السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سيرة الزمن الجميل

سيرة الزمن الجميل
19 يوليو 2012
يعد المفكر والناقد الدكتور جابر عصفور، واحدا من أبرز الوجوه الثقافية المصرية والعربية على مدار ما يزيد عن أربعين عاما، أبناؤه وتلاميذه في الجامعات المصرية والعربية وفي الحركة الثقافية من مبدعين وكتاب يملؤون المواقع الثقافية والساحة الثقافية والمكتبة العربية بحضورهم الجميل الرائع. جابر عصفور الذي لا يزال متألقا في عطائه، صدر له كتاب “زمن جميل مضي” عن الدار المصرية اللبنانية، يحكي فيه سيرته الذاتية ورحلته مع الأدب والفكر ورؤيته لزمن الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السادات وحتى الآن، ليكشف عن ذلك الجانب الإنساني في حياته، العائلة، الأصدقاء، أحلامه وطموحاته، لحظات الضعف والقوة، كاشفا عن قلب شفاف زاخر بالمعاني الجميل. وفي السطور القادمة نقلب بعض صفحات هذا الزمن الذي عاشه عصفور، بقلمه. لقاء الأبوين تصادف أن رأى أبي أرملة جميلة، قوية الشخصية، تعمل من أجل رعاية أبنائها اليتامى. وكان واضحا أنها ولود، قادرة على تحقيق حلمه في أن تكون له ذرية خاصة به، وولد يحمل اسمه على وجه الخصوص، أما هي فقد رأت فيه موئلا وشريكا يعينها، وتعينه، على مواجهة الأيام، فتزوجا وأصبحت هي ساعده الأول في تجارته، وفاتحة أبواب الرزق عليه، لأنها كانت أكثر منه حزما، وتقاوم فيه الإفراط والكرم والطيبة البالغة التي اعتاد عليها، فأصبحت خصالا راسخة في شخصيته. ومرت السنوات إلى أن رزقا بابنة أسمياها ليلى لأن كليهما كان يحب ليلى مراد، ولكن مرّ عام بعد عام، ولم يأت الولد الذي كان أبي يحلم به، فنذر أبي لسيدي جابر الذي اعتاد أن يذهب إلى مقامه في الإسكندرية أنه إذا رزقه الله بولد، فإنه لن يكف عن إطعام البؤساء المتحلقين حول مقامه، وظل يدعو الله أن يرزقه بولد يبقي على ذكره في الحياة بعد مماته. واستجاب الله لدعائه، ولم يرزقه بولد واحد، بل رزقه بتوأم، أطلق على اسم أولهما جابر، والثاني سيد. ويبدو أن عناية الله، وبركة سيدي جابر، أبقت على الوليد جابر، وتوفي سيد بعد أقل من شهر، أو أكثر قليلا ولم يحزن أبي، وإن كان يود من أعماقه أن يكون له ولدان بدل ولد واحد، ولكنه رضي بما قدَّره الله. ودعا للمولود الحي أن يحفظه الله، وأن يكون محققا حلم إكمال التعليم الذي لم يطقه أبي، وتمرد عليه، وندم على ذلك بقية حياته. ولكنه لم يكن من النوع الشكّاء، خصوصا بعد أن رزقه الله بالابن الذي ظل يدعو الله أن يحقق هو كل ما عجز أبوه عن تحقيقه. ولذلك كانت دعوته المفضلة المتكررة لذلك الابن، هي أن يمد الله في عمره حتى يراه مثل طه حسين. وكانت أمي تسأله: من يكون طه حسين هذا؟، فكان يشرح لها، ويذكرها بأن طه حسين أصبح باشا، وأنه ذهب إلى بلاد برَّه، وتفوق على أهلها في العلم والمعرفة، وأنه أستاذ جامعة عظيم، وأنه لذلك وغيره أصبح وزيرا للتعليم، وهو الذي أمر بأن يكون التعليم كالماء والهواء للجميع، أي بالمجان ودون مقابل. وكان طه حسين قد أصبح وزيرا للمعارف في سنة 1950، حين كنت في السادسة من عمري. ولذلك كان دعاء أبي يرن في أذني، ويبدو لي، بعد مرور كل هذه السنوات أول ما علق بذاكرتي من دعوات أبي وأمانيه على السواء. ولم أكن، مثل أمي، أعرف شيئا عن طه حسين، ولا أظن أن أبي نفسه كان يعرف شيئا عن الجامعة التي نال منها طه حسين الدكتوراه، ولا الجامعة الأجنبية التي أكمل تعليمه بها. فكل ما كان يعرفه أبي أن طه حسين هذا باشا، وأنه عبقري لم يمنعه عماه من أن يصل بالعلم إلى مرتبة الباشوية، تماما كما دفعه حبه للفقراء أن يجعل التعليم مجانيا لأولادهم. وبقدر ما أذكر هذا الدعاء لأبي الذي أصبحت أمي، مع مرور الوقت، تكرره بدورها، بعد أن عرفت اسم هذا الباشا الذي يريد زوجها لابنه أن يكون مثله. وكانت، بدورها، تحب لابنها ما يحبه له أبوه، خصوصا أنه آخر العنقود الذي أصبح أحب أبنائها وبناتها إليها، حتى لو كانت تقسو عليه، كي لا يفسده حنان أبيه المفرط الذي لم يكن يرفض له طلبا. أما الأب فبسبب ما نذره لسيدي جابر في الإسكندرية، كان يصحب ابنه لكي يزورا قبر الشيخ الذي حلت بركاته في ميلاد سميه الصغير. وكانت أمي تصحبنا في هذه الرحلة، أحيانا، لكن دون أن تنسى تعنيف أبي على إسرافه فيما يمنحه من صدقات، فقد كان من رأيها أنه بدل هذا الإسراف، على أبي أن يعمل حساب المستقبل الذي لا يعلم أحد ما يخبئه من أمور. أما المرات التي لم تكن أمي تصحبنا، وشقيقتي ليلى التي كانت تكبرني بسنوات قليلة، فكان أبي يذهب معي وحدي، لكي نقرأ الفاتحة أمام مقام سيدي جابر، ويدعو لي بالصحة والعافية، دون أن ينسى تكرار الدعاء كي أكبر وأكون مثل طه حسين. أمي الصلبة وعندما أسترجع تفاصيل كثيرة، بهت بعضها في الذاكرة، عن علاقتي بأمي وأبي، أكتشف أن صلابة أمي وصرامتها هي التي قادت الأسرة إلى بر الأمان، فقد كان أشبه بالوتد الذي يمسك بكل الأطراف، ويحافظ على ثباتها، وهي التي تولت رعاية أمور العائلة، دبّرت ولم تكف عن الادخار إلى أن استطاع أبي أن يستأجر محلا كبيرا في ناصية عمارة كبيرة، انتهى بناؤها في شارع سعد زغلول، وبدأ أبي تجارة رائجة، أصلحت أحوالنا المالية لسنوات عديدة، إلى أن أصابته مضاعفات مرض السكر الذي ورثته، وخرج من المستشفى بعد وقت طويل وعمليتين جراحيتين خطرتين، فأصبحت صحته أضعف، وقدرته على إدارة العمل أقل. وكان على أمي أن تتدخل، وتقود مركب الأسرة إلى بر الأمان، كما كانت تفعل دائما، فهي التي تدبرت نفقات تعليمي في أولى المدارس التي دخلتها، وكانت مدرسة خاصة، ومنها إلى المدرسة الثانية التي أمضيت فيها عاما، انتهى بتغيير نظام التعليم، وإنشاء المرحلة الإعدادية، بعد الابتدائية، لتكون مقدمة للمرحلة الثانوية، فدخلت مدرسة الأقباط الإعدادية، وكانت مدرسة خيرية بالمجان، وبعدها مدرسة طلعت حرب الثانوية التي تركتها بعد العام الدراسي الأول، كي أنتقل إلى مدرسة المحلة الثانوية التي كانت تخصصات القسم الأدبي فيها أكبر. وأمي هي التي قامت بادِّخار نفقاتي في الجامعة، وقامت بنفسها بشراء الأثاث الذي حملته معي إلى القاهرة، ووضعته في غرفة صغيرة مع صديق سبقني بعام إلى دخول كلية الآداب، وهي التي كانت حريصة على أن توفّر شهريا ما أدفع منه إيجار المسكن، بالغ التواضع، في إحدى حارات الجيزة، ومصروفات الغذاء والكساء والمواصلات إلى أن تخرجت. وأنا مدين لحسن تدبيرها الصارم الذي تعلمته منها، رغم ما يختلط به، أحيانا، من نزوات الكرم التي ورثتها عن أبي الذي لم أر مثيلا له في طيبته وتسامحه. وأنا مدين لهذه السيدة العظيمة، قوية الإرادة والعزيمة والشكيمة، بأنها أوصلتني إلى بر الأمان. ولم تتخل عن رعايتي إلا بعد أن تخرجت. مشهد لا ينسى ولا أنسى مشهدا دراميا جمعنا، وكان أبي حاضرا، وذلك بعد أن سافرت إلى القاهرة لمعرفة نتيجة الليسانس، وأخبرتها أنني لن أتغيب سوى أيام معدودة. وعرفت النتيجة، وكنت الأول على دفعتي، وتخرجت بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى التي لم يحصل عليها أحد قبلي على امتداد ما يزيد على عشر سنوات، فكان لابد من البقاء، والتأكد من أمر التعيين في الجامعة، ومضت الأيام ولم أجد ما يريحني من وعود الأساتذة الذين كانوا في حالة صراع، أوقف تكليفي، فعدت إلى المحلة، على أن أعود إلى القاهرة لمتابعة الموقف، أو البحث عن عمل إلى أن ييسر الله الأمور وما إن رأتني حتى نظرت إليَّ غاضبة، قائلة: ألم تقل إنك لن تطيل البقاء في القاهرة؟ فقلت لها: إنني نجحت وكنت الأول على كل زملائي، فتهلل وجه أبي، وأخذني بالأحضان، ولم يخف دموع الفرح التي غمرت خديه، وكان أكثر سعادة عندما أخبرته أنه يمكن تعييني معيدا في الجامعة، فصاحت غاضبة: وهل تريد أن تعيد الدراسة بعد كل هذه السنوات؟!. فضحك أبي، وقال لها: يا جاهلة، معيد يعني أستاذا صغيرا في الجامعة، وهذا تكريم كبير لابنك، وكعادتها، أخفت فرحتها، وقالت: المهم أنه نجح، وأراحنا من نفقاته، فضحك أبي منها، وقبَّلتها رغم ممانعتها الظاهرية، وسمعت وأبي همسها لنفسها: الحمد لله، ربنا يحميه. وظلت على ما تعودت عليه إلى أن استلمت الوظيفة الأولى لي. فقالت لي، مخفية مشاعر الفرحة داخلها وراء قناع الصرامة الذي كانت تجيد اصطناعه، جملتها التي لا أنساها: لقد أدينا ما علينا، فقم أنت بما عليك. فقبَّلتها، ورأيت طيف ابتسامة قاومتها، ودمعة حبستها، لكي لا?تظهر ضعفها وحبها الغامر لي، فقد كانت، رحمها الله، تكره الهشاشة العاطفية والبكاء وإظهار المشاعر الفياضة، وتؤثر أن يكون فعلها وسلوكها العملي معبرا عن حبها العميق لكل الذين تراهم الأقرب إلى قلبها. خطاب عبد الناصر ما كدت أستقر في منزلي بالقاهرة في المساء حتى أخبرني زميلي في السكن بأن الدكتورة سهير القلماوي رئيسة قسم اللغة العربية أرسلت من يستدعيني لمقابلتها في مكتبها بمجرد عودتي، وذلك لأمر بالغ الأهمية. ويبدو أن متاعب اليوم وإحباطاته دفعت بي إلى النوم سريعا، فظللت نائما إلى الصباح. وكان أول ما فعلته بعد استيقاظي ارتداء ملابسي والخروج لمقابلة الدكتورة سهير القلماوي التي لم أكن أعرفها معرفة حميمة بعد. وكانت المفاجأة السارة الأولى في اللقاء ترحيبها الحار بي، وعتابها لأنني لم أحاول التعرف إليها والاقتراب منها خلال سنوات الدراسة. أما المفاجأة السارة الثانية فكانت إبلاغي أن موضوع تعييني معيدا في القسم قد انتهى إلى ما يسعدني، وأن عليَّ الذهاب لمقابلة رئيس الجامعة لتحيته والتعرف به. وخرجت من عند أستاذتي إلى مكتب رئيس الجامعة وأنا أكاد أطير من الفرح، غير بعض التردد الذي عاودني عندما دخلت غرفة مدير مكتب رئيس الجامعة الذي صدّني أكثر من مرة، ولم يسمح لي بمقابلته لأشكو له الظلم الذي حال دون تكليفي معيدا. ولكن التردد اختفى عندما رأيت علامات الترحيب على وجه مدير المكتب الذي طلب مني الانتظار، وغاب قليلا ليعود طالبا مني الدخول إلى مكتب رئيس الجامعة الذي ما إن رآني حتى نهض من كرسيه وأقبل عليَّ متهللا مرحبا. وكانت دهشتي كبيرة عندما احتضنني الرجل، وظل يربت على كتفي في حنو أبوي قائلا: لماذا لم تأت إليَّ من قبل وتحدثني عن عدم تعيينك؟! ولم أستطع الإجابة، فقد جئت إلى مكتبه أكثر من مرة، وفي كل مرة كنت أعود مدحورا. ويبدو أن الرجل استشعر شيئا من صمتي فقطعه بقوله: على كل حال، لقد أصدرت قرار تعيينك معيدا، فاذهب إلى أمين الجامعة لاستكمال أوراق التعيين، ولا تنس أن بابي مفتوح لك دائما إذا احتجت إلى أي شيء. وخرجت من مكتب رئيس الجامعة قاصدا مكتب أمين الجامعة، وأنا أدعو للدكتورة سهير القلماوي في أعماقي، متصورا أنها هي التي كانت وراء هذا التحول في الموقف. ووصلت إلى مكتب أمين الجامعة الذي بادرني بقوله: أأنت الذي فعلت بنا كل ذلك؟! فقلت له: أنا لم أفعل شيئا، وبارك الله في أستاذتي التي ساندتني ودافعت عني. فنظر الرجل إليَّ نظرة تعجب، وقال: أستاذتك؟! هل تهزأ مني يا ابني؟ ألم ترسل شكوى إلى رئيس الجمهورية؟ وأخرج الرجل من أحد أدراج مكتبه الخطاب الذي كنت قد أرسلته إلى جمال عبد الناصر ونسيته مع الوقت. وأعطاني الرجل الخطاب لأرى ما فيه، فوجدت تذييلا على الخطاب بقلم عبد الناصر، وجهه إلى وزير التعليم العالي، آمراً بالتحقيق، وتحته تعقيب من وزير التعليم العالي إلى رئيس جامعة القاهرة آمراً بالتعيين والتحقيق، وتحته خط رئيس جامعة القاهرة الذي أصدر قرار التعيين الفوري. وبعد أن قرأت هذا كله، أعدت لأمين الجامعة الخطاب دون أن أنطق حرفا، فقد ضاعت مني كل الكلمات، وظللت صامتا، متوترا، مرتعشا، تناوشني شتى الانفعالات التي لم تفارقني طوال الجلسة، وفي أثناء توقيعي على الأوراق التي طلب مني أمين الجامعة توقيعها. وخرجت من عند الرجل لأعود إلى كلية الآداب لأكمل إجراءات تعييني في القسم الذي لا أزال أعمل به منذ التاسع عشر من مارس سنة 1966، بسبب ذلك الخطاب الذي أرسلته من قرية نائية إلى جمال عبد الناصر طالبا العدل الذي تحقق على يديه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©