوق الرمل المهجور، وطوابير النازحين وهي تشق مسافات جديدة، هذه المرأة التي اختفت طول الحرب تأتي الآن لتزرع عوداً يابساً من الحطب تقول إنه سيصبح دالية”. على هذا المسرح المؤثث بكل مفردات العذاب الفلسطيني يبدأ غسان كنفاني روايته الملحمية “أم سعد” التي تدور أحداثها في أحد مخيمات البؤس. وما أم سعد إلا صوت الشعب الفلسطيني وجماهيره الغارقة في الفقر والعجز والانكسار. ونحن هنا نستعير منه هذا الصوت لنتتبعه في لوحاته التسع التي تشكل الرواية. المخيم، واحدة من الكلمات المفتاحية التي تتمفصل حولها هذه الرواية.. وللمخيم في إبداع كنفاني حضور وافر. وتجلياته لا تقتصر على كونه الرحم الثوري الذي ينجب المقاتلين ويحافظ على وتيرة العمل النضالي عالية.. بل يرتدي في أعماله دلالات شتى: هو وعاء الرفض الذي يحبل بالإرادة والقوة، وهو المكان الذي تتهيأ في داخله بشارات النصر والأمل، وهو النقاء الثوري الأصيل الذي يرفض الاستلام والمساومة والهزيمة ورموز العمالة والتذلل للأجنبي، ويدين العجز والذين لا يعملون ولا يدعون غيرهم يعمل، ولعلّ هذا المعنى يتضح أكثر مما يتضح في موقف المساجين من المختار الذي ذهب ليطلب منهم التوقيع على وثيقة تفيد بأنهم (أوادم) فضحكوا منه وعاد خائباً خالي الوفاض، وأكملت أم سعد الموقف عندما أخبرته أن دوره انتهى وحان دورهم. و(الأوادم) في عرف غسان والعرف الفلسطيني تطلق على الذين يقبلون التنصل من الفعل الثوري والوطني من الثائرين مقابل الإفراج عنهم أو عدم ملاحقتهم إن كانوا خارج السجن. لكن غسان يذهب في الدلالة إلى أبعد من ذلك، إنه يعمم المفردة لتصف حالاً عامة وضعها على لسان أم سعد التي أجابت عندما قيل لها: إن هذا سيضر سعد “المحبوس”، قالت: الجميع وقعوا بطريقة أو أخرى على أنهم (أوادم)، ولكنهم لم يخرجوا من الحبس، وظلوا محبوسين داخل جدران حبس كبير يتمثل في المخيم، والراديو، والجريدة، والعشرين سنة الماضية، كلها حبس، حبس كبير لن يخرج منه غير سعد “المحبوس”. كيف؟ سيتخطى الحدود ـ هكذا تجيب أم سعد ـ والحدود هنا لا تحمل المعنى التقليدي للكلمة، بل تتجاوزه إلى العلاقات التقليدية الرئيسية التي تتحكم فينا، الزوجة، الأولاد، البيت، الدفء، الطعام، الكتب، كل هذه حدود ولا بد أن نخرج منها إذا أردنا أن نتخلص من سطوتها، ولهذا أطلقت أم سعد نبوءتها “اسمع ... أنا أعرف أن سعد سيخرج من الحبس. الحبس كله! أتفهم؟”. ويخرج سعد من البؤس والتعاسة إلى التحدي وتشجعه أم سعد لأنها تدرك ضرورة ذهابه “إذا لم يذهب سعد فمن سيذهب؟”. صحيح أن (المخيم) حبس معنوي ومادي، وصحيح أنه يغوص في الوحل لكنه لا يغرق فيه أبداً. من هنا يبدو خزان الأمل والتفاؤل الثوري والبوصلة التي يهتدى بها عندما تصبح الرؤية ضبابية. ذلك أنه علامة الجرح والنضال الذي تتوارثه الأجيال والذي يجعل من الثورة الميلاد الحقيقي للإنسان. ولا يقتصر دور المخيم على الأمل بل يتعداه إلى حيز الفعل، وعندما تحاصر الثورة ينقذها من الحصار، فعندما حاصر الجند سعد ورفاقه خرج لهم المخيم على صورة امرأة آتية من رأس الشارع، رأى فيها سعد صورة أمه، فناداها “يا يما” ولبت نداءه وظلت تطعمهم لعدة أيام متتالية، إلى أن ذهب الجند وانتهى الحصار. انه الملاذ الذي توجه إليه المؤلف نفسه عندما صرخ بأم سعد ـ بعد أن روت حكاية سعد ـ قائلاً: يا يما، ولبت أم سعد النداء، وخرجت إلى مكان الانفجار، وعادت بجروح حمراء محفورة بين شقوق يديها المهترئة من التعب والعذاب. الضريبة المزدوجة في رسم ملامح هذه الشخصية تتبدى موهبة غسان وقدرته على سبر أعماق كائناته الإبداعية. هو لا يكتفي بالوصف الخارجي لشخصية امرأة فلسطينية لم تذهب إلى المدارس. وهو أمر معتاد لدى مبدعين كثر يكتفون بتوصيف رباطة جأش الأمهات وتضحياتهن النبيلة من أجل الوطن التي تبلغ أوجها في إرسال الأبناء إلى الثورة.. بل يصور لنا مع هذا كله البعد الإنساني في الشخصية، الحالة الانفعالية الطبيعية التي لا بد وأن تظهر في موقف كهذا عبر القلق الذي يخالط فرحها بالابن المقاتل. إنه قلق الأم على فلذة كبدها وربما الصراع الخفي بين الأمومة وبين الواجب يتحسسه غسان فيقذف في وجوهنا السؤال حاداً متوهجاً: لماذا يتعين على الأمهات أن يفقدن أبناءهن؟ سؤال وجودي من النوع الجارح، فثمة خيار آخر لا يتوفر للأم الفلسطينية هو أن تحتفظ بابنها في حضنها ليمارس حياته الطبيعية مثل باقي البشر لكنها ضريبة الوطن، وضريبة الحياة التي باتت لا تحتمل في المخيم الغارق في الماء والطين بفعل المطر، وضريبة المعاناة التي يحملها الشتاء لسكان هذا المخيم. وهي القناعة، وهذا هو الأهم، التي تولدت لديها بعد أن اتضح أن البكاء لم يعد مجدياً، وصار لزاماً أن يكون هناك بديل آخر. تقول: “ماذا أقول يا ابن عمي؟ في الليل أحسست بأنني قريبة من النهاية... ما النفع؟ أريد أن أعيش حتى أراها. لا أريد أن أموت هنا في الوحل ووسخ المطابخ... هل تفهم ذلك يا ابن عمي؟”. إلى هنا ويبدو مثل هذا الحوار مألوفاً جداً.. قد يحدث في أي بيت فلسطيني لكن صياغة غسان الفنية له مكنته من اختصار كل الوجع الفلسطيني في هذه الكلمات القليلة وبمثل هذه العفوية والصدق. هي الواقعية التي تميز بها غسان من جهة، وقدرته على رفع الواقع إلى مصاف الفعل الفني من جهة ثانية. الواقعية التي جعلته يتخلى عن كل فذلكة فنية في سبيل أن لا يدع هناك أية مسافة بين الواقع الحضاري والواقع الفني ـ كما يقول إحسان عباس ـ انه الاكتشاف المذهل للواقع والقفز على العادي من الأمور، والقدرة الفائقة التي جعلته يخلق للأحجار لغة، وللطين نشيد، ويتغلغل إلى عمق التجربة الإنسانية من دون أن يفقد طابعه الفلسطيني الخاص. لم يختر غسان بطلة روايته عبثاً، بل اختارها من أكثر الطبقات فقراً في المجتمع الفلسطيني بل وفي مجتمع المخيم نفسه (المجتمع الأكثر فقراً والأكثر ثورية) عامداً لكي يؤكد بذلك انتماءه لهذا الشعب ولهذه الطبقة التي عاش فيها ولها، وليجسد التزامه الواعي والجذري بقضيتها، وليدفع هو أيضاً ضريبة ذلك الالتزام الذي كلفه حياته، عندما كتب قصته ـ تماماً مثل أبطال قصصه ـ بدمه وليس بحبر الكتابة!. النقد الذاتي بصورة مبدعة يستحضر غسان كنفاني الماضي ليس فقط لتفسير الحاضر وما يحدث فيه، بل باعتباره الجسر الذي ينبغي العبور عليه إلى المستقبل. ولكي يحدث مثل هذا التطهر لا بد من النبش في الذاكرة، ذاكرة التاريخ وذاكرة الناس وخصوصاً ذاكرة الشعب (أم سعد) لاستخراج العبر، وقراءة ما حدث على نحو مختلف. لوضع الأمور في نصابها أو النقاط فوق الحروف. من ذلك، ما حدث أيام فلسطين بين فضل وعبد المولى، فضل المقاتل الشريف النقي الذي كان أول من ضحى، وصعد إلى الجبل حافياً فتمزعت قدماه، وعندما عاد وجد عبد المولى ـ رجل الشعارات والخطب ـ يخطب والناس تصفق له، فجلس وحيداً، متعباً، ممزقاً تعلوه الأتربة، يصرخ من دون أن يسمعه أحد سوى أم سعد التي ظنته بحاجة للماء وعندما اقتربت منه سمعته يقول: “ولكو، إسا أنا الذي تمزعت قدماه، وهذا الذي تصفقون له”؟. وإذا كانت تناقضات العمل الوطني والنضالي حاضرة في موقف كهذا فإن غسان لم ينس التناقضات المجتمعية ولا الصراع الطبقي الذي شكل جزءاً من فلسفته الشخصية وحاول التعبير عنها في أدبه. كما لا ينسى غسان أهمية المحتوى الاجتماعي والاقتصادي للتجربة والتي انعكست آثارها على هذه الطبقة، بل يخصص له لوحتين من لوحاته؛ يصور في واحدة منها صراع العمال مع صاحب العمل عندما يسوق قصة أم سعد مع المرأة اللبنانية التي كانت تشطف درج البناية التي يملكها الأجنبي، ثم طردوها من العمل وأتوا بأم سعد لتحل محلها، وعندما علمت الأخيرة بالأمر رفضت العمل مصرحة أن هدفهم ضرب “المشحرين” ببعضهم لكي يوفروا ليرتين، وليس هذا فقط ما أراد تأكيده بل أراد أن يوضح أن الاضطهاد السياسي يرافقه اضطهاد اجتماعي واقتصادي، وأن هذا الاضطهاد لا يفرق بين العمال أينما وجدوا، أما الأمر الآخر الذي أراد أن يشير له فهو ذلك التلاحم المصيري الذي يربط بين المضطهدين (بفتح الهاء) في كافة البلدان. وإذا ما أردنا الذهاب أبعد في تحليل مثل هذا الموقف ربما نتساءل: ألا تبدو هذه الحكاية إشارة مبكرة إلى رفض الفلسطينيين للتوطين ومشروع الوطن البديل؟. هل هي القدرة الاستشرافية التي تحلى بها غسان أم هو الوعي الجذري والمبكر بالقضية الفلسطينية الذي يوصل إلى هكذا استنتاجات؟ أياً كانت الإجابة، ثمة ما يشير في هذه الرواية وفي غيرها من روايات غسان إلى حضور الوعي لدى شخصياته، سلوكاً وخطاباً وممارسة. في السياق نفسه، يأتي النقد الذاتي الذي رأى فيه غسان سبباً آخر لتحقق الوعي، ويظهر هذا جلياً في موقفه من بعض الممارسات الاجتماعية والاعتقادات الخاطئة التي تغيب الوعي وتسلب الإرادة، والتي يطرح الثورة كبديل لها. على سبيل المثال لا الحصر، تستبدل أم سعد حجاب الدجالين الذي علقته في صدرها منذ كان عمرها عشر سنوات بحجاب سعد “رصاصة نسيها عندها في زيارته الأخيرة لها” في إشارة إلى ضرورة التسلح بالوعي والثورة. يتغير أبو سعد بفضل الثورة أيضاً، يتحول من رجل سكير إلى رجل حقيقي، كما تتغير معاملته السيئة لزوجته بعد أن كان يفرغ ما يتعرض له من قمع وكبت بها وبالأولاد ولم يستطع أن يفعل غير هذا وهو مدعوس بالواقع، بالمخيم، والفقر، وكرت الإعاشة، وتقبيل بسطار الحكومة. تغير بعد أن اشتعل المخيم ورأى ابنه سعيد في ساحته يعلم أقرانه كيف يتفادون الطعنة، لقد تحسن بعد ذهاب سعد إلى هناك، وتحسن أكثر بعد انضمام سعيد لهم، وخلق من جديد عندما ولدت الثورة. تتذكر أم سعد، يتذكر الشعب، تتوالد الدروس والعبر التي تضع القارئ في قلب الفكرة. وأهم هذه الدروس أن استشرافات غسان للفعل النضالي الفلسطيني لا تقتصر ولا ينبغي لها أن تقصر على (ثورة بعينها) لأن مثل هذا الفهم يفرغ الرمز من محتواه ودلالاته المستقبلية، وهذا يتنافى مع فكر غسان وقراءاته وحتى تنظيراته في كتبه الأخرى. وفي اللحظة التي يخيل فيها للقارئ أنه وصل إلى نهاية الذكرى يعود به المؤلف إلى البداية الأولى، إلى الحاضر الذي بدأ منه ولكن من نقطة جديدة، وكأنه يريد أن يبرهن أن التاريخ يسير إلى الأمام حتى وان بدا أنه يسير بشكل حلزوني أحياناً، لأنه في هذه الحالة لا يعود إلى نفس النقطة بل يرتقيها إلى الأعلى، وهكذا يتحقق التواصل بين الماضي والحاضر، وتثمر سنوات الكفاح فتصرخ أم سعد “برعمت الدالية يا ابن عمي، برعمت “فيطل ليرى للعود اليابس رأس أخضر يشق طريقه في عنفوان له صوت”... هل من خبر عاجل يبشرنا بأن الرأس الأخضر ما زال هناك... وأن “الدالية” التي ذبلت أوراقها وانطمرت تحت وقع التسويات والمساومات “برعمت”؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©