الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كان يعجبني أن أكون كاتباً!

كان يعجبني أن أكون كاتباً!
19 يوليو 2012
كثرت الجهات التي تقدم جوائز للمثقفين والمؤلفين في مجالات الأدب المتنوعة، من هيئات حكومية إلى مؤسسات أهلية، بل وأيضا أسماء عرف عنها التفاعل مع المجتمع وقضاياه أخذت على عاتقها اطلاق جوائز للمبدعين من الروائيين والقاصين والشعراء. وفي دول الخليج العربية وحدها، نجد على سبيل المثال، إن هناك عشرات الجهات التي أخذت على عاتقها تشجيع وتكريم الأدب والثقافة، بحسب ما تذكره في بياناتها التأسيسية ـ وعلى الرغم من تصاعد النقاش حول جدوى منح جوائز للإبداع بصفة عامة، إلا أن هناك آراء تقول: كيف تتم مكافأة مؤلف كتب عن معاناة البؤساء والمعذبين، أي إنه استلهم ابداعه من حرمان المحرومين، ثم يأتي من يمنحه الأوسمة والشهادات والمبالغ المالية، ويصعد (المبدع) على منصات التشريفات.. وهو لم يكن ليصل إلى هذه الدرجة، ويرتقي سلم النجاح لولا أولئك الملهمين الغارقين في المعاناة والألم من الفقراء والمعدمين؟ وإذا كان في هذا القول مثالية غير منصفة ونظرة غير متوازنة، لكنه يبقى قولا متداولا.. في المقابل هناك آراء أعمق وأكثر اتساعا تعتبر ظاهرة الجوائز الأدبية، هي ظاهرة صحية تنم عن وعي المجتمع وتطوره ورقيه، وبالتالي فإنها أصبحت علامة معاصرة وبمثابة تحصيل الحاص. فالجهات الحكومية في الخليج، دون استثناء تقريبا، تقوم بتقديم سيل من الجوائز، وهي من خلالها تعلن عن نفسها، كدعامة للحركة الأدبية في مواطنها وفي المنطقة. ولكن هل يجوز أن ينحصر الدعم والرعاية والاهتمام للحركة الثقافية والأدبية في مجال منح الجوائز التقديرية والمالية فحسب، أم أن هناك أفكار أفعل وأكثر جدوى على صعيد توفير دعم مستدام لحركة التأليف والنشر، وبالتالي الوقوف مع المؤلفين والكتاب. الأدب والهوية وفي هذا الإطار هناك جملة أخرى من وجهات النظر والتي تبعث تساؤلات جمة، منها ما نسمعه أن الأديب الخليجي هو آخر المستفيدين من هذه الجوائز، وأنه آخر من يتوقع فوزه بالجوائز التي تستظل برعاية بلاده أو جهات فيها.. أما لماذا؟ فالإجابة عن هذا السؤال متروكة لكل متابع للشأن الثقافي الخليجي.. مع التسليم بأن الأدب لا هوية له، وإن النص الناجح هو الذي يلامس الإنسان ويحرك مشاعره في أي بقعة من العالم، كما انه من الجميل أن تخرج هذه الرعاية والاهتمام لتكون عامة وليست موجهة لفئات محددة. هناك أيضا تساؤلات استطرادية يطرحها موضوع الجوائز الثقافية والأدبية، منها: هل يكتب المؤلف وفي ذهنه الفوز بإحدى تلك الجوائز؟ أو هل يكتب وفق أمزجة وتوجه تلك الهيئة التي تقدم الجائزة الفلانية؟ الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماجو، يقدم إجابة صادقة عن تلك التساؤلات. فبعد الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل في الأدب، تحدث طويلاً خلال مؤتمر صحفي، عن مشاعره حول هذا التكريم، وهل كان ينتظر الفوز بنوبل، فجاء كلامه وكأنه بحد ذاته نص أدبي رفيع بما فيه من دفء وحميمية حيث قال: “أحيانا ينبغي أن أخاطب نفسي قائلا: (لا تنس إنهم أعطوك جائزة). وهذه هي وضعية شخص مضطهد، إذ أني عشت أيامي، يوما بيوم، في لحظتها وساعتها وعملها ومسئوليتها، كما هي حال العالم كله تقريبا، الذي يولد ويعيش وينمو ويعمل إلى أن تصل اللحظة التي يرحل فيها دون أن يترك شيئا. وكان من الممكن أن يحدث هذا، وخاصة لأني ولدت في كنف عائلة لم تملك شيئا. واشتريت أول كتبي وعمري 18 عاما، وبالتالي كان يمكن أن يصوب كل شيء في حياتي إلى أي شيء، لكن ليس إلى جائزة نوبل. إن المرء لا يولد من أجل جائزة نوبل، مثلما لا يولد لهذا أو لذاك، مع أن هناك ملايين من الناس يولدون وهم يعرفون من أجل ماذا يولدون: من أجل البؤس.. وكان من الممكن أن يكون هذا حالي، لأني ولدت في قرية مضطهدة وفي عائلة من الرعاة ولا أذكر أن أحدا آخر من عائلتي كان يعرف القراءة. وما أتذكره هو أني قلت وأنا في الـ 17 من عمري: (كان يعجبني أن أكون كاتبا). لكن لم يعطني أحد في تلك اللحظة أي ضمان بأن هذا كان من الممكن أن يحدث وحدث. وجرى بعكس ما هي خرافة عصرية، أي أن المرء يدخل في الشيخوخة بدءا من الـ 35 عاما. وربما من الجدير ذكره أن فيردي لحن الـ (السعيد) عن عمر يناهز التسعين عاما وأنا حصلت على جائزة نوبل وعمري 76. إذن أعمل معروفا ولا تزدري الكبار لأن لديهم خبرة كبيرة وعملوا كثيرا وعانوا وأحسوا وتأملوا كثيرا وفي الأثناء التي لا يصل فيها (الزهايمر) إلينا سنواصل العمل”. إذن ببساطة كان ساراماجو يعمل ويطور نفسه ويكتب ويؤلف، أما نتيجة هذا الجهد والتطلع للفوز والتكريم فلم تكن من لب أفكاره، ولا شك أن هذه هي أخلاق النبلاء والمبدعين الصادقين والواثقين من ابداعهم.. إذن المؤلف لا يضع حسابات الربح والفوز عندما يقرر أن يدفع بمؤلفه للمكتبات، بقدر أنه يتمنى أن يصل صوته وابداعه لأكبر قدر وعدد من الناس.. ومن المؤكد أن انشغال المؤلف بمثل هذه القضايا ستعيق إبداعه، وتسلّط عليه ضغطا كبيرا، فهو قد يكتب فيحقق نجاحا وانتشارا، ولكنه يشاهد ـ بالمقابل ـ أن أعمالا مغمورة تتصدر ويعلن عن فوزها بعدة جوائز، خاصة في الوطن العربي.. سؤال المعايير هنا يبرز جانب آخر من المسألة، وهو سؤال المعايير، والذي تندغم فيه كل الأسئلة الاستفهامية والمعرفية: كيف؟ لماذا؟ ماذا؟ من؟ وأين؟ منها مثلا: كيف وصل فلان أو فلانة إلى منصة التتويج عن عمل لم يجد انتشارا أو قبولا عند غالبية القراء؟. لا بد أن تكون هناك أجوبة عن كل الصيغ الإستفهامية في مثل هذا السؤال. إذ قد يأتي من يقول إن تقدير العمل الأدبي وتكريمه لا يخضع لمعايير الانتشار والجماهيرية، بقدر النظر في جودة المنجز نفسه من حيث الحبكة واللغة والأسلوب.. وتلك أدوات لا خلاف عليها في النقد الأدبي، لكنها لا تحل مسألة المعايير في ظاهرة الجوائز العربية والخليجية، عندما تخضع الأعمال المترشحة أو المتسابقة للفحص والمقارنة. أعتقد أن هوايتي في هذه المساحة باتت أشبه بمن يريد أن يثير القضايا ويحاول أن يحرك المياه الراكدة، لكن فعلا يجب أن ننظر لوضع الجوائز الخليجية التي صنعت وروج بأنها تحاول نشر المعرفة، ودعم حركة التأليف، وتشجيع الشباب، وهي مع الأسف تتعثر في مسيرتها لتحقيق هذا الهدف، ويمكننا في هذا السياق أن نستثني عددا من المؤسسات والهيئات التي أثبتت طوال سنوات عدة فعاليتها ونشاطها في دعم الكتاب والمؤلف والاحتفاء بكل تميز بغض النظر عن الجهة أو البلد أو الموضوع.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر: جائزة الإبداع في الشارقة الثقافية وأنشطتها المستمرة طوال العالم في مجالات الأدب وغيرها. ومع ذلك، فلا بد من التسليم أن معضلة تكريم المؤلف أو المبدع في الوطن العربي، هي معضلة متجذرة ومستمرة. وإذا انحصرت مسألة التكريم بالجوائز على النحو القائم الآن، فإن المعضلة سوف تتجذر أكثر وتستمر أطول، وبالتالي لا بد من البحث عن أفكار ووسائل أخرى لرعاية الثقافة والمثقفين، الكتابة والمبدعين، منها مثلا اتخاذ قرارات جريئة، من قبل الجهات المختصة، بتفريغ المبدع أو المبدعة لكي ينجزوا ويبدعوا، وسن قوانين وأنظمة تهدف لمساعدة المبدعين في كسب قوت يومهم ومعيشة أطفالهم. إن إطلاق برنامج مثل هذا، واستلهام تجارب دول غربية كثيرة تقوم بتطبيقه سيكون له أثر بالغ وكبير. سنلمس نتائجه المهولة في سنوات قليلة، فكل من يكتب يتوقف بعد فترة من الزمن تحت مظلة جملة من الهموم الحياتية التي تعصف به وبالتالي تعيق تميزه، وحتى حينما يكتب تجد أن هناك تراجع وعدم تطور فيما يكتبه لأنه لم يجد الوقت للقراءة والتأمل واستلهام الأفكار، فهو مشغول بوظيفته الصباحية التي من خلالها يجد الراتب الشهري الذي بواسطته يدفع مستلزمات أسرته، وقد تكون هذه الوظيفة أبعد ما يكون عن عالم النشر والكتابة، وقد تكون أجواءها غير صحية ويوجد بها ضغط نفسي، مما يسبب لهذا المؤلف والمبدع الشعور بالضياع والغربة وبالتالي عدم الاهتمام بما يكتب وبما يؤلفه، بل إن بعضهم يتوقف نهائياً عن الكتابة، وكم خسرنا من أقلام كان يمكن أن يكون لها شأن وتأثير لو قدر لها أن تستمر.. فالمؤلف المبدع كلما كان أكثر إبداعا وتميزا كان أكثر شفافية ورقة وهو ما يجعله غض سهل الكسر والتأثير فيه.. الجوائز فعل جميل لكنها غير كافية، وفي أحيان تذهب لمن يرى أنها تتنافى مع مبادئه فيرفضها، تماماً كما حدث في قصة الأديب الفرنسي جان بول سارتر، الذي منح جائزة نوبل في الأدب عام 1964، لكنه رفض استلامها، فأعيد المبلغ إلى مؤسسة جائزة نوبل، ثم برر هذا الرفض قائلا: “إن رفضي لاستلام الجائزة ليس فعلا مرتجلا، وإنما بسبب أنني رفضت دائما التشريفات الرسمية... وهذه الفكرة تنبع من تصوري لمهمة الكاتب... ذلك أن كل ألوان التميزات التي يمكن أن يقبلها الكاتب تعرض قراءه لضغط أراه غير مرغوب فيه”. وللأديب الفرنسي جان بول سارتر، ليتك ترى حالنا اليوم، وحال تلامذتك من الأدباء والمؤلفين!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©