الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«جلد حي» .. ستة أيام تروي وجع الطفولة المعذبة

«جلد حي» .. ستة أيام تروي وجع الطفولة المعذبة
22 أكتوبر 2010 00:12
في عالمنا أشياء صادمة، عوالم مثيرة، يقف عندها الفن مدهوشاً فيحاول أن يجسدها في لوحة، لقطة سينمائية، شكل تعبيري من أي فن من الفنون. في عالمنا نجد في كثير من الأحيان العادي والمألوف واليومي يتحول إلى نمط جديد من الغرابة. في عالمنا نبصر الأشياء فلا نصدق في كثير منها أنها تعيش معنا وكأنها مغربة تجعلنا نتساءل، كيف حدث هذا؟ ولماذا لم أره من قبل؟ في عالمنا لم يعد الفن تطهيرياً، بل هو الباعث على التساؤلات الكبرى تلك التي تعمق التناقضات. أمس الأول وضمن مهرجان أبوظبي السينمائي عرض فيلم تسجيلي ضمن برنامج “آفاق جديدة” وهو من سيناريو وإخراج المصري فوزي صالح بـ56 دقيقة، ولابد لنا أن نفهم شكل الفيلم وعالمه الذي يتناوله كي ندخل في جزئيات هذا المكون الجميل الذي قدمه فوزي صالح، إنه فيلم “جلد حي” من إنتاج المبدع محمود حميدة. قسم صالح فيلمه إلى 6 أيام وفي كل يوم يعرض جانباً من حياة أطفال لم يتجاوزوا السادسة عشرة وهم يمارسون مهنة الدباغة في مدابغ القاهرة. يرسم فوزي صالح هذا العالم في 6 أيام ويجلس في يومه السابع ليحدق ويشاهد ما صنعت يداه. في اليوم السابع فرحة الاكتمال، وبهجة التعب المضني واستراحة المحارب، في اليوم السابع اكتمال كوني وهو سابع أيام الخلق حيث يحق للصانع أن يبصر صنعته وللعامل أن تبتهج الروح فيه. عند شارع مجرى العيون في القاهرة تنصب كاميرا فوزي صالح، ليبدأ هذا العالم بالتشكل كالجنين يوماً بعد آخر، وكان لابد أن يحدد صالح الدائرة التي سيشتغل عليها ويؤطر مكانه عبر جدار رفعت عنده لافتة تشير إلى “شارع مجرى العيون” وسط القاهرة. في اليوم الأول نبصر بهجة الراقصين في الموالد، أطفال تبعتهم أفراحهم الصغيرة إلى مساحات واسعة من الأمل والحياة في عالم ممزق، عالم منهار، البيوت مهدمة والحيوانات تسير مع البشر والشوارع الملتوية تحولت إلى أنهر من مياه المدابغ التي يصل عدد الذين يعملون فيها ما يقرب من 80 ألف طفل وشيخ وامرأة، وغالبيتهم من الأطفال دون الـ15 عاماً.. في اليوم هذا نلج مع الكاميرا التي تحملها عربة “الكارو” التي يقودها “محمود شوشو” (13 عاماً) وهو يحث حصانه كي يرينا ما لم نره من قبل إلى عمق رحم المأساة “روائيون مصريون كانوا يشاهدون الفيلم معنا يعيشون في القاهرة كشفوا لنا أنهم لم يروا ما وراء جدار شارع مجرى العيون”. في اليوم الأول يسرد الحدث محمود شوشو ويخلق فوزي صالح رؤى ناقدة بين الكتابات على الجدران “ربنا افتح علينا وأرزقنا” نجد في هذا العالم المأساوي أنه من الصعب الحصول على الرزق فيه، الأزقة أنهر، البيوت رطبة وبقايا الجلود طافحة فوق سطح المياه والمعامل تنزف المواد الكيماوية حيث تفتح صهاريجها بشكل مخيف. كبريت الصوديوم، وحامض الكبريتيك وبيروكسيد الهيدروجين والبترول وغيرها الكثير، تعيش على أجساد الأطفال.. تتقرح، تتمزق.. تسلخ فتشوه. حامض الفورميك، كرومات البوتاسيوم، فورمات الصوديوم.. كلها تهجم على وجوه الأطفال، على أياديهم، على صدورهم، على أحلامهم بالفتيات الجميلات.. إنهم خائفون. في هذا اليوم يجتمع الساردون ليرووا حكاياتهم مع حياة لا تطاق ومع بنى فوقية تخلت عنهم بل تعاملهم بالسياط. محمود ضبو (14 عاماً)، سارد آخر يروي حكاية انهيار البنية الاجتماعية.. الأب المتزوج من امرأة أخرى والأم المتروكة لطفل صغير يعيلها، وفورة الرغبة الجنسية الطافحة التي بدأت لديه في أول جملة يرويها. الناس الذين هنا والناس الذين هناك. ما بين الـ”هنا” والـ”هناك” جدار طويل، يبدو تاريخياً، حاملاً للعزلة، إذ لا أحد يستطيع أن يخترقه إلا محمود ومحمود. السارد الثالث محمد فرج (15 عاماً).. أول ما يبدأ به علاقته بالفتاة التي أحب فلم يفلح في الوصول إلى البهجة. في اليوم الأول قدم فوزي صالح بانوراما صادمة، لعالم لا يصل إلى أدنى حدود العطف الإنساني، عالم من التمزق في الذات والوجود.. تشتغل الكاميرا بكل حرية، وسط آلام الأطفال وعذابات الآباء وضجيج الدواليب والماكنات المزيتة، والكيماويات القاتلة، والجلود المسلوخة، وأيدي الأطفال الراعشة. في اليوم الثاني ماء النار تروي فعله قصص رجال وأطفال، وتقترب الكاميرا لترصد أحذية الأطفال البلاستيكية التي تصل حد الركب، وصبحي السارد الخائف من ماء النار يتكلم برعشة المصدوم طوال عمره. مواد كيماوية وأي خطأ ينزع جلدك عن لحمك، والتيار الكهربائي الذي يغذي هذه الدواليب والصهاريج العملاقة يتراقص بين الماء وصفائح الجلود المبعثرة قرب الفتحة المربعة التي تؤدي إلى جوف الصهريج المدور. ويحلم أطفال المدابغ بالرقص على أنغام فرق المولد الشعبية، وبزيارة السيرك وحي الحسين والسيدة نفيسة (حلم مؤجل حتى اليوم السابع). حسام رجب (12 عاماً) يحمل وجهاً قاسياً، يتصرف برجولة غضة وهو يصلح ماكينة الدباغة الهائلة التي تعطلت، وفي ذات الوقت وبعد أن يدور دولابها، نجده فرحاً يأخذ دراجته ليذهب بها إلى محل أبيه وقد علق على مقبضها صورة “شبح” في اشارة إلى تخيلات ذاته البريئة. وما بين طفولته ورجولته المصطنعة حكاية يرويها والده “أبو حسام” الذي يفصح عن حالة من القسوة “نعم أضربه لو كان مخه تمام لما ضربته”، وينكفئ حسام خجلاً من رجولته التي لم تكتمل بعد. ماذا قدم فوزي صالح في اليوم الثاني؟ إنه أبدع نصاً لم يتدخل فيه، شيّد صرحاً لم ينحته، صاغ حكاية لم يروها. في اليوم الثالث من عمق رحم المدبغة، من وساخة العالم كله، من تشوه لقمة العيش، من أحزان “سيد” الراوي الجديد ونصائحه المخيفة حين يقول: “لابد أن يكون مع الطفل الجديد في المدبغة رجل يمتلك خبرة” حيث الكيماويات ومية النار بالذات لا ترحم “الجلد الحي” (لاحظ دلالة العنوان المغايرة والموازية للطفولة). ويتحدث “سيد” عن ماكينة السكاكين ذات الـ24 سكيناً وهي الآلة التي تزيح عن جلد الحيوان فروته، ليخرج الجلد أسفل الفروة ناعماً، نتناً، أملس، وأصابع العامل تتراعش قرب شفراتها التي لا تبتعد سوى سنتيمترات قليلة عن الدم والصراخ والفزع. جميل (سارد جديد) يحكي أسباب مجيء الأطفال “أب عاجز، ولد على 5 بنات، أب ميت، أم مطلقة، وأب متزوج في أحضان زوجته الجديدة” كلها تسوق أقدام الأطفال إلى المدابغ. يضطلع “حسام” سارد اليوم الثاني ليمارس مهمته ثانية فيقول “في الخارج هدوء، هنا قرف”.. وما بين الـ”هنا” والـ”هناك” تضيع الأحلام. وتكثر الرواة ومنهم “والد محمد” وتقترب كاميرا فوزي صالح من أصابعه المتقرحة وسيجارته التي تحمل آلامه. فوزي صالح ترك الحوار للناس، تركهم يقولون، يعبرون، لم يتدخل، لم نشعر به، بيد أنه يدخل في تأويلنا لكل لقطاته، حين يقترب من الأصابع، من وجوه الناس، من شدة الظلمة التي يلقطها من الأعلى فتبدو مثل بئر سحيق ويقترب من البساطيل النايلونية التي لابد أن يلبسها الطفل كي لا تتمزق أصابع قدميه. يفصح لنا الرواة عن أن هؤلاء الأطفال لم يأتوا في أعمار الحادية عشرة أو الخامسة عشرة التي يحملونها الآن.. إنهم جلبوا إلى المدابغ منذ سن الرابعة.. حيث عاشوا في أزقة المدابغ التي هي أنهر من الألوان.. الأحمر والأسود والأخضر، بين فحيح من النار في الدروب العفنة وبين براز الخيول وطرطشة المياه الحامضية على الوجوه والصدور. لقطة مفقودة توقعنا من المخرج فوزي صالح أن يترجم كل ما قالته كاميرته عن الصراع الخفي بين الكيماويات والأطفال، بأن يعرض حالة أو حالتين يتشوه فيهما الجسد، وبخاصة أنه التقط مانشيتات مهمة وهي: “مستشفى المقطم” و”مستشفى سرطان الأطفال ـ مصر” وكان المفترض أن تعمق هذه الفكرة. في اليوم الرابع المسامير فوق الجلود.. كيف ينشر الجلد، كيف يمط، كيف يثبت في الأخشاب؟ وحكاية عائلة محمود “الأم، الأب” واخوانه “مي وحسن ودينا ومريم وشهادة”.. وحصان وكلب. ويضطلع محمود بالسرد في هذا اليوم ويحكي قصته مع المدينة، وراء الجدار العظيم وحكايته مع ضابط الشرطة الذي ضربه، وتسير الحكايات معه وهو يروي بعفوية قل نظيرها. في اليوم الخامس محمود يدخل شوارع القاهرة وعند جدار أسطوري يذكرك ببناة الأهرام البعيدين ترى الحقيقة، أن ثمة جداراً من حجارة هائلة يفصل المدابغ عن القاهرة وهي التي في قلبها تعيش، يتلصص محمود بعربته التي أكل وشبع حصانها قبل لحظات.. يدخل الشوارع الخلفية (يذكرنا برواية عبدالرحمن الشرقاوي) ثم يدخل حسن شوشو (17 عاماً) سارداً، وهو صديق محمود الذي يملك حكاية لابد أن يقولها، حكايته مع أبيه وكيف تركه ليعيل أمه. وتنتقل الكاميرا في أقسى صور مرت بالفيلم حينما تحمل ظهور الأطفال الجلود وهم يسيرون بها كأنهم الجمال الوئيدة، هادئين، ثابتين، في صمت مخيف وسط الظلام، والوحشة، والقسوة.. إنهم آلهة الصمت. يدخل جلوكوز (14 عاماً) سارداً آخر فيعترف بأنه تربى في المدابغ ويخاف “مية النار” ويصف فعلها “تمزقنا.. تحمر جلودنا.. ثم تشل أيدينا”. معلومات وحقائق قد نتساءل.. هل كان من الضرورة أن يعرف المشاهد عن عالم من يدير المدابغ وكيف يعيش المجهولون دائماً، أصحاب الأصابع الخفية، الرقيقة.. هل كان من الضرورة أن يخلق فينا “فعل التغريب البريختي” حين نقارن، ثم نغضب، هل كان من الضرورة أن يسجل الفيلم لنا مجموعة من الحقائق والشهادات الأخرى لتتعمق المأساة لدينا وبخاصة أن الفيلم قد اختتم بمجموعة من المعلومات والحقائق التي تفضح كل هذا العالم. في اليوم السادس يضطلع السارد عيد (15 سنة) فيروي حكاية حبه لفتاة متعلمة في عالمه الجميل “خرجت معها، تكلمت معها، أقول لها أحبك وتقولها لي”، ويحكي في المقابل عن عالم قبيح “رائحة البويا والخناقة التي مات فيها أحدهم، ومية النار التي أخاف أن تسقط على صدري أو وجهي”. ويعود فوزي صالح بأبطاله إلى حياة الشارع المصري حيث يذهب كل هؤلاء الفتيان إلى المولد. في اليوم السابع المفقود هو ذاته اليوم الأول.. بصورة جديدة، أغاني مصرية شعبية، الدفوف المصرية والمزامير “القديمة” والموبايلات “الحديثة” والوجوه قديمها وحديثها تجتمع عند المولد وتلقي أحزان المدابغ خلف ظهورهم، ليبدأ الرقص وتمتزج الروح بالحياة، 5 أطفال تنقلوا في حكايات 6 أيام يجتمعون في ليل المولد، في يوم مفقود عن الحكاية، موجود في ذهن فوزي صالح وهو يبصر هؤلاء الذين ربما تحولوا إلى أصدقاء له فصار مكملاً لعددهم 6 أطفال بينهم هذا المخرج الرائع الذي عاش بقلب طفل ونقل لنا إحساس أصدقائه بصدق فاستحق أن ينقل عالمهم هو وحده لا غيره. سيرة مختصرة وُلد فوزي صالح في الاسكندرية، ودرس كتابة السيناريو في المعهد العالي للسينما في القاهرة و”جلد حي” 2010 هو باكورة أفلامه الوثائقية الطويلة، ومنذ عام 2008 بدأ رحلة البحث في هذا الفيلم. شهادة محمود حميدة أنا مؤمن بأهمية الأفلام التسجيلية، أنا لم أبحث عن الأفلام، إنني أعثر فيها بالصدفة، فيلم مهم لفوزي صالح، عارف أنه صعب، وقد أنتجت الفيلم وأعجبت به.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©