الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حصن بوشاق.. فطنة التراب ولياقة الحجر

حصن بوشاق.. فطنة التراب ولياقة الحجر
19 يوليو 2012
في رأس الخيمة، كغيمة، تستطلع وجه النجمة، كوجه الجبل يغسل أحجاره بالنعومة ويتبتل.. حصن بوشاق كنسر غرق في غابة التيه، محدقاً في عرائه، مستجلياً الجراح والجناح، مستبطناً رائحة الصخور القديمة، مستنبطاً الورطة بحيطه.. حصن بوشاق ككهل جلس على قارعة يخيط جلبابه العتيق، يضع الخيط في سَمّ الخياط، ويتهجى ثقوب القماشة الأزلية، ويبسمل.. “بسم الله.. شاهد والشهادة لله.. لا أعرف إلا الصدق.. لا أحب إلا المكارم وجلائل الأعمال.. تذكروا يا سادتي الكرام.. تذكروا ماضي الأيام.. تذكروا ما حدث وفات.. هيا بنا إلى وادي الذكريات” ثم يختم دعاءه، بشهقة تتبعه آهة.. حصن بوشاق، الآية والرواية، والوشاية المسهبة في الوعيل، حين يبدو الرحيل ملحمة تجز وتخز، وتغز بعد صمت. والصمت حكاية الرابضين في المعنى، القابضين على بيت القصيد. حصن بوشاق، طائر الفينيق المستفيق من غمضة إثر ومضة، المتسائل في لهوجة ولجلجة عن صباحات غشيت شموسها، وفي العتمة يهمس ويتلمس ويتحسس التجاعيد والأخاديد، ويستمع بإنصات للحن التغاريد، قادمة من صلب التاريخ محملة برهيف النبرة، ولميع العبرة. هو كهل، وأجل مسمى، وعمر يتسامى، وفجر يترامى، وبحر يرمي موجاته على الساحل ويمضي ليقتعد كرسي الخلود من أول الحدود إلى آخر الوجود، يتحرى الدقة في الرقة والدفقة، ذاكرة متفاخرة بالزخم من الإرث والأثر الرطيب، ليقل الحبيب للحبيب عما بدر وندر، وصدر عن ذاك الزمن، زمن لم يرهن خاتمه ولم يسكن قيظ خواتمه، زمن بفطنة التراب، ولباقة الشجر، ولياقة الحجر، زمن يسرد قصة أشبه بالخيال، حين يكون المحال في المآل، لقيه.. أو رقيه. السر والخبر حصن بوشاق، السر والخبر، والزمن المستحضر، والمستذكر لقوانين حمورابي، وما جاشت به ملحمة جلجامش، وما نطبق به بنوخذ نصر.. أليست بابل من صلب آشور، وما بينهما جلفار كعود النار تثقب الهواء بشعلة والفتيل جلائل الأبد. حصن بوشاق حكى ذات يوم عن رحلة الغواص، وعن مركب أزلي، نشر الشراع في الخليج العربي، مترعاً بالفرح، مترفاً بالبياض، منمقاً بالرفرفة، مشجياً بصوت النهام المغرد والمتفرد في النشيد. حصن بوشاق أنشد للفرح، وقرأ القصيد مكتوباً على لوح وجرح، منحوتاً على صفحة وبحة.. ماذا يعني أن تطرأ الملامح فتشعر بالنشوة، أليست هذه فطرة الحضارات المنعمة بالخلود، أليست هذه علة العلل، وأسباب الوجود.. يا ألله، عندما يسفر الحصن عن لغة بألفة الوضوح، عن كلمة حروفها من دماء وجروح، والجياد الغافيات سهواً ولهواً وولهاً، مدار وجدار وحوار أبدي لا ينقطع ولا يمتنع، ولا يرقع ثوبه إلا بقماشة الحلم البهي، والإبرة أنامل من حرير تحصد التعب، وتسرد السغب، وتجرد أعواد النخل من سعف ونسف، وخسف وكسف. حصن بوشاق، اشتياق لأعناق، بدت في الطول كخيوط الوميض، مشعة مشعشعة، مورقة بالنصوع، مستغرقة في الينوع، متدفقة في الفضاءات، تلاحقه كشهب فرت من كويكبات.. حصن بوشاق، العلامة الفارقة على جبين الزمن، الشهامة المحدقة في الراهن، هو الوقت المستقطع من أعمار الذين نسجوا الصخر حريراً، وسيجوا من الطين غديراً، وسجلوا على لوح محفوظ اسم مكان، كان في الزمان كوكباً ومركباً، ومنقباً وكتباً، وشهباً وقطباً، وعصباً ورغباً، وسحباً وصخباً، وعذباً وجذباً وحدباً. حصن بوشاق، الشوق والتوق، والأفق والدفق، والرمق والألق، والشفق والحدق، والمرفق والخندق، والرحلة الأبدية في الوجدان، والسفر في تضاريس الطين، وصحراء الوجد البشري. حصن بوشاق، الرجال والحبال والأوصال، وكالمطر والشجر والحجر، وكالنجمة والغيمة والنعمة، هو كامتداد المدى، ونقاء الندى، وشهوة الماء للتراب، وصبوة الحرقة في اليباب، وعناق السحاب للسحاب، وقبلة الكلمة للكتاب، وسطوة الموجة في الذهاب والإياب. حصن بوشاق، سؤال الزمان للمكان، عند غنوة إنسان، واستراحة الحصى على حصير النسيان، وتوحش الطير حين لا تلتقي عينه بعين كائن في المكان وارتعاشة السفر المنزوي، في نافلة الأزمان، وخشخشة الثقوب المهجورة، وانتحاب الجدار والجدار. حصن بوشاق، سؤال يحتدم فيصطدم بجدار ومدار، وصمت الحوار، يقضي في النهار، متفحصاً، متلصصاً، متقمصاً الروح والجروح، والبوح يغرق في الحنين إلى دفتر في محفظة السنين إلى كلمات بهت المعنى في طياتها، وثنايا الحرف معقوفة في باطن التراب، والمسألة أن المرحلة بداية النهاية، الحكاية طويت، ملفوفة بخرقة متبلة بالغبار. حصن بوشاق، يرتاد في اليوم مرات ومرات، ما قالته الجدات لصغيرات وهن يضفرن جدائلهن، ويمسدن الشعر الطويل بسواد الليل، قائلات: إنه البوشاق الأبدي، إنه برج الجدي، إنه الحد الأقصى للماضي، والمرفق المتعري لصولة الزمان، إنه المستبد الجميل، المتكبد صهد البقاء رغم السفر ورغم الدوار والخوار، والحوار في الفراغات المتناهية. حصن بوشاق، الصوت المنسل من تجاعيد التاريخ، المقبل في المواعيد الأكيدة، الساهر على مطالعة دورة الكواكب والنجوم، الواقف على ساحل الخليج العربي، لينصت بإمعان لوشوشة الموجة، وهمس الماء للماء، المتوثب للوعة ولواعج، المتحفز لغدر الطير حين يغط في الأعماق، ويمتهن مهنة الضواري في غابة التمرد.. حصن بوشاق، يسكب طينه في أنين الحجر الأثكل، ويمضي ناعياً وحدة الباب الخشبي، يواربه تارة، ويشرعه تارة أخرى، ولعل وعسى، تعود الطيور الفارة، بقايا عش في النافذة العلوية. حصن بوشاق، كأنك والجبل طائران على قمة الفرح، تجوبان المكان بصهيل الجياد، والأمر كله لديكما أنكما كالحلم، يأتي في الليل على جناح الألق، ويمضي في النهار مفسراً تلاوته على جناح الأفق، تسيران في البعيد، تحلقان، تحدقان، تتدفقان، تمزقان الأرض وترصدان أشجار النخيل، وتحصيان العناقيد، عنقوداً عنقوداً، جلموداً جلموداً، تقولان بكل فخر هذا نهر، فيه شربت الكائنات حتى أينعت، ويفعت، وبلغت بلوغ الشجعان، سطرت ملاحم ذلك الأوان، ولما انتهت من كتابة الجملة الأخيرة قالت للتاريخ يا حارس الأعين، يا معين الشفاه على التكلم، يا محرض القلوب على الحب، يا مهيض أجنحة الطيور عندما تعصف الريح بالتباريح، فيصير المكان مجرد أعشاش وبقايا خشاش، والناس أعشاب شوكية تنبت على الصخر، وشقوق الجبال وتحت أجنحة الطيور المتشظية. الملحمة الملهمة حصن بوشاق، أنت المتفائل، الناهل، القائل للمتسائل، إنك في كل صباح تغسل عينيك بالرمل وتنشق وجهك بصحائف الصخر، وتجلس على رصيف التاريخ تتلو آيات الذكر الحكيم، ثم تستقيم، وتهيم في الأديم، تفتش عن قديم في البوح الكريم، ثم تذهب إلى غابتك تحطب في النوايا، وتوري شعلتك في العتمة، هناك الملحمة الملهمة، هناك أشياؤه المهمة، هناك الزحام واللملمة، هناك الجوهر والأبدي والغيمة، هناك القوة المستديمة، هناك السحر والنحر والفجر، وهناك الروح يستدرج الوجود وتستخرج منه رائحة التراب، عطر الذين جاؤوا ثم ذهبوا، ثم وهبوا، ثم أسهبوا، ثم نقبوا واستقطبوا، وطابوا واستطابوا، واستقطبوا ناراً وثلجاً، بحراً ووهجاً، بوحاً ولهجاً، عمقاً ولججاً. حصن بوشاق، لست وحدك في المكان، ففي المكان يقطن إنسان، يستقر في لجج الزمان، يستدعي وعياً وينحت على صفحة الماء اسم غواص وبحار ومسافر، يستدرج سعياً، وينقش على الرمل صورة امرأة عشقت لون التراب، فتوحمت باللون، فأنجبت وجهاً بلون الحياة. حصن بوشاق عاشق مشتاق لرائحة الطين المجلل بالطيب القديم، لصوت يخرج صداه ترنيمة حليمة، تربت على القلب وتمسد الدرب ببريق اللواعج وما لهجت به الروح مشخوبة بالنشيج. حصن بوشاق لوعة المهج وروعة النهج، يختال في العديم القديم، ضاحكاً مستبشراً متحدراً من أصول وفصول وفصل الخواتم المباركة، يبدو على القارعة فكرة ناصعة، وعبرة بارعة، ونبرة متولعة شوقاً وتوقاً، يبدو في زاويته القصية قلعة عصية، وشمعة تشعل فتيلها من ثقاب الحدق والألق، واللسان الوردي يمتص ريق البحر، وينشف قماشه على حبل الذاكرة، يستقصي أثر الأولين، ويفصح للحالمين عن جدول الشعر الذي مر هنا، عن الماجدي بن ظاهر، وعن أراجيز أحمد بن ماجد، وعن كتيبة الحاطبين في صحراء اللفظ والحفظ، والشظف والأسف، والرجف والعجف والرسف، والكسب والحسف، والنزف والطرف، والرف والكلف، والصلب والدنف والسغف، واحتمالات ما يفضي به العراء الأليم، والخلاء الكليم، والخواء الظليم. حصن بوشاق، يهمس للأمكنة، ويلمس شغاف الأزمنة، محتدماً، فتشيخ النجوم ولا يشيخ، ينحني ظهر التاريخ ولا ينحني، ينثني غصن للوز ولا ينثني، ينكسر موج البحر ولا ينكسر، تعشي عين الماء ولا يعشى، يتكئ الجبل على عصا العجز ولا يتكئ، يغيب وجه القمر ولا يغيب، تأفل الشمس ولا يأفل، يخفت صوت الريح ولا يخفت، يجف معين المطر ولا يجف، تسف التضاريس ولا يسف، يخبو النسر الجبلي في كهفه ولا يخبو، يعجب حبر القلم ولا يعجف، وتستريح الذاكرة شيئاً ما ولا يستريح، يمج الطير التحليق ولا يمج، ترسو المراكب على سواحل الاسترخاء ولا يرسو، تقطب الفصول أياماً وشهوراً ولا يقطب، يتقاعس المحارب وقتاً ولا يتقاعس، يتوه الحاطب المؤدلج عن بعض ثوابته ولا يتخلى.. هو حصن بوشاق الثابت النابت جذره في الأرض وفرعه في السماء. حصن بوشاق، مكانة الطين، ومكمن الحجر، وقدرة القدر، وصبيب المطر، ولغة الطير، وأشجان الشجر، ولذة التأمل، وشجون السهر، وقبضة الدفء، ولمسة السحر، ورهقة الشهيق، ونفضة النحر، ودفقة العميق، ورعشة القمر، ودمعة الذروة القصوى، وحبكة النفر، وظل التداخل المريع، وسبكة الحرو، وفزعة الوصل العريق وخزعة العمر. حصن بوشناق، القطرة في الشريان، وكأنه اشتهاء الأرض للماء، وكأنه اكتواء الماء بالحرقة، وكأنه احتراق الجسد بالجسد، وكأنه حبل الأمد، وكأنه الأجل المستمد من روح وريحان، وكأنه الرحلة الأبدية على سنام يخبب ولا يخبو، يرضى ولا يجهض، ولا يرتض، يفض ولا ينفض، يكظ ولا يختض، وكأنه.. وكأنه تنامى في الزمان كتاباً وخضاباً ورباباً وخطاباً وعَذاباً وعِذاباً، وسحاباً وصواباً، ورحاباً وهضاباً. حصن بوشاق، كأنه العشب في الأعماق، يبلل خصلاته بالملح، فلا يذبل، يجلل خضره بالعذوبة فلا يعجف، يكلل عنفوانه بالعزف فلا ينكسر، يدلل طفولته بالغناء فلا يكتتب، يبدل أصالته بالأصالة فلا يشوه، يعلل المكان بالنشيد فلا يخبو، يجدل سنابله بالفرح فلا يبلى، يهطل على الأعين مطراً فلا ينكفئ، يسدل على قديمه البريق فلا يقدم، يرفل بالصمود فلا ينقضي، يحفل بالزهو والأنفة فلا يتدثر، تجفل عيون الكون فلا يغفو، تقفل الحضارات متقهقرة فلا يقهر. حصن بوشاق، المنحة والفسحة والسنحة، والسفح والفسيح، والبوح الرجيح، والبعد المترامي في الهامات والقامات، وهو الرحلة والراحلة، والقِبلة والقابلة، والمفصل والفاصلة، والجواد والقافلة، والجلة الفاضلة، هو اللغة الفصحى والمساجلة، هو الجدل الجهيل والمجادلة، هو الطفرة التاريخية والظفرة، هو النفرة والحجيج تفاصيل في النسيج ومفردات في العبارة المتخيلة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©