الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة في منحنيات الحروف

رحلة في منحنيات الحروف
19 يوليو 2012
في المشهد الحديث لفنون الخط، كما يرسمه خبراء فن الخط العربي في العالم الإسلامي، حقق الخط الفارسي شهرة عالمية إلى جانب الفنون المعمارية والمنمنمات، إذ لا تزال المتاحف الأوروبية تحتفظ بلوحات لكبار الخطاطين الإيرانيين أمثال: سلطان علي مشهدي وميرزا غلام رضا ومحمد رضا كلهر والأخوين مير خاني وأمير خاني، علي رضا عباسي ورضا عباسي ومير عماد حسني الذي أوصل خط النستعليق الفارسي إلى درجة راقية دفعت الكثير من الدول المجاورة إلى الاستفادة منه. ومنهم إسرافيل شيرجي الذي وجد نفسه كبقية الخطاطين الإيرانيين الرواد أمام كنوز ممتدة من الإبداعات الفريدة الممتلئة بالمعاني والحيوية. وفي دبي وصالات عرض الفنون فيها، لا تكاد تمر فترة قصيرة حتى نجد أنفسنا أمام تجارب جديدة متميزة من فن الخط العربي الإسلامي، والفنون الإسلامية الأخرى بالطبع، المعمارية، الدينية والمدنية، وفن النسيج والتطريز والزخرفة، وبصورة خاصة ما يشتهر به فن تذويق السجاد الفارسي. معارض تقدم لنا عوالم من الفن لم نكن نعرف عنها شيئاً سوى ما يكتب هنا وهناك، لكنها اليوم حاضرة بيننا. نقف هنا اليوم أمام هذا الفن من خلال معرض “الخط الفارسي المعاصر” للفنان الإيراني فريدون عميدي الذي ينتمي إلى جيل جديد ونمط متميز في هذا المجال. وفي معرض عميدي المقام حاليا في غاليري “أكس في أيه” في مركز دبي المالي العالمي، نقف على أعماله التي تتمحور ضمن إطار الخط الفارسي المعاصر، في هذا المعرض الذي يستمر حتى أوائل شهر سبتمبر المقبل. ولكن قبل ذلك لا بد من عودة إلى جذور التجربة الإيرانية في استخدام الحرف العربي ضمن الخط الفارسي، متكئين على المصادر التي درست هذه التجارب. عودة إلى الجذور قديمة هي التجربة الثقافية العربية المشتركة مع الثقافة فارسية، فهناك الكثير مما يستوقف الباحث في هذا المجال، حيث الكثير من العناصر المشتركة بدأت في وقت مبكر، منذ دخل الفرس بثقافتهم وتجاربهم عالم حضارتنا العربية الإسلامية، وراحت هذه الحضارة تستوعب حضارات الأمم والشعوب، بكل ثقافاتها، علومها وآدابها وفنونها، فكانت لنا هذه الحضارة الإسلامية بامتداداتها وعناصرها المختلفة التي ألف الإسلام بينها، وورثنا نحن الأسلاف مع أبناء هذه الثقافات ما هو مشترك، وتابعنا ونتابع اليوم هذا الإرث العظيم الذي يفيد منه العالم كله. وفي إطار الفن، وفن الخط العربي تحديداً، فإنه بقدر ما أسهمت الحروف العربية وفن الخط العربي في خدمة تطور فن الخط الفارسي، فإن هذا الأخير قدم خدمات جليلة لفن الخط العربي، في إطار علاقة جدلية وتفاعلية عرفها هذا الفن عبر مسيرته الطويلة، فأنتج العرب وغير العرب، أي المسلمون من أتراك وإيرانيين وباكستانيين وأبناء آسيا الوسطى عموماً، حجماً وأنواعاً من الخطاطين المسلمين الذين شكلوا ثورة في هذا الفن الذي أضافت إليه هذه الثقافات وخطاطوها سمات بارزة ومميزة، وامتزجت الخصائص العربية وغير العربية في التطوير الذي تم على مدى قرون، مثلما أسهم مبدعون آخرون في بناء الثقافة العربية عموما، علماً وشعراً وفناً ونحواً. بل إن الخط العربي الذي أخذ شكله الأول على يد الفنانين العرب، أخذ منذ القرن الرابع عشر الميلادي (القرن الثامن الهجري) يتطور على يد الخطاطين في الأناضول وإيران. والخط الفارسي هو أحد أشكال فن الخط التي تستخدم الحرف العربي وإمكانياته، ويبرز في هذا الإطار خط “النستعليق” الذي يجمع “النسخ” العربي و”التعليق” الفارسي. وخط النسخ العربي هو أحد أوضح الخطوط العربية على الإطلاق كما نعلم، ويستخدم في كتابة المطبوعات اليومية والكتب التعليمية والمصاحف، ودخل اليوم في تصميم المواقع الإلكترونية، ويعتبر أول خط يتعلمه النشء في العالم العربي والإسلامي كونه أسهل الخطوط قراءة وكتابة، ويجمع بين الرصانة والبساطة، ومثلما يدل عليه اسمه فقد كان النساخون يستخدمونه في نسخ الكتب. ظهر الخط الفارسي في بلاد فارس في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). ويسمى (خط التعليق) وهو خط جميل تمتاز حروفه بالدقة والامتداد. كما يمتاز بسهولته ووضوحه وانعدام التعقيد فيه. ولا يتحمّل التشكيل. وعودة إلى جذور الخط الفارسي، يقول لنا المؤرخون “إن الإيرانيين كانوا قبل الإسلام يكتبون بالخط (البهلوي)، فلما جاء الإسلام وآمنوا به، انقلبوا على هذا الخط فأهملوه، وكتبوا بالخط العربي، وقد طوّر الإيرانيون هذا الخط، فاقتبسوا له من جماليات خط النسخ ما جعله سلس القياد، جميل المنظر، لم يسبقهم إلى رسم حروفه أحد، وقد (وضع أصوله وأبعاده الخطاط البارع الشهير مير علي الهراوي التبريزي المتوفى سنة 919 هجرية). ونتيجة لانهماك الإيرانيين في فن الخط الفارسي الذي احتضنوه واختصوا به، فقد مرّ بأطوار مختلفة، ازداد تجذراً وأصالة، واخترعوا منه خطوطاً أخرى مأخوذة عنه، أو هي إن صح التعبير امتداد له، فمن تلك الخطوط: خط الشكستة الذي اخترعوه من خطي التعليق والديواني. وفي هذا الخط شيء من صعوبة القراءة، فبقي بسبب ذلك محصوراً في إيران، ولم يكتب به أحد من خطاطي العرب أو ينتشر بينهم. والثاني هو الخط الفارسي المتناظر الذي كتبوا به الآيات والأشعار والحكم المتناظرة في الكتابة، بحيث ينطبق آخر حرف في الكلمة الأولى مع آخر حرف في الكلمة الأخيرة، وكأنهم يطوون الصفحة من الوسط ويطبعونها على يسارها. ويسمى (خط المرآة الفارسي). والثالث الخط الفارسي المختزل الذي كتب به الخطاطون الإيرانيون اللوحات التي تتشابه حروف كلماتها، بحيث يقرأ الحرف الواحد بأكثر من كلمة، ويقوم بأكثر من دوره في كتابة الحروف الأخرى، ويكتب عوضا عنها. وفي هذا الخط صعوبة كبيرة للخطاط والقارئ على السواء. أما الخط الرابع، فهو (التعليق) الذي من خلال تعالقه مع خط النسخ جاء خط (النستعليق) وهو فارسي أيضاً، وقد برع الخطاط عماد الدين الشيرازي الحسني في هذا الخط وفاق به غيره، ووضع له قاعدة جميلة، تعرف عند الخطاطين باسمه، وهي (قاعدة عماد). وهو كذلك الأسلوب الأكثر شعبية بين الكتابات الكلاسيكية المعاصرة لفن الخط الفارسي ويطلق عليه الخطاطون الفارسيون “عروس مخطوطات فن الخط”. هذا النمط من فن الخط قد تم على أساس هيكل قوي الذي لم يتغير إلا قليلاً منذ ذلك الحين. وجد مير علي التبريزي التكوين الأمثل للحروف والقواعد البيانية لذلك تم ضبطها خلال القرون السبعة الماضية. لديها قواعد صارمة للغاية على شكل رسوم بيانية للحروف ولمزيج من الحروف والكلمات، وتشكيل الخط كله كقطعة واحدة. وفنيا، يعد (التعليق) من أجمل الخطوط التي لها طابع خاص يتميز به عن غيره، إذ يتميز بالرشاقة في حروفه، فتبدو وكأنها تنحدر في اتجاه واحد، وتزيد من جماله الخطوط اللينة والمدورة فيه، لأنها أطوع في الرسم وأكثر مرونة لا سيما إذا رسمت بدقة وأناقة وحسن توزيع، وقد يعمد الخطاط في استعماله إلى الزخرفة للوصول إلى القوة في التعبير بالإفادة من التقويسات والدوائر، فضلًا عن رشاقة الرسم، فقد يربط الفنان بين حروف الكلمة الواحدة والكلمتين ليصل إلى تأليف إطار أو خطوط منحنية وملتفة يُظهر فيها عبقريته في الخيال والإبداع. الخط الفارسي المعاصر نعود إلى عميدي ومعرضه وأعماله، نعود إليه بوصفه صاحب تجربة متميزة في هذا المجال الذي يجمع الخط والتشكيل اللوني. ومما جاء في بيان المعرض “بدأ عشق فريدون عميدي للخط حينما كان يتعلم الخط القديم وهو في المرحلة الثانوية. وخلال عام 2007، استطاع أن يضع الخط القديم في إطار فني من إبداعه، مستخدماً في ذلك الحروف الفارسية. وقد حقّق فريدون نجاحاً كبيراً خلال مسيرته الفنية، وانعكس ذلك في إقامته للعديد من المعارض في مدينة طهران مسقط رأسه، ومجموعة أخرى من صالات العرض في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك اليابان ومدينة فينيسيا الإيطالية وباريس ودبي. يشار إلى أن فريدون يعيش ويعمل حالياً في طهران، ويقوم بالتدريس في جامعة آزاد”. ويتميز عميدي باستخدامه عدداً قليلاً من الحروف العربية مثل الهاء والواو والميم والباء، لما تنطوي عليه هذه الحروف من إمكانيات في التكوينات التي يسعى الفنان لشكيلها، وهذا لا يعني أن النون والسين والطاء والعين وسواها لا تمتلك مثل هذه الإمكانيات، لكن لكل فنان عالمه الذي يسبح فيه. وهذا هو عالم فريدون الذي يهيمن فيه التداخل بين عناصر اللوحة، في معرض لا يزيد عدد لوحاته عن عشر لوحات. بين نوعين من الفنون عميدي يحاول القيام بما يقوم به الخطاطون الإيرانيون اليوم، الذين يستلهمون أعمالهم من الحضارة الفارسية بأبعادها التأملية والفلسفية الجمالية، ويشقون الطريق إلى وجدان المتلقي من خلال تقنيات راحت تتطور حتى أصبحت تعد من أهم الفنون الشرقية، تقنيات تستمد ألقها من روحانيات اشتهرت بها هذه المنطقة من العالم، مستخدمين اللوحة بخطوطها وزخرفاتها ومنمنماتها، في رحلة عبر نوعين من الفنون التي اشتهرت بهما إيران على مر العصور، بعضها يستحضر آيات من الذكر الحكيم والأشعار والأقوال المأثورة لشخصيات ورجال دين وشعراء رحلوا وبقيت أعمالهم خالدة، وبعضها الآخر تحولت فيها الكلمات والزخرفات والمنمنمات إلى لوحات فنية حقيقية تضاهي في جمالياتها حدود الأداء الوظيفي المطلوب من هذين النوعين من الفنون. لكن عميدي يشتغل في منطقة جديدة، بأسلوب جديد متميز، فهو ليس مجرد خطاط، بل إنه لا يقدم لوحة من الخط العربي، وإن كان الخط جزءا أساسيا من عمله، حيث أن عمله يقوم على الجمع بين استخدام الحرف العربي وبين اللوحة التشكيلية في خلفية الحروف، لكنه لا يبلغ مرحلة اللوحة الحروفية، فهو يقدم عملاً يقف بين التخطيط والحروفية، ولا تجد في لوحته عبارة واحدة، بل حروفا وتكراراً لهذه الحروف في صور متقاربة ومتشابهة ومتداخلة. تتحول الحروف في لوحة الفنان عميدي إلى عنصر جمالي يرتقي إلى العنصر الأول، لكن التحديق في اللوحة، يبرز وجود عنصر آخر في هذه اللوحة، هو التكوينات التي تكاد تبرز وجود تجسيدات لونية، تجسيدات شبه هلامية، لكنها تبقى مجرد خلفية للعمل كله. وهذه التجربة الفنية من التجارب الفنية القليلة في الفن الإيراني التي تمزج التشكيل باللون والحرف، إضافة إلى تقنية الكولاج التي يلجأ إليها الفنان لإعطاء اللوحة بعداً زمنياً يحيل إلى مرور الزمن. ومن خلال هذا المزيج الفني المركب، تبرز إمكانات الفنان في تقديم رؤيته الخاصة إلى عناصر اللوحة، ووظيفة كل عنصر في خدمة هذه الرؤية. ولوحة عميدي الزيتية، تعتمد بداية الحرف في تكوين حروفي يقوم على امتدادات هذا الحرف وإمكانات التلاعب به في حركاته التي يتيحها. فالفنان يلجأ إلى الاستفادة من هذه الحركات، ليضعها في سياق العمل ككل، لكن كل حرف في اللوحة يكتسب قيمته الفنية بصيغة مفردة، ولهذا فالعمل الفني هنا يتكون من “ثيمات” أساسية قائمة بذاتها، كما أنها تتشكل مع غيرها لتكوين هذا العمل. واللوحات الكبيرة التي تعتمد ألوانا قاتمة على الأغلب، يبدو فيها اللون جزءاً من اللعبة الفنية وليس خارجاً عنها. فتكوينات حرف الهاء العربي بما ينطوي عليه من قدرة على الحركة، تميل إلى اللون الأسود والرمادي، بينما يتخذ حرف الباء لونا فاتحا أقرب إلى الأصفر (البيج)، وتحيل تكويناته إلى كلمة الحب رغم أن ذلك مجرد إيحاء، وكذلك يميل تكرار حرف الواو بالرأس المرنة إلى السواد في فضاء من البياض. وفي أعماله الفنية نلمح استخدامه للخط الفارسي بشكل متكرر، كما نلمس أسلوبه في تطويع حيز وحجم الحروف، وهو ما يفضي إلى إيجاد حركات إيقاعية راقصة. وبالرغم من ذلك، فإن الهدف العام لا ينصب على تركيب مضمون ذي معنى، ففي بعض الأحيان لا نجد أياً من ذلك. لكن الحس الروحاني يمكن أن يبرز في صورة واضحة ضمن رؤيتنا وتأملنا في أعماله. ولعله الطابع الصوفي هو الذي يمكن أن يشعر به المتأمل في أبعاد اللوحة وسطحها الخشن الملمس.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©