السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«كارلوس» في المهرجان.. خلط شاعرية الثورة بلون الدم

«كارلوس» في المهرجان.. خلط شاعرية الثورة بلون الدم
22 أكتوبر 2010 00:12
ما هي المرجعية التي يستند عليها المؤرخ أو كاتب السيناريو عندما يشرع في تناول شخصية شهيرة في التاريخ الراهن أو القديم، وما هي مقاييس الفصل والتمييز بين كاريزما الجريمة وكاريزما النضال التي تتمتع بها هذه الشخصية، وهل التعاطي مع قيمة وأثر هذه الشخصية مرهون بظرف سياسي واجتماعي معين، وحالما يتبدل هذا الظرف تذهب الأحكام والألقاب في اتجاه مفارق ومضاد تماما لأحكام الماضي. هذه الأسئلة المعيارية والقيمية التي تتطلب الحياد المطلق والتجرّد الكامل، والمشوبة أيضا بتفاصيل مختلف عليها، كانت حاضرة وبقوة في فيلم “كارلوس” الذي عرض مساء أمس الأول ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان أبوظبي السينمائي، والهواجس المتداخلة والمثيرة للجدل التي أشاعها هذا الفيلم بالذات نبعت من أضواء الهالة الأسطورية التي أحاطت بإليتش ساميريز سانشيز الملقب بـ”كارلوس” أو “إبن آوى” الذي خرج من معطف الحالة السياسية الهائجة والمتفجرة التي شهدتها حقبة السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي، هذه الحالة التي أججها الوضع الساخن في الشرق الأوسط وفي أوروبا وشارك في حربها الخفية والشرسة الأنظمة السياسية وأجهزة المخابرات والخلايا السرية، وسط حرب أخرى وعراك أكثر ضراوة بين الولاءات الفكرية والثورية وبين المصالح المادية والشخصية لأصحاب القرار واللاعبين الكبار في هذه الحروب النبيلة أحيانا، والمشبوهة والقذرة في أغلب الأحيان. أخرج فيلم “كارلوس” الفرنسي أوليفيه أساياس الذي ِشارك أيضا في كتابة سيناريو الفيلم، وصوّر المشاهد في ست حواضر ومدن مختلفة هي باريس وبيروت ولندن وبرلين بودابست والسودان، والفيلم الذي عرض في مهرجان أبوظبي السينمائي هو النسخة السينمائية التي قدمها المخرج في ساعتين وأربعين دقيقة بعد عمليات اختصار وتشذيب للنسخة التلفزيونية التي عرضها في الدورة الثالثة والستين من مهرجان “كان” مايو الماضي وجاءت في خمس ساعات ونصف. شارك في النسخة المعدلة من الفيلم مجموعة من الفنانين العرب منهم أحمد قعبور ورودني حداد وفادي أبي سمرا وطلال الجردي وأنطوان بلابان. وكان واضحا في الفيلم وجود خيط رفيع يفصل بين الأسلوب الروائي وبين المحتوى التسجيلي المتضمن أسرارا وتفاصيل ومعلومات بعضها ثابت وموثق وبعضها مختلق ومشكوك به حول هذه الشخصية الإشكالية والمثيرة للجدل، خيط رفيع كان كافيا للوصول إلى محطات مختلفة من حياة المناضل الشاب القادم من فنزويلا والحالم بنظام ثوري عالمي يخلّص الشعوب من ظلم وديكتاتورية الأنظمة الرأسمالية الجشعة والمتسلطة، هذا الحلم الأقرب إلى (اليوتوبيا) رآه كارلوس ـ يقوم بدوره الممثل الفنزويلي إدغار راميريز ـ قابلا للتحقق بواسطة السلاح وبواسطة العنف الذي يحمل في طياته الكثير من المسوغات والمبررات الكافية لتنفيذه وعلى نطاق واسع ودموي أيضا. يبدأ الفيلم في تتبع خريطة هذا التطلع الحالم والشرس انطلاقا من العاصمة باريس التي شهدت في العام 1973 اغتيال محمد بودية الجزائري الأصل وقائد العمليات الخاصة لجبهة التحرير الفلسطينية في أوروبا، وكان واضحا من أسلوب الاغتيال وجود بصمات لجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، بعد مرور شهر من عملية الاغتيال نرى كارلوس في بيروت وهو يتسلم مهام بودية في أوروبا من قبل وديع حداد العقل المدبر للعمليات العسكرية التي تنفذها الجبهة في العالم وخصوصا في أوروبا التي شهدت تعاونا وتبادلا مكثفا بين منظماتها التحررية السرية وبين منظمة التحرير الفلسطينية ومنها منظمة أيلول الأسود الشهيرة، ويركز الفيلم على التعاون القوي بين المنظمة وبين الخلية الثورية الألمانية (بادر ماينهوف) ودور كارلوس في التنسيق للعمليات المشتركة بينهما والموجهة لضرب الأهداف الإسرائيلية والمنظمات اليهودية في أوروبا. يعرج الفيلم أيضا على المنعطف الخطر والمهم الذي خلق الشهرة المدوية لكارلوس، وذلك بعد تنفيذه وقيادته لعملية اختطاف وزراء النفط في منظمة أوبك في فيينا العام 1975 وهي العملية التي شغلت الحيز الأكبر من زمن الفيلم نظرا للتفاصيل والحيثيات والفرضيات الكثيرة التي رافقتها بدءا بالتخطيط للعملية والتصفيات الجسدية التي شهدتها وانتهاء بالمفاوضات المرهقة التي خاضها عبدالعزيز بوتفليقة، وزير خارجية الجزائر آنذاك، مع الخاطفين في الأراضي الجزائرية التي حطت فيها طائرة الوزراء المخطوفة آنذاك. وبعيداً عن المنحى الوثائقي الذي انتهجه الفيلم وأثار لغطاً وتشكيكاً في بعض مروياته وفرضياته فإن الجانب الدرامي في الفيلم كان واضحاً من خلال الإيقاع النفسي والعاطفي الذي حرك نوازع واختيارات كارلوس استنادا للظرف الزمني والتاريخي الذي لوّن حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، صوّر الفيلم المغامرات العاطفية التي عاشها كارلوس والتي مرت بمراحل من الطيش والحب العابر ثم العشق وأخيرا الزواج من عميلة ألمانية تعرّف إليها في بغداد، وترجمت هذه المغامرات القلق الذاتي والهواجس والشكوك التي رافقته وسط سلسلة من المطاردات والخوف الدائم والحرص الشديد، كما صور الفيلم ذلك الشرخ الداخلي العميق الذي حيّر كارلوس طويلا وروّجت له تلك الألقاب التي حملت مسمى اللص والمجرم والمرتزق والإرهابي، وألقاب أخرى ربما كانت تدور في نطاق محصور جداً مثل البطل والملهم والثوري والحالم، وهي ألقاب كان طيف تشي جيفارا حاضراً من خلالها مع فارق المسببات والظروف والتكنيك المتبع. هذا المثال وهذا النموذج ربما كان المطلب الأهم والأكثر رسوخا في أعماق (كارلوس) ورؤيته الخاصة، ولكن العالم الداكن والسري الذي أقحم نفسه فيه ربما كان أكثر خطورة ودموية مقارنة بحماسه وتطلعه الشخصي لمعنى وقيمة مصطلحات أيديولوجية كبرى مثل التغيير والثورة والخلاص. كثيرة هي الإحباطات والمؤامرات والدسائس والخيانات التي أبانها الفيلم، والتي رافقت مسيرة وحياة كارلوس المطلة دائماً على الهاوية، وكثيرة هي أيضاً لحظات الخذلان والتخلي والاغتراب التي خبرها في المراحل الأخيرة من مغامرته الثورية، خذلان بدأ في موسكو التي تعلم في جامعاتها ثم في عدن التي تدرب فيها وفي دمشق وبيروت اللتين مهدتا لعملياته النوعية في أوروبا، وأخيرا في الخرطوم التي سلمته لجهاز المخابرات الفرنسي كي يلقى في باريس حكما بالسجن المؤبد بتهمة قتل ثلاثة من رجال الأمن الفرنسي في العام 1975، هذا الخذلان أيضا كان رهنا ونتيجة للتبدلات الهائلة التي طرأت على النظام العالمي بعد انهيار النظام الشيوعي في روسيا، وسقوط التكتلات الاشتراكية وضمور الحركات الثورية اليسارية في العالم، ولكن كل هذه الخسارات التي راكمتها التجربة الحارقة في حياة كارلوس ـ الذي وصل الآن لعمر الستين ـ هي خسارات لا تخفي في طياتها البريق التاريخي والوهج المخابراتي والدهاء الفطري لأغرب وأخطر رجل في العالم، والذي أعلن في أكثر من مناسبة بأن السلاح هو امتداد لجسده وتفكيره، فخلط بذلك شاعرية الثورة مع لون الدم!
المصدر: الاتحاد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©